عندما أعلنت المملكة العربية السعودية الأسبوع الماضي استضافة مدينة جدة لاتفاق سلام إثيوبي إريتري أمس الأحد، اندهش كثير من المتابعين لشؤون القارة الإفريقية، متسائلين عن مغزى هذه الفعالية بعد اتفاق السلام الذي وُقع في العاصمة الإريترية أسمرة في الـ9 من يوليو/تموز الماضي بحضور رئيس دولة إريتريا أسياس أفورقي ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد علي، حيث وافق الطرفان على إعادة التمثيل الدبلوماسي واستئناف حركة الطيران والتبادل التجاري بين البلدين.
أنهت اتفاقية أسمرة حالة اللاحرب واللاسلم التي استمرت قرابة 20 عامًا بين الجارين اللدودين، إذ كان الإمبراطور الإثيوبي هيلا سيلاسي قد ضمّ إريتريا إلى اتحاد كونفدرالي مع بلاده بموافقة الأمم المتحدة حتى العام 1991 وهو التاريخ الذي نالت فيه إريتريا استقلالها من إثيوبيا، ولكن سرعان ما اندلعت المناوشات بين الجانبين ثم تطورت إلى حرب شاملة في أواخر التسعينيات.
المهم أن اتفاقية آبي أحمد مع أسياس أفورقي في يوليو/تموز الماضي طوت صفحة الحرب بين البلدين رغم عدم اعتراف المعارضة الإريترية باتفاق السلام، فهي تقول إن الشعب لم يستشر في اتفاقية السلام وأوضاع المواطن الإريتري المغلوب على أمره لم تتغير حتى الآن.
أبوظبي تقلد الدوحة وتهاجمها
كان لافتًا أنه فور بداية تطبيع العلاقات وتبادُل الزعيمين آبي أحمد وأسياس أفورقي الزيارات بين أسمرة وأديس أبابا، روّجت وسائل الإعلام الإماراتية إلى أن اتفاق السلام جاء نتيجة لوساطة إماراتية كان لها دور في تقريب وجهات النظر بين البلدين وهو ما نفاه مليس ألِم المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الإثيوبية
لم ينس الإعلام الإماراتي بالطبع إقحام قطر في الموضوع والزعم بأنها تشعل الفتن والحرائق في منطقة القرن الإفريقي دون أي دليل على ذلك
لكن ولي عهد أبو ظبي سارع بدعوة آبي أحمد وأفورقي ليكرمهما بوسام زايد في خطوةٍ فُسرت بأنها رد فعل على تصريحات مليس ألم ولكي يبرز للعالم أجمع أن للإمارات دور في إكمال الاتفاقية التي أنهت الصراع الأطول في القرن الإفريقي، وكالعادة تغنّى إعلام أبو ظبي بما أسموه نجاح الوساطة الإماراتية في إبرام الاتفاق، كما جدد التذكير بأن ولي عهد أبو ظبي دعم الاقتصاد الإثيوبي بـ3 مليارات دولار عبارة عن وديعة واستثمارات متنوعة.
ولم ينس الإعلام الإماراتي بالطبع إقحام قطر في الموضوع والزعم بأنها تشعل الفتن والحرائق في منطقة القرن الإفريقي دون أي دليل على ذلك، بل إن أبو ظبي هي من قلّدت السياسة الناعمة التي اتبعتها قطر في المنطقة قبل 20 عامًا عندما نجحت الأخيرة في تطبيع العلاقات بين السودان وإريتريا عام 1999 بعد قطيعة استمرت 4 سنوات فعاد السفراء واستؤنف التمثيل الدبلوماسي مباشرة بعد قمة الدوحة التي جمعت البشير وأسياس أفورقي برعاية أمير قطر آنذاك الشيخ حمد بن خليفة. ثم كان للوساطة القطرية دور فعال في حل النزاع الذي اعترى مسار الجيبوتي الإريتري قبل نحو 10 سنوات.
لماذا وافق آبي أحمد على الحضور لجدة؟
لم تمض أيام معدودات على تكريم أفورقي وآبي أحمد بأعلى وسام إماراتي حتى وصل وزير الخارجية السعودي عادل الجبير إلى العاصمتين أديس أبابا وأسمرة، حيث يرجح أنه حاول مجددًا إقناع الزعيمين بالحضور إلى المملكة وتوقيع اتفاق سلام جديد لأهداف سيأتي ذكرها.
إذ يقال إن أسياس افورقي تلقى وعدًا من السعودية ببذل جهود لأجل رفع العقوبات الدولية المفروضة على نظامه مقابل المشاركة في احتفال جدة، أما آبي أحمد فيرجح أن يكون قد وافق على الحضور والتكريم السعودي لواحد من السبيين الآتيين أو لكليهما:
الأول.. أن يكون عادل الجبير أغراه بالإفراج عن رجل الأعمال السعودي ـ الإثيوبي محمد حسين العمودي المعتقل في السعودية منذ العام الماضي خاصة أن ولي عهد المملكة محمد بن سلمان وعد آبي أحمد من قبل بإطلاق سراحه وهو ما لم يحدث حتى الآن.
الثاني.. ربما يكون وزير خارجية السعودية حمل وعودًا أخرى لرئيس الوزراء الإثيوبي بضخ المزيد من الأموال في السوق الإثيوبية المتعطشة للنقد الأجنبي والاستثمارات الخارجية.
أهداف السعودية من قمة جدة
يمكن تلخيص الأهداف التي دعت القيادة السعودية لعقد قمة جديدة ودعوة زعيمي إثيوبيا وإريتريا إلى توقيع اتفاق سلام جديد دون مضمون واضح فيما يلي:
1- محاولة تبييض صورة المملكة أمام العالم بعد أن شوهتها الحرب على اليمن التي قادتها السعودية والإمارات ضمن تحالف عربي وتجلّى هذا الهدف في دعوة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس رغم الهجوم اللاذع الذي شنه الإعلام السعودي على المنظمة الأسبوع الماضي بعد تقرير أممي أدان التحالف العربي وحمّله مسؤولية وقوع جرائم حرب في اليمن.
2- يتخوف نشطاء إريتريون من مساعٍ سعودية لإغراء أسياس أفورقي بالدفع بجنود الجيش الإريتري إلى ساحة الحرب في اليمن لحسم المعركة التي تطاول أمدها، وقد تحدثت تقارير لم يتسنّ لنا التأكد من صحتها عن شروع النظام الإريتري فعليًا في تجنيد شباب من قومية العفر.
ربما قصدت الرياض توجيه رسالة مكايدة إلى السودان بعد تصريحات الرئيس عمر البشير التي قال فيها: “نحن حركة إسلامية كاملة الدسم” ثم تعيينه كادرًا إسلاميًا قديمًا في منصب رئيس الوزراء
3- التنافس مع الدور الإماراتي في المنطقة.. رغم التناغم الظاهري سياسيًا بين السعودية والإمارات في عدة محاور مثل الأزمة مع قطر فإن هناك تنافسًا واستقطابًا واضحًا يجري بينهما وإلا لما كان هناك داعٍ لإقامة حفل توقيع مثل الذي حدث في أبو ظبي قبل شهرين، وهو ما أظهر الرياض وأبو ظبي بمظهر التشاكس لأن كلًا منهما تدعي أن المصالحة الإثيوبية الإريترية تمت بدعم منه.
4- ربما قصدت الرياض توجيه رسالة مكايدة إلى السودان بعد تصريحات الرئيس عمر البشير التي قال فيها: “نحن حركة إسلامية كاملة الدسم” ثم تعيينه كادرًا إسلاميًا قديمًا في منصب رئيس الوزراء، وقبل ذلك منح حكومة السودان تركيا حق إدارة جزيرة “سواكن” ثم منحت الخرطوم صفقة تطوير ميناء سواكن نفسها لقطر.
5- قد تكون القيادة السعودية حرصت على تسجيل حضور لدبلوماسيتها في الحدث الأبرز بالقرن الإفريقي ولو من خلال تكرار فعالية سبق أن أقيمت من قبل من دون إضافة جديدة.
6- هدف آخر مرتبط بالأسباب السابقة وهو سعي الرياض إلى ضم منطقة القرن الإفريقي الجيوإستراتيجية إلى نفوذها لحشد أكبر عدد ممكن من الدول لمواجهة إيران وقطر وتركيا التي تخوض معها حربًا ضروسًا على النفوذ.
7- الهدف الآخر المحتمل من القمة وحفل السلام قد يقصد به إحياء القمة السعودية الإفريقية التي دعا إليها الملك سلمان بن عبد العزيز العام الماضي ولم تجد أي تجاوب من مؤسسات الاتحاد الإفريقي ولا من الدول الأعضاء، لا سيما أن القيادة السعودية عينت السفير السابق بمصر أحمد قطان في منصب وزير دولة للشؤون الإفريقية بوزارة الخارجية لهذه المهمة.
استفهامات إثيوبية من جدوى اتفاق جدة
كُتّاب وناشطون إثيوبيون تساءلوا عن معنى تكرار التوقيع على اتفاق السلام من جديد في السعودية، خاصة أن اتفاقية جدة لم تحمل أي جديد والمدهش أن التصريح المقتضب الذي أطلقه وزير الخارجية السعودي عادل الجبير عقب التوقيع تحدث فيه عما أسماه “اتفاق جدة للسلام” مهنئًا الزعيمين ونسب الصلح إلى جهود الملك سلمان وكأنّ العلاقات بين الجارتين مقطوعة إلى الآن ولم تستأنف قبل شهرين!
قالت الكاتبة الإثيوبية مهلات تيسو: “القادة السعوديون يتعاملون بتعالٍ مع الأفارقة ولا يبدون لهم أي قدر من الاحترام”، مشيرة إلى أن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لم ينفذ وعده لآبي أحمد بالإفراج عن الشيخ العمودي المعتقل منذ العام الماضي
الكاتب الإثيوبي نور عبدا تساءل مستغربًا: “بعد الإمارات، السعودية ترعى اتفاقًا جديدًا للسلام بين إثيوبيا وإريتريا، كم من الرعاة تحتاج بقرة السلام؟”، وفي تغريدة أخرى أبدى نور قلقه من كيفية محافظة إثيوبيا على سياسة الحياد واستقلال سياستها الخارجية بعد التحركات الأخيرة وعلى ضوء قاعدة “صفر مشاكل” التي تتبعها حكومة آبي أحمد في المنطقة.
في حديث خاصٍ لـ”نون بوست” قالت الكاتبة الإثيوبية مهلات تيسو إن “القادة السعوديون يتعاملون بتعالٍ مع الأفارقة ولا يبدون لهم أي قدر من الاحترام”، مشيرة إلى أن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لم ينفذ وعده لآبي أحمد بالإفراج عن الشيخ العمودي المعتقل منذ العام الماضي، ولفتت تيسو إلى ما أشار إليه نور عبدا من مستوى الاستقبال المتدني الذي وجده رئيس الوزراء الإثيوبي في مطار جدة إذ كان في استقباله نائب أمير مكة.
بينما امتعض نشطاء آخرون مما أسموها مشاركة إثيوبيا وإريتريا في عملية تجميل وجه المملكة بعد تدميرها لليمن، لافتين إلى أن التحالف العربي يواجه اتهامات خطيرة في حربه باليمن وهو ما لا يليق بدول باحثة عن السلام أن تتوجه إليهما.
وفي إطار غير بعيد يلفت الكاتب البريطاني المختص في شؤون القارة الإفريقية مارتن بلاوت إلى أن السعوديين وحلفاءهم الإماراتيين يسعون إلى ممارسة نفوذ عسكري متزايد في المنطقة، وتساءل بلاوت في مقالٍ له قائلًا: ما الثمن الذي سيطلب السعوديون وحلفاؤهم مقابل دعمهم؟ وهل ستدفع حربه العلنية والسرية ضد إيران دول القرن الإفريقي إلى هذا الصراع؟
خلاصة القمة وتوقيع اتفاق جدة
بحسب ما هو معلن لم تأت القمة الثنائية وحفل توقيع اتفاق السلام الذي جرى الأحد بحضور العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز وولي عهده محمد بن سلمان بجديد، بخلاف تكريم الملك للزعيمين آبي أحمد وأسياس أفورقي بقلادة الملك عبدالعزيز على غرار وسام زايد الذي كرما به في أبو ظبي، إلا أن تكون هناك بنود سرية ضمن الاتفاق لم يتم كشفها تتضمن ضخ السعودية مساعدات مالية للبلدين الإفريقيين.
كما يلاحظ غياب رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي موسى فكي عن حفل التوقيع رغم أن وسائل الإعلام السعودية أكدت مشاركته، ولعل الدبلوماسي التشادي المخضرم الذي شغل من قبل منصب وزير الخارجية في بلاده آثر عدم حضور الفعالية التي اعتبرها كثيرون لا جدوى لها بعد سريان اتفاق السلام بين الجارتين منذ أكثر من شهرين، أو ربما خشي من ممارسة الرياض ضغطًا على المفوضية وهي الذراع الأقوى في الاتحاد الإفريقي.
السياسة الخارجية المستقلة التي تتبناها إثيوبيا بقيادة الوزير ورقينيه قيبيو ستكون حقيقةً في امتحانٍ عسير بعد قمتي جدة وقبلها أبوظبي
وتتحدث تسريبات عن وجود مساعٍ سعودية للتوسط بين إريتريا وجيبوتي في سرية تامة لضمان وصول رئيس جيبوتي إسماعيل عمر جيله لمقابلة غريمه أسياس أفورقي يوم الإثنين 17 من سبتمبر/أيلول وحل النزاع بين الدولتين، خصوصًا أنه لم تتحدد مدة زيارة آبي أحمد وأسياس أفورقي إلى المملكة.
وتأتي كل هذه التطورات المتلاحقة إقليميًا في وقتٍ تمر فيه إثيوبيا بمرحلة تحول بعد الإصلاحات العميقة التي أجرتها حكومة آبي أحمد وعاد معها آلاف المعارضين من الخارج، بينما تشهد العاصمة أديس أبابا وعدد من مدن البلاد أحداث عنف إثنية مستمرة منذ عدة أيام، وهو ما يشكل تحديًا إضافيًا للحكومة الجديدة التي توجه لها انتقادات بإهمال الملف الأمني الداخلي والتركيز على العلاقات مع دول الجوار إضافة إلى محور السعودية والإمارات.
إن السياسة الخارجية المستقلة التي تتبناها إثيوبيا بقيادة الوزير ورقينيه قيبيو ستكون حقيقةً في امتحانٍ عسير بعد قمتي جدة وقبلها أبو ظبي كما قال عبدا ومهلات وبلاوت لأن السعودية والإمارات لا تقبلان بفكرة شريك مستقل في التوجه والرأي، بينما يستند آبي أحمد ـ وهو مسيحي بروتستانتي وليس مسلمًا كما يعتقد البعض ـ إلى إرث ملك الحبشة العادل أصحمة بن أبجر “النجاشي” الذي رفض الرشوة وتسليم صحابة الرسول محمد “عليه الصلاة والسلام” إلى قادة قريش وهو ما ذكَّر به رئيس الوزراء الإثيوبي في لقائه مع الجالية الإثيوبية المسلمة بمدينة فرجينيا الأمريكية أواخر يوليو/تموز الماضي.