عام 1933، وبعد وصول الزعيم النازي إدولف هتلر إلى السلطة، وتكريس ديكتاتورية بينتو موسيليني (حاكم إيطاليا ما بين 1922 و1943)، ومرت على أمريكا الأزمة الاقتصادية، بدت الأفكار الإشتراكية كبديل للتجربة الرأسمالية التي اُعتبرت فاشلة آنذاك شائعة وجذابة في في أوساط المثقفين الغربيين، واستفادت المخابرات السوفيتية من ذلك في تجنيد أشخاص من جامعات غربية شهيرة كجامعة أكسفورد ولندن وكامبريدج، ليصبح لدى جوزيف ستالين عملاء في منتهى الأهمية في أكثر المؤسسات الغربية سريةً، مثل مكتب محافحة التجسس “MI5“، والاستخبارات الخارجية البريطانية “MI6“، وكذلك في وزارة الخارجية الربطانية.
وفي النتيجة، تشكلت عام 1934 أهم مجموعة استخباراتية في التاريخ الحديث، عُرفت تحت اسم “خماسية كامبريدج”، وكان في عدادها شخصيات بارزة، على رأسهم كيم فيبلبي، وقد عمل منذ أوائل الثلاثينيات وحتى أواسط الخمسينات بفعالية منقطعة النظير لصالح المخابرات السوفيتية.
وكان كيم فيلبي تحديدًا – وفق التقييمات الغربية – أكثر رجال المخابرات قيمة وفعالية، فقد ترقى في منصبه إلى أن أصبح مرشحًا لشغل منصب رئيس جهاز الاستخبارات السرية “MI6“، وعندما رُفعت السرية في عام 1967 حول فيبلبي وعمله طوال تلك الفترة، أعلن مايكل كوبلين المسؤول الرفيع آنذاك في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، والذي كان يعرف فيلبي شخصيًا، أن “نشاط فيلبي كضابط اتصال بين “MI6” وCIA”” أدي إلى أن جميع الجهود الكبيرة للاستخبارات الغربية كانت عديمة الجدوى في المرحلة الواقعبة بين عامي 1944 و1951. كان من الأفضل لو أننا لم نفعل شيئًا أساسًا”.
كين فيلبي أحد أكثر رجال المخابرات قيمة وفعالية
الأب في خدمة آل سعود والابن في خدمة ستالين
كان كيم وفق المعايير مناسبًا تمامًا، وكذلك كان والده جون فيلبي (3 أبريل 1885 – 30 سبتمبر196)، واسمه بالكامل هاري سانت جون بريدجر فيلبي – أو الحاج عبدالله كما سيُعرف فيما بعد – لكن مع فارق واحد بينهما، وهو أن الابن اختار الغرب كساحة لممارسة نشاطه، بينما كان الأب مقتنعًا بصدق بأن “انجلترا فسدت تمامًا، وأن الزمن عفا عليها كدولة، وأن مستقبل العالم سيكون في الشرق بالذات”، حتى قالوا فيما بعد أن كيم غدا “خائنًا” مثل أبيه.
بدأ ظهور جون فليبي في “الربع الخالي”، بعد مصرع قائد جيش عبد العزيز آل سعود الكابتن شكسبير على أيدي قوات ابن الرشيد في نجد
لكن إخضاع منطقة بحجم الشرق الأوسط وتوزيع تركتها الموروثة من الدولة العثمانية قد يتطلب الدخول في حرب بين القوى العظمى، لكن الحرب ليست كل شيء، فالأمر أيضًا كان يتطلب جون فليبي، وبحكم أن الإمبراطورية البريطانية كانت هي القوة التي تدير الشرق الأوسط – آنذاك – فإنها ما انفكت تحشد رجالها الأفذاذ العملاء للمخابرات البريطانية، لتنفيذ سياستها التوسعية في الشرق الأوسط، فكما كان هناك لورانس العرب، كان أيضًا جون فليبي.
بدأ ظهور جون فليبي في “الربع الخالي“، بعد مصرع قائد جيش عبد العزيز آل سعود الكابتن شكسبير على أيدي قوات ابن الرشيد في نجد، آنذاك وصلت رسالة من رئاسة المخابرات الإنجليزية في لندن تؤيد وجهة نظر رئيس مكتب المخابرات في الجزيرة والخليج السير برسي زكريا كوكس، حينما كان جون سكرتيرًا له في العراق، وتحثه الرسالة بدعم آل سعود وتعيين جون فيلبي خلفًا للكابتن شكسبير وتسليمه كامل المسؤولية لمعرفة الوضع السياسي،ا خاصى بعد ندلعت الثورة العربية الكبرى في شهر يونيو من العام 1916.
كانت تلك الرسالة بداية لترك جون فيلبي الخدمة المدنية لدى حكومة الهند البريطانية، فقد أُرسل إلى لاهور في إقليم البنجاب في عام 1908، حيث تعلم الأردية والپنجابية والبلوشية والفارسية، ثم بدأ يتعلم اللغة العربية مما جعله مؤهلاً ليكون ضمن بعثة إلى البصرة عام 1915. وكما قال في سيرته الذاتية، فقد “أصبح لديه شيء من الهوس” وأنه “أول اشتراكي ينضم لجيش الراج البريطاني” في عام 1907.
جون فيلبي بعد فترة وجيزة من تحوله المفترض إلى الإسلام في مكة في سبتمبر 1930 – الجمعية الجغرافية الملكية
وقد وصل فيلبي إلى العقير قرب البحرين في 14 نوفمبر 1917، رفقة الكولونيل المستشرق “كانليف أوين”، واتجهوا إلى نجد والرياض تحديدًا، وبعد رحلة دامت سبعة أيام على جمل، وصل فيلبي وبعثته إلى الرياض، وكان أول من استقبلهم الإمام عبد الرحمن بن فيصل (والد عبدالعزيز)، ثم قابل هناك ولأول مرة عبد العزيز بن عبد الرحمن بن سعود. وعاش في قصره المبني من اللبن في الرياض مع جنوده وخدمه في الصحراء.
يصف فيلبي في كتابه “قلب جزيرة العرب” لقاءه الأول مع عبدالعزيز، فيقول: “بعد ذلك لاحظت حضور شخص آخر في الغرفة، كان عند دخولنا خلف أحد الأعمدة، شخص طويل القامة ذو حضور، يلبس ثوبا أبيض عليه عباءة بنية، ملامح وجهه حسنة رجولية. كان هذا “ابن سعود” بنفسه.
كانت الخطة الأساسية أن يصادف وصول بعثة فيلبي إلى الرياض وصول بعثة قادمة من القاهرة عن طريق جدة. ولم تجد تلك الخطة طريقها إلى النور. حيث أن شريف مكة ادّعى أنه ليس لابن سعود سوى سلطة ضعيفة جداً على القبائل التابعة له، وأن قيام مثل هذه الرحلة من الأمور المستحيلة. ولكن فيلبي، وبتشجيع من ابن سعود، قرر وبكل حماس أن يثبت بنفسه خطأ تلك الفكرة، وذلك بالسفر براً من الرياض إلى جدة، حتى يؤكد أن السيطرة على الجزيرة العربية كانت لابن سعود.
مستشار ابن سعود
لم يكن يخطر ببال المبعوث الإنجليزي الذي قدم إلى نجد عام 1917 بتكليف من بريطانيا؛ لاستجلاء حقيقة النزاع الدائر بين شريف مكة، حليف بريطانيا في معاركها، والملك عبدالعزيز، أن هذه الرحلة ستكون مفترق طرق لحياته، ولم يكن يعلم أنه عما قليل سيصبح أحد أخلص رجال ابن سعود، الذي كان آنذاك عدوًا لحليف بلاده، في وقعة أثارت اندهاش الإنجليز واستياءهم أيضًا.
وفي باديء الأمر لم تبد بريطانيا أي دعم لعبدالعزيز آل سعود، إذ كانت تدعم الشريف حسين بن علي الهاشمي، مقابل تنصيبه ملكًا على الجزيرة العربية، وبعثت بالضابط البريطاني الشهير بـ”لورانس العرب”، الذي تظاهر بمناصرة الهاشميين. في المقابل، كان جون فليبي أيضًا يحاول إقناع بريطانيا بأن عبدالعزيز آل سعود هو الرجل القوي في الجزيرة العربية وليس الشريف حسين.
تفرغ فيلبي لمهمة الدعم والتخطيط لانجاح عبد العزيز آل سعود
وكان فليبي يعلن على الملأ اعتقاده بتطابق أهداف بريطانيا وابن سعود في توحيد جزيرة العرب من البحر الأحمر إلى الخليج العربي تحت قيادة ابن سعود واحلال ابن سعود محل الهاشميين كـ”خادم الحرمين الشريفين” وتأمين طريق الملاحة “السويس-عدن-بومباي” للإمبراطورية البريطانية، لكن بريطانيا رفضت وجهة نظر فليبي في باديء الأمر، إلا أنها اقتعنت بعد ذلك بوجهة نظره ودعمت آل سعود ضد الهاشميين، واعترفت بعبدالعزيز آل سعود ملكًا رسميًا على نجد وملحاقتها، وعينت جون فليبي مستشارًا ماليًا للملك عبدالعزيز آل سعود.
وبعد وصول فيلبي للرياض بفترة وجيزة أعلن ابن سعود عن نيته الاطاحة بابن رشيد الذي يحكم منطقة تمتد بين ساحات المعارك في العراق وفلسطين. ورغم أن ابن سعود في موقف حرج جدًا، فقد كانت المساعدات البريطانية تؤلف نسبة كبيرة من خزانته؛ إلا أن فيلبي لم يجد صعوبة في إقناع ابن سعود بالقيام بالحملة العسكرية، ولكنه رفض أن يأخذ فيلبي معه لأن ذلك سيؤثر بالشعور الإسلامي عند الأهالي هناك.
وبعد سقوط حكم ابن الرشيد في حائل وسقوط عرش الحسين ابن علي في الحجاز، تفرغ فيلبي لمهمة الدعم والتخطيط لانجاح عبد العزيز آل سعود، وإعادة تنظيم جيشه وتمويله وإيجاد ميزانية خاصة له وتسليحه بالذخيرة والسلاح، وإحياء الأفكار الوهابية وإيجاد أنصار له في كل بلدة وقبيلة وقرية من أنحاء جزيرة العرب، كما أنشأ إمارة شرق الأردن، ونُقل إليها الأمير عبد الله بن الحسين، وكلف الإنجليز أشخاصًا غير جون لمراقبته وتوجيهه.
كان فليبي من المقريبن لابن سعود، وهو ما كان سببًا في حالة الجفاء بينه وبين بريطانيا التي اتهمته بالعمالة لحساب آل سعود، فتم فصله من المخابرات البريطانية
كما عمل على إيجاد عملاء مهمتهم الإمداد بمعلومات عن خصوم ابن سعود الأقوياء، مع بث الإشاعات المرجفة في هذه المدن والقبائل والقرى المعادية، والتركيز على كسب العديد من الوجهاء ورجال الدين في البلاد، كما استطاع أن يخلق وجهاء جدد في المناطق التي لم يرض وجهاءها السابقون السير معه، وسارت الأمور بقيادته على حسن مما أراده قادته في لندن والخليج.
العقل المدبر لآبن سعود
بذل فليبي جهده في مناصرة عبدالعزيز آل سعود ضد ابن رشيد حاكم حائل، والذي كان يعيق المصالح البريطانية في الجزيرة العربية، ونال ثقة ابن سعود، خاصة بعد أن أظهر إسلامه عام 1930، وأطلق لحيته، وسمى نفسه الحاج عبدالله فليبي، ودائمًا ما كان يحضر مجالس الملك العائلية مع أودلاه، وأدى مناسك الحج في الحرم لمكي، وقام خطيبًا في المسجد الحرام يوم جمعة، وتحدث عن شمائل وفضل آل سعود على الهاشميين (حكام الحجاز سابقًأ) وابن رشيد حاكم حائل.
أدى جون فليبي دوره عن جدارة، لكن قيل أنه لم يكن ملتزمًا بالخمر عندما يكون بالخارج، وقيل أيضًا أن دوافع تظاهره بالإسلام هو نيل ثقة ملك السعودية، والتنقل بسهولة كأي مسلم في شبه الجزيرة. الخلاصة أن فليبي كان من المقريبن لابن سعود، وهو ما كان سببًا في حالة الجفاء بينه وبين بريطانيا التي اتهمته بالعمالة لحساب آل سعود، فتم فصله من المخابرات البريطانية.
برز دور فيلبي كوسيط بين الحكومة السعودية والشركات الأوروبية والأمريكية
وما أن تم ضم الحجاز إلى نجد عام 1926 فضلاً عن حائل حتى راح ابن سعود يتخذ الخطوات الضرورية لإقامة دولته التي امتدت إلى مناطق جديدة من الجزيرة العربية، وهو ما تطلب حصوله على دعم دولي لتسريع تلك الخطوات والعمل على إنجاحها ونيل الاعتراف الدولي بمملكة نجد والحجاز وملحقاتهما، ولاسيما من الدول الكبرى، ومنها الولايات المتحدة الأمريكية.
وعلى الرغم من حالة الإحباط التي واجهت مسعى ابن سعود في الحصول على اعتراف الولايات المتحدة في دولته، لكن محاولاته استمرت معتمدًا على وسائل كثيرة، وهنا برز دور فيلبي أحد أولئك الوسطاء الذين أسهموا عبر تحركاتهم السياسية وحضور المفاوضات ونقلهم آراء الأطراف المختلفة، فقد استمرت وساطته وحققت نتائج إيجابية.
وفي هذا الشأن، يناقش الباحث العراقي صبري فالح الحمدي في كتابه “جون فيلبي والبلاد العربية السعودية في عهد الملك عبد العزيز بن سعود 1915 – 1953” قصة البريطاني جون فيلبي، الذي أثيرت حوله الشبهات والأسئلة، واشتغل مستشارًا للملك السعودي عبد العزيز بن سعود ووسيطًا بين السعودية وشركات النفط الأمريكية وصانع سلام بين زعماء المنطقة المتخاصمين، كما أنه يبحث في قصة ظهور دولة غدت ذات ثقل في منطقة الشرق الأوسط.
وعن دور فيلبي التجاري والاقتصادي، فقد ظهر بعد أن أدت الحروب التي خاضها ابن سعود طيلة العقدين الأولين من القرن العشرين إلى تدهور أوضاع البلاد الاقتصادية وشيوع حالة عدم الاستقرار في ربوعها جراء العمليات العسكرية التي استنفدت الكثير من إمكاناتها المعتمدة على عوائد الحج وبعض الموارد الاقتصادية الأخرى.
وهنا برز دور فيلبي كوسيط بين الحكومة السعودية والشركات الأوروبية والأمريكية في عدة مجالات، لاسيما قطاع النفط، ورحلاته الاستكشافية في الجزيرة العربية المتضمنة ملاحظاته القيمة عن جغرافية المنطقة وتضاريسها ونباتها، والتي أفادت السلطات السعودية والشركات العاملة في البلاد في عمليات التنقيب عن النفط وإقامة المشاريع المختلفة بهدف إحداث التطور المنشود في البلاد.
في خمسينات القرن الماضي، حدوث افتراق بين فيلبي والحكومة السعودية، واتخذت السلطات السعودية قرارًا بتركه البلاد، لاسيما بعد التطورات التي حصلت في البلاد الداعية إلى إدخال إصلاحات في شتى مجالات الحياة
وبحسب ما ذكره فالح الحمدي في كتابه، فإن نشاط فيلبي تصاعد في محاولاته إحداث تطور في العلاقات السعودية الأمريكية بالمجال الاقتصادي لقناعته بوجود مصلحة مشتركة تجمع الجانبين على توثيق صلاتهما على إثر اكتشاف النفط في الأحساء، فالمملكة بحاجة إلى أموال لتوفير مستلزمات إقامة دولتها الحديثة، فيما كانت الشركات النفطية الأميركية تستعجل الخطى لوضع أقدامها في الأراضي السعودية مع وجود الشركات البريطانية المنافسة لها.
ومع تراكم الضغوط على ابن سعود، برزت الجهود التي بذلها فيلبي في تجاوز العراقيل التي وقفت أمام عمليات استثمار النفط، وقد نجح في تحقيق ذلك من خلال حصوله على ثقة الجانب السعودي وتعويل الشركات الأمريكية على وساطته التي أثمرت بعقد الاتفاق عام 1933 بين الحكومة السعودية وشركة ستاندار أويل أوف كاليفورنيا” المعروفة اختصارًا بـ “سوكال”، على حساب شركة “نفط العراق” المملوكة لبريطانيا، بعد أن وافقت الشركة الأولى على منح ابن سلمان 35 ألفًا من الجنيهات الإنجليزية الذهبية، تم شحنها في خزانة خشبية إلى جدة، حيث وضعت في مكان آمن تحت فراش وزير المالية عبد الله السليمان.
وفي خمسينات القرن الماضي، حدوث افتراق بين فيلبي والحكومة السعودية، واتخذت السلطات السعودية قرارًا بتركه البلاد، لاسيما بعد التطورات التي حصلت في البلاد الداعية إلى إدخال إصلاحات في شتى مجالات الحياة عبر عنها فيلبي بصراحة بشكل محاضرات ألقاها أو مقالات نشرت في مجلات عالمية، مما كان سببًا مباشرًا، وبذلك أسدل الستار على هذه الشخصية البريطانية التي كان لها نصيب في تاريخ الجزيرة العربية عامة والمملكة العربية السعودية بخاصة”.