“القدس مركز متقدم تكنولوجيًا ذو أغلبية يهودية، تؤمه أفواج من السياح، وتقطنه قلة فلسطينية”، هذه هي رؤية الاحتلال الإسرائيلي للقدس عام 2050، ما يعني إعادة هندسة معمار المدينة واقتصاداتها وضم ثابت للمستوطنات وعزل الأحياء الفلسطينية عن بعضها وتفكيكها لتتحول من إعمار مقاوم إلى إعمار عابر، وفق انهيار اقتصادي مدبر للقدس الشرقية يجعلها الاحتلال الإسرائيلي مدينة غير صالحة لعيش الفلسطينيين وضمان سيطرة اليهود عليها، وانتقالهم من هامش المدينة إلى المركز، ونرصد هنا بعض مؤشرات الإفقار المتعمد ضد الفلسطينيين في القدس.
التغيرات بقطاع السياحة في القدس الشرقية بالنسبة للفلسطينيين
كانت السياحة أقوى قطاع في اقتصاد القدس الشرقية التي تعتمد على مواسم الحجيج لدى المسلمين والمسيحيين، حيث بلغت نسبة مساهمته في الناتج الإجمالي للضفة الغربية سنة 1966 نحو 14% وفق تقرير “الأونكتاد 2013″، وتراجعت الغرف الفندقية في القدس الشرقية من 60% عام 1968 إلى 40% عام 1979، حتى وصلت نسبة السياح المقيمين في فنادق القدس الشرقية عام 2013 إلى 12% مقابل 88% في فنادق القدس الغربية التي يسيطر عليها الاحتلال الإسرائيلي بالكامل، وتقلص عدد فنادق القدس من 34 فندقًا عام 2009 إلى 20 فندقًا منتصف 2016.
منذ الانتفاضة الأولى 1987 حتى اليوم أعاق الاحتلال الإسرائيلي أي تقدم لاقتصاد القدس الشرقية التي يسكنها الفلسطينيون بشكل أساسي، ففرض الاحتلال حظر دائم للتجول وضرائب عالية، ثم أتبعها عام 2002 ببناء جدار الفصل العنصري الذي عزل أحياء المدينة عن باقي مدن الضفة الغربية والقدس الغربية، ما أدى لتدمير القطاع السياحي فيها بشكل خاص، ثم فرض الاحتلال الإسرائيلي إجراءات قانونية مرهقة بتكاليف مالية عالية لترخيص بناء الفنادق أو تحويل المباني القائمة إلى فنادق عبر فرض ضرائب بلدية عالية، مقابل تطوير كل أشكال الإعمار في القدس الغربية لتحويلها إلى مزار بديل وجديد للسياح وبدء صناعة سياحة الاحتلال الإسرائيلي الخاص بالمدينة.
فرض الضرائب على المقدسيين لإجبارهم على الرحيل
على مدار سنوات طويلة بدأت بلدية القدس التابعة للاحتلال الإسرائيلي بفرض ضرائب ثقيلة في مخطط خنق النشاط التجاري الفلسطيني في المدينة المقدسة، ويُلزم الفلسطينيون هناك بدفع ست ضرائب هي “الأرنونا أو ضريبة المسقفات وضريبة القيمة المضافة وضريبة الدخل ورسوم التأمين الوطني وضريبة الرواتب وضريبة الترخيص”، ويعجز التجار الفلسطينيون عند دفع هذا الكم من الضرائب مما يضطرهم للاستدانة، وبعد تراكم الديون الكبيرة يعمل تجار يهود على شراء المحلات التجارية منهم أو السلطات بإغلاقها.
تتضمن صناعة الفقر في القدس الشرقية بعدين أساسيين إما هجرة المقدسيين منها لحياة أفضل وإحلال اليهود مكانهم
يصف المقدسي عايد العجلوني الذي يملك متجرًا للقطع الأثرية في المدينة حالة شوارع القدس اليومية قائلًا: “يبدو الأمر وكأن شرطة الاحتلال الإسرائيلي بصحبة الجيش تأتي كل يوم لإعادة احتلال المدينة، أنا الآن مدين لبلدية القدس بمبلغ 68 ألف دولار كضرائب، لدي هذا العمل فقط ولا يوجد عمل آخر أنا مجهد من كثرة الضرائب، أجيبوني هل القدس تنتمي إلينا؟ من المسؤول عن القدس؟”.
ويعيش في القدس الشرقية 323 ألف فلسطيني يشكلون ما نسبته 37% من سكان القدس، لديهم صفة سكان مقيمون دائمون في “إسرائيل” وليسوا مواطنين، وسلبت الداخلية “الإسرائيلية” مكانة مقيم من 14.595 فلسطيني من القدس، ويعيش نحو 140 ألف فلسطيني في الأحياء المقدسية التي ظلت خلف الجدار، يسكن منهم 80 ألف في مخيم شعفاط والأحياء المجاورة له (راس خميس وراس شحادة وحي السلام”، و60 ألف مقدسي يسكن في حي كفر عقب الواقع شمالي حاجز قلنديا.
صناعة الفقر في القدس الشرقية
تتضمن صناعة الفقر في القدس الشرقية بعدين أساسيين إما هجرة المقدسيين منها لحياة أفضل وإحلال اليهود مكانهم، أو القبول بسياسات الاحتلال الإسرائيلي الجديدة التي تخفف من التكتلات السكانية وعدم منح تراخيص البناء والانصياع للشروط الإسرائيلية لمن ليس لديه بدائل، لكن المقدسيين يعلمون تمامًا أن بقاءهم في القدس ليس بقاءً رفاهيًا بقدر ما هو وجودي ومصيري لطبيعة الصراع الفلسطيني مع الاحتلال الإسرائيلي، وكحالة مقدسة فهم الحصن المنيع الأول في وجه الاحتلال في المدينة المقدسة والمعارض لسياسات التهويد فيها.
ليس الجدار العازل وحده فحسب الذي استخدمه الاحتلال الإسرائيلي لإعادة تشكيل الحالة الديمغرافية في المدينة المقدسة لضمان غالبية اليهود فيها، بل أيضًا تفعيل حدود القدس السياسية التي يفرضها الاحتلال بحكم الواقع
وبمقارنة بسيطة بين نسبة الفقر في القدس الشرقية وباقي المناطق الفلسطينية المحتلة إسرائيليًا، فقد بلغ الفقر ما نسبته 76% في القدس الشرقية، في حين أن 83.4% من الأطفال المقدسيين يعيشون تحت خط الفقر لعام 2015 أما داخل الكيان الإسرائيلي بلغت نسبة من يعيش تحت خط الفقر من مجمل سكان “إسرائيل” 21.7% وتبلغ بين الأطفال ما نسبته 30%، إذًا هناك حالة إفقار متعمدة لساكني القدس من الفلسطينيين.
ونتيجة الضريبة قل المدخول على العائلات الفلسطينية في القدس الشرقية، وارتفعت معه نسبة الفقر بسبب الجدار العازل الذي قطع أوصال القدس الشرقية وعزلها عن الضفة الغربية من 68% في عام 2009 إلى 77% عام 2010.
تحويل الإعمار الفلسطيني المقاوم إلى عابر في القدس
يسعى الاحتلال الإسرائيلي لتحويل القدس إلى مركز تجاري يجذب اليهود إليه من كل أنحاء العالم، ويؤمّن للموجودين منهم فرص عمل، وتنتشر المشاكل في القدس الشرقية التي يسكنها الفلسطينيون بداية من انكماش في قطاع الأعمال والتجارة الفلسطينية وضعف متعمد في البنى التحتية وضعف في قطاع التعليم وخلق أزمة هوية لدى الشباب المقدسي بعزلهم عن باقي الأراضي الفلسطينية وخلق حالة من الفراغ القيادي والمؤسسي في المدينة.
ليس الجدار العازل وحده فحسب الذي استخدمه الاحتلال الإسرائيلي لإعادة تشكيل الحالة الديمغرافية في المدينة المقدسة لضمان غالبية اليهود فيها، بل أيضًا تفعيل حدود القدس السياسية التي يفرضها الاحتلال بحكم الواقع، ويظهر التخطيط الحضري في خطة الاحتلال الإسرائيلي للقدس التي يسعى لتحويلها لأكبر مدينة “إسرائيلية” كأداة جيوسياسية إستراتيجية رئيسية عبر توسيع الاستيطان في المستوطنات اليهودية في القدس الشرقية، والحد من هجرة اليهود السلبية، إضافة لعمل توسعات مهمة في شوارع القدس الشرقية كتجمعات سكنية كبيرة قد تنفجر في وجه اليهود في أي لحظة معتمدة على هدم بيوت الفلسطينيين وإجبارهم على رخص البناء ومنعهم من الحصول عليها، فتوسعة الشوارع هي لهدف السيطرة على أي هبات شعبية مستقبلية في المدينة، وحالة الإفقار لإفقاد عنصر القوة لدى الفلسطيني المقدسي.
لن تتوقف مخططات الاحتلال الإسرائيلي في محاولة تفريع المدينة المقدسة من محتواها الاقتصادي الخاص بالفلسطينيين، وخلق حالة تابعة للاقتصاد الإسرائيلي، ومحاولات تهجير الفلسطينيين منها باستخدام الإفقار والضرائب وضرب قطاع السياحة
تتضمن خطة الاحتلال الإسرائيلي لعام 2020 إعادة هندسة كل الأراضي الفلسطينية المحتلة بما فيها القدس بعد ربط مستوطنات القدس بالمستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية وتل أبيب جغرافيًا واقتصاديًا واجتماعيًا.
ورغم أن الخطة في ظاهرها معنية بالتنمية في المناطق الفلسطينية على قدم المساواة إلا أنها غير ذلك واقعيًا، فهي لا تراعي معدل النمو الفلسطيني في القدس الشرقية، وتخصص مساحة 2.300 دونم فقط للإعمار الفلسطيني مقابل 9.500 دونم لليهود الإسرائيليين، ومعظم المناطق المقترحة للبناء الفلسطيني تقع في مخيم شعفاط للاجئين داخل حدود بلدية القدس التي رسمها الاحتلال الإسرائيلي، وفي المناطق الشمالية والجنوبية من القدس الشرقية، وليس في البلدة القديمة التي ترافق الحرم القدسي حيث فيها تشتد أزمة السكن الفلسطينية وكذلك يزداد الاستيطان الصهيوني.
ختامًا لن تتوقف مخططات الاحتلال الإسرائيلي في محاولة تفريع المدينة المقدسة من محتواها الاقتصادي الخاص بالفلسطينيين، وخلق حالة تابعة للاقتصاد الإسرائيلي، ومحاولات تهجير الفلسطينيين منها باستخدام الإفقار والضرائب وضرب قطاع السياحة كبنية أساسية، في محاولة لإفراغ المدينة من ساكنيها الفلسطينيين، وإفراغ الانتماء السياسي للفلسطينيين المتبقين في المدينة.