على رأس الكتيبة 106، توجه صدام خليفة حفتر، نجل اللواء المتقاعد حفتر، إلى فرع البنك المركزي في مدينة بنغازي، واستولى على مبالغ مالية طائلة بالعملتين المحلية والأجنبية وكميات من الفضة، نهاية العام الماضي، ونقلها إلى مكان مجهول مع مسلحين من الكتيبة التي يقودها مع شقيقه خالد حفتر.
عمل وثقه تقرير خبراء دوليين تابعين للأمم المتحدة، كاشفًا بذلك وجهًا آخر لممارسات حفتر وقواته بحق ليبيا ومقدرات شعبها، وبحق العملية العسكرية التي مكنته من بسط سيطرته على المدينة بذريعة طرد الإرهابيين منها، وهي الذريعة التي بدت بعيدة كل البعد عن فعل السرقة الذي اقترفته قوات تقول قيادتها إنها تشن حربًا في أرجاء البلاد انتصارًا لمنطق الدولة وتمكينًا لها.
بالقوة المسلحة يُسلب المال العام
التقرير الأممي الصادر في سبتمبر/أيلول الحاليّ أكد أن فرع المصرف المركزي في بنغازي كان تحت سيطرة وكيل وزارة داخلية حكومة الوفاق الوطني فرج أقعيم، قبل أن تحتجزه قوات حفتر وتجتاح المصرف للاستيلاء على ما فيه من أموال، استولى منها صدام حفتر على مبالغ بلغت 159 مليون و700 ألف يورو، إضافة إلى مليون و900 ألف دولار أمريكي، وقرابة 700 مليون دينار ليبي.
الانحياز والتدخل الإماراتي والمصري الداعم لحكومة حفتر جعل القوة المسلحة أحد الخيارات لسلب المال العام في بلد أنهكته الصراعات التي يكون المواطن الليبي ضحيتها الأولى
وفي وقت سابق قال علي الحبري محافظ مصرف ليبيا المركزي الموازي في مدينة البيضاء، وهو مصرف غير معترف به دوليًا، إن الأموال الموجودة في خزائن المصرف المركزي في بنغازي تعرضت للتلف بسبب دخول مياه الصرف الصحي إليها بعد مضي عامين على وجود المصرف في مرمى الاشتباكات بين مقاتلي مجلس شورى ثوار بنغازي وقوات حفتر.
هذه التصريحات وصفها التقرير الأممي بـ”المتناقضة وغير المكتملة”، فوفق مصادر قالت للجزيرة، إن هذه الأموال التالفة جزئيًا جراء مياه الصرف الصحي تُنقل من بنغازي إلى تركيا عن طريق وسطاء موالين لنجلي حفتر منذ فترة وبشكل تدريجي لتبديلها هناك بأوراق نقدية سليمة من العملة نفسها، وبعد ذلك تُباع العملة السليمة في السوق الموازية.
استولى صدام نجل خليفة حفتر استولى على مبالغ مالية طائلة بالعملتين المحلية والأجنبية
ما كشفه تقرير الخبراء كان قد لمَّح له أيضًا المستشار السياسي السابق لخليفة حفتر، محمد بوبصير، حين طالب محافظ البنك المركزي في البيضاء علي الحبري بالخروج إلى الرأي العام وتوضيح مصير أموال سرقت من المصرف المركزي في بنغازي من قوات تابعة لحفتر ونقلها إلى مقر قيادته في منطقة الرجمة.
التقرير الأممي قطع الشك باليقين، حيث أكد أن قادة قوات حفتر تقاسموا هذه الأموال، مشيرًا إلى اضطرار عدد من مديري الإدارات بالمصرف المركزي في بنغازي إلى السفر خارج البلاد، بعد تعرضهم لضغوط من عسكريين موالين لحفتر، بهدف الحصول على أموال البنك وخطابات ضمان.
التصرف الإماراتي في أموال ليبيا المجمدة في بنوكها وإنفاقها على العمليات العسكرية لقوات حفتر الذي تدعمه أبو ظبي، أثار المزيد من نقاط الاستفهام عن مصير ثروة ليبيا التي تركها القذافي بعد اغتياله
وفي ظل الفوضى التي دخلت فيها البلاد بعد سقوط نظام القذافي عام 2011 ضاعت أموال ليبيا بطرق مختلفة، إما عن طريق اختلاسها وإما عن طريق تهريبها أو عن طريق التلاعب بالأرصدة المجمدة في البنوك الخارجية ورفض استرجاعها للسلطات الليبية بحجة الخوف من وقوعها في أيدي الجماعات المسلحة في ضوء عدم الاستقرار الأمني والسياسي في ليبيا.
وفي كل الأحوال، لا ينفصل ما يحدث في ليبيا عن سياق ما تشهده مدنها منذ أكثر منذ 6 سنوات وحتى الآن من صراع على السلطة بين أطراف عدة لبعضها دعم إقليمي مسلح، ويعد الانحياز والتدخل الإماراتي والمصري الداعم لحكومة حفتر هو الأخطر، كونه يدعم الحملة العسكرية ضد القوات الحكومية المدعومة أمميًا، وهو ما جعل القوة المسلحة أحد الخيارات لسلب المال العام في بلد أنهكته الصراعات التي يكون المواطن الليبي ضحيتها الأولى.
الإمارات: ندعمكم لكن بأموالكم!
مثلما بقيت طريقة وفاة العقيد الليبي معمر القذافي في أكتوبر/تشرين الأول 2011 بمثابة اللغز المحير، تبقى الثروة والأموال الهائلة التي كانت بحوزته وبحوزة أقربائه المقدرة بمئات المليارات من الدولارات من الأسرار الكبرى التي لا يعرف مكانها سوى من كانوا في دائرة نظامه.
أصبحت الأموال الليبية المجمدة هدفًا رئيسيًا للفصائل الليبية المسلحة
لكن تصريحًا للنائب الثاني لرئيس المجلس الأعلى للدولة بليبيا محمد امعزب لقناة “الجزيرة” بشأن التصرف الإماراتي في أموال ليبيا المجمدة في بنوكها وإنفاقها على العمليات العسكرية لقوات حفتر الذي تدعمه أبو ظبي، أثار المزيد من نقاط الاستفهام عن مصير ثروة ليبيا التي تركها القذافي بعد اغتياله، والجهات التي تستغل هذه الثروة.
هذا التصريح لم يفاجئ المراقبين بالنظر إلى التورط الإماراتي المعروف في الشأن الليبي من خلال الدعم الذي تقدمه لحفتر، فلم يعد يخفى على أحد التدخل الإماراتي في الشؤون الليبية عبر ضخ السلاح والعتاد إلى الجهات المتنازعة، بشكل علني ومباشر في بنغازي، وعبر تجنيد قنوات وأذرع إعلامية لضرب عملية الحوار والضغط لإفشال التسوية بين القيادات الليبية، لتنخرط الإمارات مع مرور الوقت في الصراع داخل ليبيا، لتوفير دعم مادي وعسكري قوي لحفتر الذي يناهض “الإسلاميين” هناك.
إلا أن الملفت للانتباه هو الاستغلال الإماراتي للأموال الليبية المجمدة في الخارج، التي فرضت الأمم المتحدة تجميدها في دول العالم بعد الثورة الليبية عام 2011، ضمن عقوبات فُرضت على ليبيا لمنع الرئيس السابق معمر القذافي وأقاربه وأعوانه من الاستيلاء على ثروات البلاد، التي هي من حق الشعب الليبي، لكنها تُستغل لتدمير البلاد وحرمانها من الأمن والاستقرار، بحسب ما أكده المسؤول الليبي.
“الإمارات تستنزف الأموال الليبية لديها، والمقدرة بـ50 مليار دولار، في تمويل الأنشطة الداعمة لحفتر، ومنها تمويل قناتين فضائتين ليبيتين بالكامل تعملان من العاصمة الأردنية” يقول النائب الثاني لرئيس المجلس الأعلى للدولة بليبيا محمد امعزب
وبحسب امعزب، فإن الإمارات تستنزف الأموال الليبية لديها، والمقدرة بـ50 مليار دولار، في تمويل الأنشطة الداعمة لحفتر، ومنها تمويل قناتين فضائيتين ليبيتين بالكامل تعملان من العاصمة الأردنية، بالإضافة إلى تمويل تدريب مئات العناصر المسلحة من قوات حفتر تدريبًا عاليًا في دول مثل الأردن، وشراء أسلحة ومعدات عسكرية من دول عدة على غرار روسيا وأوكرانيا وكندا لصالح شركاتها لتقوم بتحويلها إلى حفتر عبر ميناء طبرق، قبل أن تذهب لتوسيع وجودها العسكري بتأسيس قاعدة الخروبة، التي يتم الآن من خلالها وصول الإمداد العسكري.
وفي هذا السياق، كشفت تقارير وجود مستندات تؤكد أن أسلحة ومعدات وصلت حفتر ورّدتها الإمارات لصالح شركةAres Security Vehicles”” في أبو ظبي، وشركة “Minerva Special Purpose” في دبي، وبحسب التقارير، لم تدفع الإمارات فلسًا واحدًا من أموالها لدعم حفتر وحلفائها في شرق ليبيا، بل تستخدم الأموال الليبية في كل شيء، بما فيها شراء مواقف دول كبرى ومؤسسات دولية.
استيلاء الإمارات على الأموال الليبية المهربة يفاقم أزمة الليبيين
الأموال الليبية المهربة.. إلى أين؟
كان الكثير من الجدل قد أثير بشأن حجم الثروة والأموال التي تركها القذافي، وأوردت مختلف وسائل الإعلام العالمية بعض الأرقام، وقالت إنها تتراوح بين 100 و400 و500 مليار دولار أمريكي، لكن الرقم الحقيقي والمعلومات المتعلقة بهذا الملف تبقى من الأسرار التي لا يملكها إلا بعض الأفراد القلائل من رجال القذافي، مثل موسى كوسا وبشير صالح، مدير مكتبه السابق المقيم في جنوب إفريقيا منذ عام 2012.
الثروة الهائلة للقذافي والمخبأة في حسابات وصناديق مغلقة عبر إفريقيا أصبحت هدفًا رئيسيًا للفصائل الليبية المسلحة التي تسعى للحصول على أموال لشراء الأسلحة لتغذية حربها الفوضوية
وفي بداية يونيو/حزيران 2017 نشر مجلس الأمن الدولي تقريرًا من 299 صفحة، أورد فيه قائمة بدول إفريقية قال إنها تورطت في إخفاء وتخزين ثروة القذافي منذ عام 2011، الجزء الأكبر من هذه الثروة هرب عبر الحدود الليبية، وأشار التقرير إلى أن الثروة الهائلة للقذافي مخبأة في حسابات وصناديق مغلقة عبر إفريقيا، وقال إنها أصبحت هدفًا رئيسيًا للفصائل الليبية المسلحة التي تسعى للحصول على أموال لشراء الأسلحة لتغذية حربها الفوضوية.
وقد حاولت السلطات الليبية استرجاعها من الخارج، وشكلت لهذا الغرض العديد من اللجان، وكلفت محامين وخبراء للقيام بالمهمة واتصلت بدول مثل جنوب إفريقيا، وجدّد مندوب ليبيا في مجلس الأمن صالح المجربي مناشدة حماية الأصول الليبية المجمّدة ووقف الخسائر التي تتعرض لها الأموال الليبية نتيجة عدم السماح بإدارتها، لكن المحاولات باءت بالفشل.
وتشير بعض المصادر إلى وجود أكثر 350 مليار دولار من الأموال الليبية المجمدة منذ عهد القذافي ما زال مصيرها مجهولاً، تحتضن الإمارات منها نحو 70 مليار دولار، وكان عضو لجنة ملاحقة الأموال المنهوبة في المؤتمر الوطني سابقًا عبدالحميد الجدي، تحدث في وقت سابق عن 90 مليار دولار تم تهريبها عن طريق 200 شخص من كبار مسؤولي النظام السابق إلى عدة دول في العالم، مشيرًا إلى أن أكثر من نصفها موجودة حاليًّا في بنوك إماراتية.
وبينما لا يزال الغموض يلف موضوع أرصدة نظام القذافي التي تم إيداع جزء كبير منها في حسابات خاصة في أبو ظبي ودبي، كشفت مصادر قضائية في بلجيكا، في مارس/آذار الماضي، اختفاء أكثر من 10 مليارات يورو من حسابات مصرفية تابعة لنظام القذافي، كانت مجمّدة في بلجيكا بموجب قرار أممي منذ 2011، وأكدت المصادر القضائية في بلجيكا عدم صدور أي أمر قضائي برفع التجميد عن هذه الأموال.
عمد مسؤولون موالون للقذافي إلى تهريب مبالغ مليونية من ليبيا إلى حسابات خاصة في أبو ظبي ودبي، لا سيما المقربين جدًا من القذافي وأسرته، على وجه التحديد
وبحسب وكالة الأنباء البلجيكية، كانت هذه الأموال موجودة على حسابات لمؤسسات مالية مقراتها في البحرين ولوكسمبورغ باسم مؤسسة الاستثمار الليبية والشركة الليبية للاستثمار الخارجي وفروعهما، وعلى الرغم من النفي البلجيكي الرسمي، عبّر البرلمان البلجيكي عن خشيته من أن تكون هذه الأموال “المختفية” أو فوائدها التي تم تحريرها بشكل “قانوني”، استُخدمت في تمويل عمليات إرهابية.
وفيما لا يزال الجدل قائمًا بعد هذا الخبر، كشف مسوؤل ليبي رفيع لموقع “العربي الجديد“، بالأسماء والأرقام، تفاصيل استيلاء دولة الإمارات على الأموال الليبية المهربة لديها، لدعم الحراك العسكري للواء المتقاعد خليفة حفتر وحلفائها في ليبيا، وتمويل قاعدتها العسكرية “الخادم أو الخروبة” في شرق ليبيا، إضافة إلى تمويل وسيلتين إعلاميتين تبثان من عمان.
وبحسب المسؤول الليبي الذي رفض كشف اسمه، فإن “الأموال الليبية المنهوبة من الإمارات لم تقتصر على تلك المودعة في حسابات رسمية من سلطة معمر القذافي، لكنها تتعدى ذلك إلى أيام الثورة الأولى، حيث عمد مسؤولون موالون للقذافي وقتها إلى تهريب مبالغ مليونية من ليبيا إلى حسابات خاصة في أبو ظبي ودبي، لا سيما المقربين جدًا من القذافي وأسرته، على وجه التحديد”.
صورة الرسالة المسرّبة المنشورة في تقرير الأمم المتحدة الذي كشف تورط عارف النايض في تسلُّم طلبات السلاح
وعن الأطراف الليبية المشاركة في هذا الملف، نقل الموقع عن المصدر قوله إن سيف الإسلام القذافي كان من ضمن تلك الشخصيات، عبر مندوبه الخاص في الإمارات المدعو محمد إسماعيل، مدير مكتبه الخاص إبان حكم نظام والده، ويؤكد ذلك تقرير لصحيفة التايمز البريطانية، كشف فيه المحققون أن سيف الإسلام الذي أُطلِق سراحه بعد اعتقاله لديه 30 مليار دولار أمريكي تحت تصرُّفه، رغم الجهود الدولية المبذولة لتجميد الأصول التي تملكها أسرته.
أما محمد إسماعيل، فما زال حتى اليوم الشخصية الليبية الفاعلة في الإمارات، وله علاقة شخصية قديمة بمسؤول الإمارات عن الملف الليبي لديها، السياسي الفلسطيني محمد دحلان، وهما المسؤولان عن تبديد مئات الملايين من الأموال الليبية بشكل غير قانوني”، بحسب المصدر.
وفي يناير الماضي طالبت الإمارات ليبيا بدفع 750 مليون دولار (5 مليارات دينار ليبي)، بعد استئناف الحكومة الليبية العمل بعد تهرب الإمارات، ففي عام 2008 منح نظام القذافي حكومة أبو ظبي ممثلة بشركة “ليبركو” هدية مجانية للاستثمار في شركة رأس لانوف، وبعد مقتل القذافي في عام 2012 طالبت الحكومة الليبية الشركة الإماراتية باستئناف عملها، لكن الإمارات رفضت دون مبررات.
يقوم السفير الليبي السابق لدى الإمارات عارف النايض بتسلُّم طلبات السلاح من “طبرق” والحصول على الموافقات عليها من أبو ظبي ومن ثم جلبها لحفتر
الحكومة الليبية استأنفت العمل بعد تهرب الإمارات، فرفعت أبو ظبي قضية ضد ليبيا تطالها بدفع 5 مليارات دينار ليبي، لكن في 6 من يناير 2018 طالب القضاء دولة الإمارات بدفع 120 مليون دينار للحكومة الليبية تعويضًا عن تهرب الشركة الإماراتية، وبحسب مراقبين، فإن الإمارات تدفع الأموال الليبية لتمويل قنوات عارف النايض في الأردن وشراء الأسلحة لدعم خليفة حفتر.
وكما يطُل باسمه في كل مكان، يظهر اسم “النايض” في تقرير الأمم المتحدة، ولكن ليس باعتباره مهتمًا بالتنمية أو حتى مرشحًا محتملًا لرئاسة الوزراء كما كان يتمنى، بل كأحد الوسطاء في سلسلة إتمام صفقات السلاح المطلوبة من جانب “مجلس النواب” في طبرق لصالح القوات الليبية بقيادة “حفتر”، إذ يقوم السفير بتسلُّم طلبات السلاح من “طبرق” والحصول على الموافقات عليها من أبو ظبي ومن ثم جلبها لحفتر.
ومع استمرار توغل الإمارات في ليبيا عبر أذرعها المختلفة، يزداد الانقسام السياسي، وتكون مهمة استعادة الأموال المنهوبة أكثر عسرة، فمع مرور الوقت تتضاعف صعوبة تتبعها فضلاً عن استعادتها، لكن التجربة الليبية – في حال نجحت باسترداد الأموال التي هربها النظام السابق – ستشكل مرجعًا لدول الربيع العربي مع تشابه التجارب بين دول عدة، بينها اليمن وسوريا وتونس ومصر.