خلال العقدين الأخيرين، تحولت الصين من مجرد مستثمر صغير في إفريقيا إلى لاعب أساسي متحكم في القارة السمراء بفضل استثماراتها الكبرى وصورتها الجيدة لدى الأفارقة (السياسة الناعمة)، فضلاً عن استغلالها تراجع قوة العديد من الدول في المنطقة خاصة الولايات المتحدة الأمريكية التي فضلت تجنب الدخول في مغامرات لا تعرف عواقبها بعد ارتفاع التوترات السياسية والنزاعات المسلحة في القارة.
جهود الصين الشعبية المتواصلة لمزيد من التحكم في القارة الإفريقية، تظهر من خلال احتضانها لقادة الدول الإفريقية وكبرى الشركات هناك، في العاصمة بكين، ضمن أشغال منتدى التعاون “الصين – إفريقيا” (فوكاك) الذي بدأت فعالياته اليوم ويستمر لمدة يومين.
أكثر من 30 رئيس دولة إفريقية يشاركون في قمة الصين
هذا المنتدى الذي جاء في ظل توسع الحضور التجاري والاستثماري الصيني بهذه القارة، يشارك فيه أكثر من 30 رئيس دولة إفريقية، أبرزهم الرئيس الجنوب الإفريقي سيريل رامافوزا والرئيس النيجيري محمد بخاري والأنغولي جوا لورينسو (شركائها التجاريين الثلاث الأكبر في إفريقيا)، فضلاً عن عدد من رؤساء الحكومات الإفريقية ووزراء خارجية بعض الدول والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش.
وتتغيب عن هذه القمة، فقط مملكة إي سواتيني التي كانت تعرف سابقًا باسم مملكة سوازيلاند، وهي الحليفة الأخيرة في إفريقيا لتايوان (الجزيرة التي تعتبرها الصين جزءًا لا يتجزأ من أراضيها)، فلم يتم دعوتها إلى المنتدى، ولتايوان، علاقات رسمية الآن مع 17 دولة فقط أغلبها دول صغيرة ونامية في أمريكا الوسطى ومنطقة المحيط الهادي بما في ذلك بيليز وناورو.
من هذا العدد، يتبين أن جميع الدول الإفريقية الـ53 التي تقيم علاقات دبلوماسية مع الصين أرسلت ممثلين عنها للمشاركة في المؤتمر، وهو ما يؤكد متانة العلاقات بين الطرفين، إذ قليلاً ما يشارك القادة الأفارقة في مؤتمراتهم الإقليمية.
يعتبر المنتدى الصيني الإفريقي “فوكاك” أحد أبرز الوسائل والآليات التي تعتمدها الصين من أجل تنسيق وتنفيذ الأهداف التي وُضعت لدول قارة إفريقيا
سبق أن أعلنت الصين مشاركة 1069 ممثلاً إفريقيًا عن أكثر من 600 شركة ومجموعة أعمال ومؤسسة بحثية في فعاليات مؤتمر مديري الأعمال الصينيين والإفريقيين، المعروف رسميًا باسم “الحوار رفيع المستوى بين القادة وممثلي الأعمال الصينيين والأفارقة”، وهو ما يمثل أكثر من نصف العدد الإجمالي للمشاركين.
وتغطي هذه الشركات، القطاعات التقليدية، كالطاقة والمالية والزراعة والتصنيع والبنية الأساسية، وصناعات ناشئة منها الإنترنت والتجارة الإلكترونية، إلى جانب قطاعات أخرى واعدة، تعول عليها الصين كثيرًا لمزيد من بسط نفوذها في القارة.
ويعتبر المنتدى الصيني الإفريقي “فوكاك” الذي بدأ عام 2000، كتجمع للقادة الصينيين والأفارقة، ويقام كل ثلاث سنوات، وتشارك فيه مؤسسات متعددة وقادة اقتصاديون، أحد أبرز الوسائل والآليات التي تعتمدها الصين من أجل تنسيق وتنفيذ الأهداف التي وُضعت لدول قارة إفريقيا.
تفعيل “طريق الحرير” أبرز الأهداف
من المتوقع أن تحتل مسألة الاستثمار موقعًا متقدمًا في القمة الصينية الإفريقية، ذلك أن الصين ترى في الاستثمارات الكبرى أبرز وسيلة لدعم نفوذها ومكانتها في القارة الإفريقية وإزاحة منافسيها التقليديين عن طريقها.
الرئيس الصيني: نحن ندعم الدول الإفريقية في بناء الحزام والطريق معا لتقاسم النتائج المربحة مع الجميع
أبرز هذه الاستثمارات، ما تضمنته المبادرة التي طرحها الرئيس الصيني باسم “الحزام والطريق” وتستهدف التعاون والتشارك بين الصين والدول الواقعة في نطاق المبادرة وفقًا لمبدأ الجميع يكسب، وتتضمن إنفاق الصين مليارات الدولارات عن طريق استثمارات في البنى التحتية على طول طريق الحرير الذي يربطها بالقارة الأوروبية، تتضمن فرعين رئيسيين وهما: “حزام طريق الحرير الاقتصادي البري” و”طريق الحرير البحري”.
إفريقيا جزء مهم من هذه المبادرة، وسبق أن تعهدت الصين الشعبية باستثمار 126 مليار دولار لتنفيذ الخطة في جميع المناطق التي تشملها، وذلك للارتقاء بالعلاقات الاقتصادية بين الصين وباقي دول العالم إلى مستوى أعلى وتعزيز الشراكة الإستراتيجية بينهم.
في هذا الشأن، قال الرئيس الصيني شي جين بينغ، في خطاب ألقاه اليوم خلال بدأ القمة، إن الصين تدعم الدول الإفريقية في بناء الحزام والطريق معا لتقاسم النتائج المربحة للجميع. وذكر شي في خطابه الرئيسي خلال الحوار، أن الصين تقف على أهبة الاستعداد لتعزيز التعاون الشامل مع الدول الأفريقية لبناء طريق للتنمية عالية الجودة التي تناسب الظروف الوطنية والشاملة والمفيدة للجميع.
تستثمر الصين في البنية التحتية للدول الإفريقية
قبل بدء فعاليات المنتدى، قال مدير المجلس الصيني لتعزيز التجارة الدولية جيانغ تسنغوي: “التعاون الصيني – الإفريقي في مجال التصنيع والتجارة والبنية الأساسية سيكون أحد أبرز المواضيع خلال الملتقى”، وأكد جيانغ تسنغوي أن التصنيع شرط مسبق ونقطة جوهرية للدول الإفريقية لخلق فرص عمل والحد من الفقر وتحسين مستويات المعيشة، ومن ثم تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة، لافتًا إلى أن الاستثمار الصيني سيساعد القارة على الارتقاء بالصناعة وتعزيز قدرات النمو المحلية.
وتسعى الصين إلى تحقيق مجموعة من الأهداف في القارة الإفريقية، منها محاولة السيطرة على الموارد الهيدروكربونية والمعدنية والباطنية الموجودة بكثرة في القارة، باعتبارها تمثل المستقبل، فمختلف الدراسات تثبت أن القارة السمراء في القرن المقبل لن تصبح إفريقيا التخلف في ظل وجود عدة دول تحقق نسب عالية من النمو هناك.
الصين تتقدم على أمريكا نحو إفريقيا
تبحث الصين من خلال هذا المنتدى الذي جاء في خضم الحرب التجارية بينها وأمريكا، إلى استغلال الفراغ الموجود في القارة، ذلك أن سياسات دونالد ترامب المهملة لإفريقيا فتحت الباب الواسع أمام الصين نحو هذه القارة.
لئن تحسنت العلاقات الأمريكية الإفريقية قليلاً في عهد الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما المولود لأب كيني، الذي زار القارة بعد ستة أشهر من توليه منصب الرئاسة، حاملاً رسالة قوية إلى الأفارقة تدعوهم إلى تولي أمر مصيرهم بأنفسهم، فقد عرفت هذه العلاقات تراجعًا ملحوظًا مع تولي الرئيس الحاليّ دونالد ترامب سدة الحكم في 20 من يناير 2017.
تخشى الولايات المتحدة الأمريكية من تنامي الدور الصيني في القارة الإفريقية، وهو ما يمكن أن يفقدها مكانتها هناك إلى الأبد
من تجليات عدم اهتمام الإدارة الأمريكية الجديدة بالقارة الإفريقية، توجه الأمريكان إلى تقليص حجم المساعدات المقدمة للبلدان الإفريقية، وتبرر إدارة الرئيس ترامب ذلك بسعيها لاعتماد مبدأ تعزيز التجارة والاستثمارات في إفريقيا بدلاً من سياسة المساعدات والمعونات التي اعتمدت في السابق.
وقد كانت المساعدات الأمريكية لإفريقيا محور خلاف بين الرئيس دونالد ترامب وعدد من المسؤولين بالولايات المتحدة، بعد مقترح الإدارة بتقليص هذه المساعدات، حيث حذر بعض المسؤولين من أن ذلك يشكل خطرًا على المصالح الحيوية الأمريكية في إفريقيا، ويفسح المجال أمام لاعبين آخرين لتعزيز علاقاتهم الاقتصادية والسياسية على الساحة الإفريقية.
ويصف مسؤولون كبار في الإدارة الأمريكية الاستثمارات الصينية في القارة بأنها “تشجع على الاعتماد على الغير“، فيما يقولون إن مساعيهم تهدف إلى الترويج “للنمو المستدام”، غير أنهم لم يتمكنوا من الحفاظ على مكانتهم الأولى هناك، بعد أن أزاحتهم الصين قبل سنوات.
مخاوف أمريكية
تخشى الولايات المتحدة الأمريكية من تنامي الدور الصيني في القارة الإفريقية، وهو ما يمكن أن يفقدها مكانتها هناك إلى الأبد، فحتى المساعي التي قام بها وزير الخارجية الأمريكي السابق ريكس تيلرسون في مارس/آذار السابق لم يجد نفعًا.
تعتبر الصين الشريك التجاري الأول للدول الإفريقية خلال السنوات الأخيرة بفضل استثماراتها المنتشرة في أغلب الدول الإفريقية، واعتمادها سياسة المصالح المتبادلة وعدم التدخل في شؤون الآخرين
وسبق أن عبر الأمريكان عن مخاوفهم من النفوذ العسكري في إفريقيا، فقد حذَرت المخابرات الأمريكية في سبتمبر 2017 من أن أول قاعدة عسكرية خارجية للصين – في دوراليه بدولة جيبوتي في شرق إفريقيا – قد تكون الأولى التي سيتبعها العديد من نوعها، وترى واشنطن أن هذه المساعي العسكرية الصينية من شأنها أن تخلق مناطق جديدة من المصالح الأمنية المتداخلة والمتضاربة المحتملة بين الصين والولايات المتحدة.
تخشى أمريكا من تنامي الوجود العسكري الصيني في إفريقيا
يقول زعماء أفارقة إن الرئيس دونالد ترامب قد أهملهم وأطنب في إهانتهم، فقد سبق أن وصف في اجتماع مع أعضاء الكونغرس من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، البلدان الإفريقية ودولاً أخرى بـ”الحثالة“.
وتستغل بكين خصومتها التجارية مع واشنطن للترويج لسياسة تدعو إلى القطع مع “النزعة الانفرادية” في المجال التجاري التي تتبناها الولايات المتحدة الأمريكية، فالصين باتت تلعب على الهوة المتزايدة بين إفريقيا وأمريكا، وتحاول اقتناص الفرص التي تتاح لها من تصدع علاقات إدارة ترامب بالقارة الإفريقية.
الصين ترسخ صدارتها
تعتبر الصين الشريك التجاري الأول للدول الإفريقية خلال السنوات الأخيرة بفضل استثماراتها المنتشرة في أغلب الدول الإفريقية، واعتمادها سياسة المصالح المتبادلة وعدم التدخل في شؤون الآخرين وخلو تاريخها في المنطقة من الجانب الاستعماري.
على عكس الولايات المتحدة في التعامل مع دول إفريقيا تبنت الصين سياسة القروض الميسرة والمساعدات غير المشروطة بحقوق الإنسان أو الحريات وغيرها من الشروط التي تضعها الدول الغربية عادة في هذا الصدد وقد بلغ حجم التبادل التجاري بين الصين وإفريقيا عام 2017، أكثر من 170 مليار دولار بعد أن كان 765 مليون دولار عام 1978، بزيادة 14.1% سنويًا.
وازدادت واردات الصين من إفريقيا بنسبة 33% على أساس سنوي في العام الماضي، لتصل قيمة الواردات إلى 75.3 مليار دولار أمريكي، أما صادراتها فارتفعت بنسبة 3% على أساس سنوي لتصل قيمتها إلى 94.7 مليار دولار أمريكي.
هذا الدور الكبير للصين في القارة الإفريقية لم يكن ليكون لولا استغلالها الجيد لحاجة الأفارقة لمن يدعمهم دون أن يتدخل في شؤونهم الداخلية
إلى جانب ذلك، بلغت قيمة الاستثمارات المباشرة من المؤسسات الصينية إلى القطاع غير المالي في إفريقيا في الفترة ما بين يناير وديسمبر عام 2017، 3.1 مليار دولار أمريكي، ووقعت الصين في نفس الفترة عقودًا جديدة لمقاولة المشاريع بقيمة 76.5 مليار دولار أمريكي، وأنجزت أعمال بقيمة 51.2 مليار دولار أمريكي.
وشيدت الشركات الصينية، الكثير من الطرق السريعة وخطوط السكك الحديدية والموانئ والمطارات ومرافق الاتصالات، ما ساهم بشكل كبير في تحسين بيئة التنمية الاقتصادية لإفريقيا وساعدها على جذب الاستثمارات الأجنبية إليها.
وتمسك الآن شركات صينية بزمام المبادرة في مجال التنقيب عن النفط الإفريقي خاصة بالكونغو ونيجيريا والسودان، كما أن بعض هذه الشركات أصبح يشكل امتدادًا أخطبوطيًا بدول القارة النفطية، وتعتبر الصين ثاني مستهلك عالمي للبترول عالميًا، وهي اليوم تحصل على ثلث احتياجاتها النفطية من إفريقيا.
دوافع عديدة
هذا الاهتمام الصيني المكثف بإفريقيا، يعكس نظرتها إلى القارة باعتبارها سوقًا ضخمة للمنتجات الصينية، حيث يتوقع أن تمثل إفريقيا بحلول العام 2030 نحو ربع القوى العاملة والمستهلكين في العالم، ويبلغ عدد سكانها حاليًّا أكثر من 1.7 مليار نسمة، وبحلول العام 2050 من المتوقع أن يتضاعف عدد سكان القارة إلى أكثر من 2.5 مليار شخص وتقل أعمار 70% من هؤلاء السكان عن 30 عامًا.
وتسعى بكين أيضًا إلى الوصول للمواد الأولية والمنتجات الفلاحية التي تشكو الصين من نقص كبير فيها، ولذلك، فهي تعمد هنا إما إلى اقتناء المقاولات المستخرجة لهذه الموارد، أو تستخلص رُخصًا لاستغلال الأراضي والغابات، مع العمل على ضمان تغطية تكاليف هذه الموارد، ببيع إفريقيا كميات ضخمة من السلع المصنعة أو السلع الاستهلاكية بأثمان زهيدة للغاية.
لا تتدخّل الصين في مجال حقوق الإنسان في إفريقيا
إلى جانب المصالح الاقتصادية فإن القارة الإفريقية تمثل أهمية دبلوماسية كبرى بالنسبة للصين، ذلك أن بكين تبحث عن خلق تحالف دولي يساعد في عودة جزيرة تايوان “المتمردة” إلى أحضان الوطن الأم، بعد أن تزيد في إحكام الخناق حولها.
كما الصين دورًا كبيرًا بالنسبة للأفارقة في الأمم المتحدة، وهي العضو الدائم العضوية في مجلس الأمن وتملك حق الفيتو مما يساعدها على الدفاع عن حلفائها من الدول الإفريقية، حتى تضمن مساندتهم في قضية جزيرة تايوان.
هذا الدور الكبير للصين في القارة الإفريقية لم يكن ليكون لولا استغلالها الجيد لحاجة الأفارقة لمن يدعمهم دون أن يتدخل في شؤونهم الداخلية، فقد أحسنت الصين تعويض الدبلوماسية المتلكئة والمعونات المشروطة التي لطالما ميزت سلوك الدول الغربية، وحالت لعقود طويلة من الزمن، دون تمكين إفريقيا من بدائل تفسح لها المجال للنهوض والنمو.