مايو/أيار 2015، رجع محسن مرزوق الذي كان يشغل منصب مستشار الرئيس التونسي الباحي قائد السبسي إلى حركة نداء تونس لشغل منصب الأمين العام بعد أن أبعده السبسي عن قصر قرطاج نتيجة تفاقم خلافاته مع مدير الديوان الرئاسي حينها رضا بلحاج.
ذهب مرزوق إلى الحزب ظنًا منه أن الفرصة سانحة له للسيطرة على النداء وتطويعه خدمة له ولأجنداته، إلا أنه وجد “النداء” في قبضة نجل الرئيس حافظ قائد السبسي الذي استغل انشغال قادة الحزب بالصراع على المناصب الرسمية، والضوء الأخضر الممنوح له من والده، ومن ذلك الوقت ظهر الصراع والاتهامات الموجهة لحافظ بإرباك الحزب والبلاد إلى العلن.
بداية محتشمة.. فالتمكّن من الحزب
قبل تأسيس نداء تونس صيف 2012، لم يكن اسم حافظ قائد السبسي معروفًا لأين كان، فلا مسيرة سياسية مهمة للرجل ولا مناصب رسمية له، في تلك الصائفة شارك حافظ بشكل غير رسمي مع السبسي الأب في تأسيس “النداء”، فقد كان يساعد الجمع المحيط بالأب في تنظيم الاجتماعات والندوات.
انتظر حافظ سنة بأكملها، ليكشف حلم “وراثة أبيه”، ففي سنة 2013 بدأ يظهر للعيان محاولاً تقليد السبسي الأب في حركاته وتصرفاته وأفعاله، بعدما أسندت له رئاسة لجنة الهيكلة والتنظيم بالحزب، واستغل حافظ تلك المهمة الدقيقة حيث تمكن من التحكم في كل هياكل النداء وتكوين علاقات مع رجال أعمال الحزب وخلق شبكة من الولاءات داخل هياكله ومكتبه التنفيذي.
استغل حافظ أيضًا، دعم والدته شادلية سعيدة فرحات ومحبتها المفرطة له في كل خلافاته مع والده الذي لم يخف تذمره من ابنه مرات عديدة، هذا الدعم الكبير من الوالدة مكّنه من السيطرة أكثر على الحزب وتكوين علاقات داخلية وخارجية، فبعد أن كان في الهامش، يراقب الجميع من بعيد، أصبح حافظ يترأس اللقاءات الحزبية واجتماعات الهياكل، فخرج بذلك من الكواليس إلى واجهة الحزب، وهو خروج أثار جدلاً ومخاوف كبيرة لدى العديد من التونسيين داخل الحزب وخارجه.
خلال السنوات التي ترأس فيها حافظ قائد السبسي حركة نداء تونس، عرف الحزب تراجعًا كبيرًا
نجاحه في تنظيم العديد من اللقاءات والتظاهرات الحزبية والإشراف عليها، كان حجّة السبسي الابن لإحكام السيطرة على الحزب، فلولا حكمته ورجاحة تفكيره، حسب المقربين منه، لما استطاع النداء النشاط وتنظيم أي تظاهرة وهو المستهدف من روابط حماية الثورة.
أفلح حافظ في تلك الفترة في الإمساك بالحزب وحشد أنصار له، من خلال إيجاد الدعم الداخلي وربط المصالح مع ممولي الحزب والاحتفاظ بروابط وصلات سياسية مع كل أجنحة النداء، ومكافأة المواليين وإحاطة نفسه بمن يبحث عن إرضاء السبسي الأب بخدمة نجله.
عمل حافظ في تلك الفترة على “حماية إرث أبيه”، من خلال التحالف مع رضا بلحاج (سيبعده عن الحزب ويصبح عدوّه فيما بعد) وإبعاد أغلب الذين يزاحمونه على “ميراثه”، خاصة من قيادات الصف الأول اليساريين وعلى رأسهم أمينه العام محسن مرزوق، وضمّ وجوهًا جديدةً من أتباع النظام السابق إليه من سياسيين ورجال أعمال لصفوف الحزب وتمكينهم من مناصب قيادية فيه رغم المعارضة الداخلية.
مطلع 2016، عقد المؤتمر التأسيسي لـ”نداء تونس” في مدينة سوسة (وسط)، وأصبح حافظ السبسي المدير التنفيذي للحزب، جاعلًا لهيمنته عليه صفة رسمية، لكن “نداء تونس” بعد مؤتمر سوسة لم يعد كما قبله، إذ فقد الحزب الأغلبية البرلمانية لصالح حزب “النهضة”، بعد أن استقال منه العشرات من النواب.
عينه على البرلمان لكن…
التمّكن من الحزب، أحيا حلم نجل الرئيس دخول مؤسسات الدولة وشغل منصب رسمي فيها، ظهر هذا الأمر من خلال رغبته في الترشح خلال الانتخابات التشريعية عام 2014 على رأس قائمة الحزب بدائرة انتخابية مهمة بالعاصمة، غير أن هذه الخطوة “الجريئة” أثارت حفيظة قيادة الحزب الذين خافوا أن يتطور الأمر لاحقًا ليصبح شكلًا من أشكال التوريث السياسي، ما جعل السبسي الأب يتدخل على حساب رغبة ابنه، خوفًا من إحداث أزمة في الحزب تربكه وهو الحزب الذي لم تمر سنتان فقط على تأسيسه.
خلال مؤتمر سوسة ظهرت نية حافظ التحكم في الحزب
انتظر حافظ قائد السبسي 3 سنوات، حتى يعاود المحاولة، فقام هذه المرة بخطة “شيطانية”، تتمثل في تعيين نائب الحزب في البرلمان عن دائرة ألمانيا حاتم الفرجاني في منصب كاتب دولة مكلف بالدبلوماسية الاقتصادية حتى تعاد الانتخابات في تلك الدائرة ويترشح حافظ ويدخل البرلمان.
وفسر أنصاره رغبة حافظ الدخول إلى البرلمان والاقتراب من الطبقة السياسية أكثر، بسعيه لفهم طبيعة المشكلات السياسية والاقتصادية للبلاد والتدرب على الخطابة والمناورة وعقد التحالفات، فيما قال منافسه إنه يسعى لوراثة أبيه في قصر قرطاج فوصوله للبرلمان يمهد له الطريق أكثر نحو حلمه القديم.
غير أن هذه الخطة لم يكتب لها النجاح، فقد تراجع حافظ قائد السبسي عن الترشح بطلب من أبيه والمحيطين به، لأنه لا يثق في قدرة نداء تونس على الفوز في هذه الانتخابات لوجود نوايا ترشح من داخل جمهور الحزب، أي من الذين قادوا حملة 2014، ووجود الناشط المستقل ياسين العياري من بين المرشحين.
أولى تداعيات الانفراد بالقيادة.. انقسام النداء
خلال السنوات التي ترأس فيها حافظ قائد السبسي حركة نداء تونس، عرف الحزب تراجعًا كبيرًا، فلم يعد ذلك المسيطر على دواليب الحكم في البلاد، وإن كان الظاهر يبيّن عكس ذلك فهو الماسك بالرئاسات الثلاثة (الحكومة والبرلمان والرئاسة)، لكن دون فاعلية.
تراجع الحزب وتراجع نفوذه، ولم يعد قادرًا على تنفيذ برامجه لحدة الاختلافات والصراعات داخله، فقد وصل به الأمر إلى فقدان أكثر من 40 نائبًا في البرلمان، وخسارة الانتخابات المحلية التي أجريت في مايو/أيار الماضي بعد أن حل ثانيًا خلف حركة النهضة، وبروز أزمات كثيرة داخله.
أزمات متكررة أدت إلى تشظي الحزب الأول خلال انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2014، وانقسامه إلى أجزاء بعضها مجهري وبعضها الآخر يكابد حتى يطل برأسه ويرسم لنفسه مستقبلاً في ساحة سياسية مليئة بالأحزاب الورقية التي لا يتعدى أنصارها عدد أفراد العائلة أو أقل.
وما فتئت الانقسامات والمشاكل تتسع داخل هذا الحزب رغم محاولات رأب الصدع المتكررة، خاصة أنه لا يوجد قاسم مشترك بين مكونات هذا الحزب؛ فهو بدأ هجينًا لا هوية سياسية له سوى عداء حركة النهضة الإسلامية والرغبة في الوصول إلى السلطة، فالنداء ضم في بداية تكوينه منتصف 2012 يساريين ودستوريين وتجمعيين ورجال أعمال ونقابيين ومستقلين، وما إن تحقق هدف الوصول إلى السلطة حتى انفك العقد لدقة خيطه.
ما وصل له الوضع في نداء تونس والبلاد ككل يثبت بما لا يدع مجالاً للشك خطورة سياسات التوريث التي تنتهجها القيادات السياسية العربية
هذا التراجع الكبير، حُمّل مسؤوليته نجل الرئيس حافظ قائد السبسي، وبعد أن كان الأمر همسًا أصبح علنًا، فمؤخرًا اتّهم رئيس الحكومة المنتمي إلى النداء يوسف الشاهد نجل رئيس الجمهورية بتدمير حزب نداء تونس الحاكم.
لم يكن الشاهد الشخص الوحيد الذي يتهم حافظ بتدمير الحزب، فغيره كثير، فمثلاً النائبة المستقيلة مؤخرًا عن النداء، زهرة إدريس، اتهمت حافظ بالاستفراد بالحزب، قائلة: “حافظ يحكم في النداء مثلما يحكم في غرفة نومه”.
وأمس السبت حمّل المجلس الجهوي لهياكل نداء تونس بمحافظة المنستير (وسط)، مسؤولية تردّي الأوضاع في الحزب إلى مديره التنفيذي حافظ السبسي، مطالبين باستبعاده، وهو نفس المطلب الذي أكده عدد من نواب الحزب أمس، حيث دعوا عقب اجتماع لهم بالبرلمان إلى ضرورة تغيير القيادة الحاليّة وخاصة حافظ.
قبل ذلك، أعلنت الهيئة السياسية مسكها زمام الأمور مؤكدة في بيان رسمي لها، أنها هي “الهيئة التنفيذية للحزب والمسؤولة عن تسييره بصفة جماعية”، وذلك حتى انعقاد المؤتمر الانتخابي الذي تم إقرار إجرائه نهاية شهر سبتمبر/أيلول المقبل، لتسحب بذلك بساط التسيير الفعلي من السبسي الابن.
إرباك الوضع العام للبلاد
لم يكن السبسي الابن، مسؤولاً على تراجع النداء فقط بل مسؤولاً أيضًا عن تراجع عمل حكومة الحبيب الصيد أولاً واجبارها على الاستقالة وحكومة يوسف الشاهد التي ما فتئ يطالب بإقالتها ومنح أحد مقربيه منصب رئاستها حتى يتسنى له مسك زمام الأمور ثانية في القصبة بعد أن خرج الأمر عن إرادته.
يرجع عدد من المحللين سبب ما آلت إليه أوضاع البلاد والفشل الكبير الذي أظهرته المؤسسات الحاكمة على جميع المستويات، إلى الصراع الدائر في نداء تونس بشأن النفوذ والقيادة الأمر الذي انعكس سلبًا على عمل الحكومة ووزرائها، فالجميع توجهه إلى الصراعات السياسية وحرب التموقعات عوض الاهتمام بوضع البلاد “الحرج”.
وعجزت حركة نداء تونس الفائزة في انتخابات 2014 عن تحقيق آمال التونسيين وتحقيق ما انتخبت من أجله، ويُردد التونسيون في معظم مناطق البلاد المطالب نفسها منذ سنوات، منادين بالتنمية والقطع مع المركزية، وبتقريب المصالح والخدمات وبالحق في التنمية والعدالة الاجتماعية والتمييز الإيجابي لصالح الفئات والجهات المهمشة.
يسعى رئيس تونس لتوريث ابنه الحكم
يرى تونسيون، أن أزمة النداء المتواصلة منذ سنوات، وتفرد حافظ بالقيادة واستبعاد كل من يخالفه الرأي، أثرت على مؤسسات الدولة الرسمية، حيث تسربت إلى مفاصل الدولة وأصبحت تهدد المسار الديمقراطي والتوازن السياسي في البلاد.
وساهمت الدعوات المتتالية الصادرة عن السبسي الأب والابن على حد سواء، في إبعاد رئيس الحكومة يوسف الشاهد عن قصر القصبة خدمة لمصالح “العائلة” وأصدقائها، في مزيد من تأزيم البلاد وتردي الوضع واهتزاز صورة تونس خارجيًا.
ما وصل له الوضع في نداء تونس والبلاد ككل، يثبت بما لا يدع مجالاً للشك خطورة سياسات التوريث التي تنتهجها القيادات السياسية العربية سواء داخل أحزابهم أم داخل مؤسسات الدولة، فمعظمهم يقدم العائلة على حساب مصلحة البلاد والعباد.