بعد عقود عدّة من الانتظار، جاء الاعتراف وتجرّأ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على قول ما لم يقله سابقيه في قصر الإليزيه، فقد أقرّ الرئيس الشاب بأن بلاده، مارست التعذيب خلال سنوات الحرب في الجزائر، التي امتدت من عام 1954 إلى العام 1962. فماهي تداعيات هذا الأمر خاصة وأن مخلفات الاستعمار مازال تلقي بظلالها على العلاقات بين البلدين.
نظام تعذيب
هذا الاعتراف جاء خلال زيارة ماكرون ظهر الخميس منزل الشيوعي الفرنسي موريس أودان الذي قُتل سنة 1957، بحي “بانيوليه” في ضاحية باريس حيث سلم لزوجته جوزيت (87 سنة) وولديها بيانًا أكد فيه “أن فرنسا أقامت خلال حرب الجزائر نظاما أستخدم فيه التعذيب وأدى خصوصًا إلى وفاة المعارض الشيوعي موريس أودان، حسب ما ذكره الإليزيه”.
وقال ماكرون :”من المهم أن تُعرف هذه القصة، وأن يُنظر إليها بشجاعة وجلاء، هذا مهم من أجل طمأنينة وصفاء نفس أولئك الذين سببت لهم الألم في الجزائر وفي فرنسا على حد سواء”، ويتحدّث ماكرون هنا عن قصة موت موريس أودان الشيوعي المؤيد لاستقلال الجزائر الذي فُقد أثره بعد اعتقاله عام 1957.
ووعد ماكرون كذلك بـ”فتح الأرشيف المتعلق بقضايا اختفاء مدنيين وعسكريين من فرنسيين وجزائريين” خلال الحرب التي لا تزال أحد الملفات الأكثر إثارة للجدل في تاريخ فرنسا الحديث ونظراً لما لذلك من أثر على العلاقات الوثيقة والمعقدة القائمة بين فرنسا والجزائر.
فتح نظام الرئيس الأسبق جاك شيراك سلسلة الاعترافات سنة 1998، حيث اعترف السفير الفرنسي بالجزائر حينها بمجازر سطيف التي وقعت سنة 1945
قصر الإليزيه، أفاد قبل الزيارة أن الإعلان يقر بأن أودان “توفي تحت التعذيب الذي نشأ عن نظام وُجد عندما كانت الجزائر جزءاً من فرنسا“. وأكد الرئيس ماكرون أنه “على الرغم من أن مقتل موريس أودان كان فعلا منفردا قام به البعض، إلا أن ذلك وقع في إطار نظام قانوني وشرعي”.
تحول موريس أودان إلى رمز للمناضلين في القضية الجزائرية، الذين تم تعذيبهم للحصول على معلومات أو لدفعهم لنكران القضية الجزائرية والانضمام إلى للجانب الفرنسي. وقد كانت هناك مطالبات كثيرة من العائلة ومنظمات حقوقية طيلة السنوات التي اعقبت وفاته لكشف حقيقة ما حدث، خاصة وأن الرواية الرسمية كانت تقول إن أودان فر خلال عملية نقله، واستمر تبني هذه الرواية الرسمية حتى أكد الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا هولاند، في 2014، أن “أودان لم يفر بل قضى خلال اعتقاله”.
ماكرون يتجاوز المحظور
بهذا الاعتراف تجاوز ماكرون إحدى أبرز المسائل المحظورة في الرواية الرسمية للأحداث التاريخية في فرنسا، ويعتبر هذا وفقا لمحللين خطوة تاريخية فهي المرة الأولى التي تعترف فيها فرنسا كسلطة بأن هناك نظام تعذيب من قبل عسكريين فرنسيين خلال حرب التحرير في الجزائر.
هذا الاعتراف، ينسجم مع مواقف وتصريحات سابقة أعلن عنها ماكرون صراحة قبل وصوله كرسي الرئاسة، فقد سبق له أن قال خلال زيارته للجزائر، أثناء حملته الانتخابية في فبراير 2017، “إن الاستعمار جزء من التاريخ الفرنسي، إنه جريمة، جريمة ضد الإنسانية، إنه وحشية حقيقية وهو جزء من هذا الماضي الذي يجب أن نواجهه بتقديم الاعتذار لمن ارتكبنا بحقهم هذه الممارسات“.
عدم فتح هذا الملف بكل شفافية هو المسؤول على زرع الشكوك التي تعطل إمكانية صنع بنية متينة في العلاقات بين البلدين
ماكرون إلى جانب زوجة موريس أودان يقدم الاعتذار
في تصريحات صحفية أخرى قال ماكرون إن زيارته إلى الجزائر ضرورية “لندرك في كل لحظة حجم ثقل الماضي ولاعتماد خطاب تفاهمي بشأن أهمية المستقبل”، وبسؤاله عن الماضي المؤلم بين البلدين دعا إلى ضرورة “التجاوز من أجل بناء مستقبل“.
وفتح نظام الرئيس الأسبق جاك شيراك سلسلة الاعترافات سنة 1998، حيث اعترف السفير الفرنسي بالجزائر حينها بمجازر سطيف التي وقعت سنة 1945، وتواصلت الاعترافات مع فرنسوا هولاند الذي أقر بقمع تظاهرات تشرين الأول/أكتوبر 1961 في باريس وكذلك بقساوة النظام الاستعماري، عام 2012“، إلا أن جميعها كانت اعترافات بأحداث فردية عكس ما ذهب إليه ماكرون في هذا الاعتراف.
واقعية سياسية
أكّد هذا الاعتراف، الواقعية السياسية التي يتعامل بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع القضايا الخارجية، خاصة فيما يتعلق بالعلاقات مع الجزائر، فهذا الملف أساسي في تطور العلاقات بين الطرفين. ولا يمكن الذهاب أبعد في العلاقات ما لم يتم كسر هذا الحاجز.
وتعتبر الذاكرة من النقاط البارزة التي ما فتئت تعكر صفو العلاقات الجزائرية الفرنسية نظرًا لعدم نسيان الجزائريين للجرائم الاستعمارية المقترفة في بلادهم خلال حقبة قرن ونصف من الاستعمار، كما أن فرنسا تخشى توجه السلطات الجزائرية بضغط من المجتمع المدني إلى تجريم الاستعمار الفرنسي وما ينجر عنه من تبعات قانونية على فرنسا، لكنه هذا يبقى غير مطروح عند صناع القرار في الجزائر حاليًا.
من المنتظر أن يفتح هذا الاعتراف أبوابًا قانونية جديدة أمام باريس، حيث سيجدّد الجزائريون مطالبتهم فرنسا بالاعتذار الرسمي عن جرائهم ودفع تعويضات لأهالي المتضررين
إن عدم فتح هذا الملف بكل شفافية هو المسؤول على زرع الشكوك التي تعطل إمكانية صنع بنية متينة في العلاقات بين البلدين، وأنه السبب المباشر في إبقائها تدور داخل المنطقة الرمادية القابلة للتعتيم في أيّ لحظة، وفي شلّ محاولات الانتقال بها إلى فضاء الشراكة الثنائية المستدامة في الميادين الحيوية مثل التصنيع والثقافة والتعليم والتنسيق السياسي.
يذكر أنّ الحكومة الجزائرية، قد رحّبت بهذا التطور ورأت فيه “خطوة إيجابية يجب تثمينها”. وقال وزير المجاهدين الطيب زيتوني إن فرنسا والجزائر سيعالجان ملف الذاكرة بحكمة، على حد تعبيره. ولم يسبق أن اعترفت الدولة الفرنسية بأن قواتها استخدمت التعذيب بصورة منتظمة خلال الحرب.
في انتظار الاعتذار الرسمي
رغم أهمية هذا الاعتراف، فإنه لا يكفي بالنسبة الجزائريين، فهم يريدون اعتذار فرنسا عن جرائمها في بلادهم التي امتدت لأكثر من 130 سنة. واستعمرت فرنسا الجزائر منذ 1830 وحتى سنة 1962 عندما نالت استقلالها، بعد حرب تحرير استمرت ثماني سنوات لا تزال تلقي بظلالها على العلاقات بين البلدين حتى اليوم.
وما فتئت فرنسا ترفض الاعتذار بحجة ضرورة التطلّع إلى المستقبل، وعدم الالتفات إلى الماضي، وكثيرًا ما تؤكّد الجزائر أنها لن تنسى ملف الذاكرة الوطنية، خاصة ما تعلق منها بالاعتذار عن الجرائم المرتكبة في حق الجزائريين، والتفجيرات النووية في رڤان، وملف الأرشيف، وقضية المفقودين الجزائريين إبان الفترة الاستعمارية.
صورة تظهر تنكيل جنود فرنسيين بجماجم الجزائريين خلال فترة الاستعمار
خلال حرب التحرير، لجأت القوات الفرنسية إلى العنف، وجندت مئات الآلاف من الشبان الفرنسيين لخوض الحرب التي خلفت مليون ونصف المليون شهيد. وخلال الحرب، فرضت الحكومة الفرنسية رقابة على الصحف والكتب والأفلام التي تحدثت عن ممارسة التعذيب، وبعد الحرب، ظلت التجاوزات التي ارتكبتها قواتها من المواضيع التي يحظر الحديث عنها في المجتمع الفرنسي.
وإلى الآن لا يعرف عدد الجزائريين الذين سقطوا خلال فترة الاستعمار الفرنسي لبلادهم، كون فرنسا استحوذت على الأرشيف ولا تسمح لأحد بالاطلاع عليه، وعرفت الجزائر في تلك الفترة المئات من المعارك التي قاومت ضد الاحتلال، وبخاصة في الأرياف، التي خاضها قادة بارزون ضد الاحتلال، أهمهم الأمير عبد القادر الجزائري، ومعارك الشيخ المقراني ولالا فاطمة نسومر.
ومن المنتظر أن يفتح هذا الاعتراف أبوابًا قانونية جديدة أمام باريس، حيث سيجدّد الجزائريون مطالبتهم فرنسا بالاعتذار الرسمي عن جرائهم ودفع تعويضات لأهالي المتضررين، فهذه المسألة لن تغلق عند الجزائريين إلا في حال الاعتذار والتعويض عما حصل لهم، لأنهم يرون في ذلك فعلا حضاريا وأخلاقيا وقانونيا وإنسانيا.
واقترفت فرنسا خلال فترة استعمارها للجزائر، العديد من المجازر والجرائم بحق مئات آلاف الجزائريين التي ما زالت محفورة في الذاكرة الجماعية الوطنية، حيث عمدت حينها إلى استخدام كل الإجراءات الممكنة والمتوفرة لديها، لقمع الجزائريين دون تمييز المدنيين العزل من أطفال ونساء وشيوخ، ففي الثامن من مايو 1945 في مدينة سطيف – مهد حرب التحرير (1954-1962) – سقط آلاف القتلى الجزائريين (45 ألفًا بحسب إحصاءات الذاكرة الوطنية الجزائرية) برصاص الشرطة والجيش ومليشيات المستوطنين، بسبب رفع الجزائريين لعلم بلادهم، في احتفالات نصر الحلفاء على ألمانيا النازية.
انتقدت رئيسة حزب الجبهة الوطنية الفرنسي مارين لوبان، اعتراف إيمانويل ماكرون باستخدام فرنسا “نظام تعذيب” خلال حرب الجزائر
كما يتذكر الجزائريون يوم 17 من أكتوبر 1961 أحد أهم وأسوأ الأحداث في تاريخ ثورة بلادهم، يوم ارتكبت فرنسا مجزرة ضد متظاهرين جزائريين خرجوا في احتجاجات سلمية على حظر التجول الذي فرض عليهم في باريس عام 1961، وللمطالبة باستقلال بلادهم. ويذكر مؤرخون وكتاب شهدوا الأحداث أن الشرطة اعتقلت نحو 12 ألف جزائري واحتجزتهم في مراكز الشرطة وفي محتشدات أنشأتها لهم بقصر الرياضات في باريس وقصر المعارض، وتعرضوا هناك للاستجواب والإهانة والضرب والتعذيب والقتل، وألقي مئات المتظاهرين مكبلين في نهر السين، وفي اليوم التالي طفت الجثث على سطح الماء.
على ماذا يبني الجزائريون مطالبهم لفرنسا بالاعتذار؟
يبني الجزائريون مطلبهم على سابقة اعتذار الكنيسة المسيحية لليهود، جراء ما لحقهم من “ظلم” و”مطاردة”، عندما عاشوا أزمانا غابرة في ظلها، أو حاولوا معايشتها زمنَ كان للكنيسة إياها في خضمه القول الفصل في أمور الدين والدنيا سواء بسواء.
كما بنوا موقفهم أيضا على سابقة اعتذار ألمانيا لفرنسا ذاتها عما قامت به النازية عندما استباح أدولف هتلر السيادة الفرنسية في أربعينيات القرن الماضي واحتل فرنسا، وارتكب فيها جرائم فظيعة وممارسات مشينة، وحولها إلى مستعمرة.
أيضًا، يبني الجزائريون مطالبهم على اعتذار فرنسا ذاتها عما ارتكبه مواطنوها زمن حكومة فيشي المتواطئة مع النازية بحق اليهود، وسنّها قانون يعاقب بالسجن والغرامة كل من يتجرأ على التشكيك في المحرقة، أو المزايدة على ما تعرض له اليهود منذ نصف قرن من الزمن. ودفعت تعويضات لهؤلاء، الأموات منهم والأحياء.
انتقادات داخلية
تداعيات هذا الاعتراف، لم تنحصر على الجزائريين فقط، بل شملت أيضا الفرنسيين، فكثير من الفرنسيين يرفضون الاعتراف والاعتذار للجزائريين عما بدر من بلادهم خلال فترة الاستعمار، مؤكدين أن تلك الفترة مرّة ولا داعي للعودة إليها ثانية.
لئن رحّبت أوساط جزائرية رسمية وشعبية بهذا الاعتراف، فقد اعتبرت أوساط فرنسية خاصة اليمينية منها أن هذا الاعتراف “لا يخدم مصلحة الفرنسيين في شيء بل يضرّهم ويعيد فتح مواضيع قد تجاوزها الزمان وفق اعتبارهم”.
حيث انتقدت رئيسة حزب الجبهة الوطنية الفرنسي مارين لوبان، اعتراف إيمانويل ماكرون باستخدام فرنسا “نظام تعذيب” خلال حرب الجزائر. وكتبت لوبان في صفحتها الخاصة على موقع التواصل الاجتماعي توتير تدوينة جاء فيها: “أي مصلحة لرئيس الجمهورية بإعادة فتح الجروح، عبر إثارة قضية موريس أودين؟”.
"Quel est l'intérêt pour le Président de la République de rouvrir des blessures, en évoquant le cas de Maurice Audin ? Il souhaite surfer sur la division des Français, au lieu de les réunir dans un projet." #LeTalk
— Marine Le Pen (@MLP_officiel) September 13, 2018
وأضافت في التغريدة: “إنه ماكرون يسعى إلى استغلال انقسام الفرنسيين بدلاً من توحيدهم في مشروع “. ولم يسلم أودان الذي يعتبر رمزًا للمقاومة في الجزائر من انتقاد لوبان، وكتبت في تغريدة ثانية: “موريس أودان أخفى إرهابيي جبهة التحرير الجزائرية، الذين ارتكبوا أعمالا عدائية”، مؤكدة أن ماكرون يحاول كسب ود الشيوعيين بعمله هذا.