تواجه الحكومة المغربية التي يترأسها الأمين العام لحزب العدالة والتنمية سعد الدين العثماني، احتقانًا اجتماعيًا “استثنائيًا”، ما فتئت حدّته تزداد يومًا بعد يوم، نظرًا لعدم التوصل إلى حلول من شأنها أن تضع حدًا لهذا الاحتقان، وأن تساهم في تنقية الأجواء بين الحكومة والمخزن والمواطنين بمختلف فئاتهم الاجتماعية.
نعمان: مطلب الشعب العيش بكرامة ضمن رقعة جغرافية تسع الجميع دون استثناء
هذا الاحتقان تقول الباحثة المغربية في علم الاجتماع خديجة نعمان إن وراءه مطلب اجتماعي واحد هو “العيش بكرامة ضمن رقعة جغرافية تسع الجميع دون استثناء، لا نشهد فيها تمييزًا ولا تهميشًا ولا إهانة لأحد ولا استنقاصًا من أي شخص أو مجهود أين كان”.
احتقان جاء نتيجة القمع واستنزاف خيرات البلاد والتوزيع اللامتكافئ للثروة، وفق قول نعمان، وتضيف الباحثة في حديثها لـ”نون بوست”: “بداية الاحتقان جاءت مع حادثة مقتل الشاب محسن فكري في مدينة الحسيمة من السلطات المحلية، التي خلفت وراءها احتجاجات عارمة، تداعياتها ما زالت متواصلة إلى الآن”.
تتابع الباحثة المغربية: “ثم جاء الخبز الأسود مع مدينة جرادة المنجمية، وبعدها مدينة زاكورة في الجنوب ومعاناتهم مع العطش وصولاً إلى مقتل شهيدة الهجرة حياة، وقبلها حملة المقاطعة الشعبية لمنتجات استهلاكية أساسية، اتخذت أسلوبًا مختلفًا عن باقي أساليب الاحتجاجات، دون أن ننسى العديد من المحطات الأخرى التي لا تقل أهمية عن هذه”.
هذا الاحتقان الاجتماعي، وُجه بصمت حكومي وسلبية كبرى
تكشف هذه التحركات الاحتجاجية المتتالية في مختلف مناطق المملكة المغربية، الإحساس بالتهميش لدى سكان يعيشون وضعًا “مزريًا” وفق وصف البعض منهم، وضع لم تستطع السلطات المغربية الحاكمة بعد تغييره نحو الأفضل نتيجة أسباب عدّة.
ويعاني المغرب من تباين اجتماعي ومناطقي كبير، على خلفية انتشار الفقر الشديد في العديد من المناطق أبرزها المناطق المعزولة في الهوامش والجبال، وأيضًا انتشار البطالة بنسب مرتفعة بين الشباب، خاصة الحاملين لشهادات جامعية عليا، فضلاً عن تردّي الوضع الصحي في المملكة وتراجع جودة التعليم.
وسبق أن حذّرت العديد من التقارير المحلية والدولية من تنامي موجة الاحتجاجات الشعبية في المغرب بسبب الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، إذ صنفت المملكة من الدول العربية المرشحة لأن تشهد اضطرابات محتملة، وأشار تقرير صادر عن منظمة العدل والتنمية لدراسات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، أن عامل الاقتصاد سيكون المحور الأساسي للحركية الاجتماعية المحتملة، خاصة مع ارتقاء وعي المواطنين الجمعي، وإعلان رغبتهم في القطيعة المطلقة مع مشاكل الفساد والبطالة والتهميش التي تعانيها فئات شعبية عريضة.
المقاربة الأمنية تعمّق الأزمة
ما زاد في حدّة هذا الاحتقان الاجتماعي، الرد الحكومي الذي اعتمد المقاربة الأمنية واستعمال القضاء خدمة لمصالحه، فهذه الاحتجاجات تمت مواجهتها بالقمع والاعتقالات والمحاكمات، حيث وصل الحكم على زعيم حراك الريف ناصر الزفزافي مثلاً 20 سنة سجنًا، وحوكم معه العشرات بنفس هذا الحكم، لا لشيء إلا لأنهم طالبوا بتلبية مطلب أهل الريف في توفير جامعة ومستشفى واستثمارات محلية، ومواجهة شطط السلطة الذي طال محسن فكري باعتباره ابن المنطقة، وفق قول الباحثة المغربية في علم الاجتماع خديجة نعمان.
انتهجت السلطات مقاربة أمنية للحد من الاحتجاجات
ففي ظل تنامي الأحداث واتساع رقعتها الجغرافية كشف النظام المغربي، سوء تدبيره وعجزه عن القيام بأي مبادرات ذات مصداقية للخروج من الأزمة التي تعيشها المملكة، في سياق وطني ودولي دقيق تميز بتدهور الوضع الاقتصادي.
تعثر أغلب المبادرات الرامية إلى احتواء موجة الاحتجاجات، وإيجاد حلول لها، زاد من عمق الأزمة وأطال أمدها وكشف ارتجالية التدبير المؤسساتي الذي يغلِّب المقاربة الأمنية على الإنصات لنبض الشارع المغربي، كما كشف أيضًا الانهيار التدريجي للوسائط الاجتماعية والسياسية، بعد أن فقد المواطنون الثقة في الأحزاب والنقابات والهيئات المنتخبة ومؤسسات الدولة.
في هذا الشأن يقول الباحث المغربي في علم الاجتماع إبراهيم البعلي لنون بوست إن “ما يعيشه المغرب اليوم من احتقان هو ناتج غياب الوسائط، أي الأحزاب السياسية التي أصبحت تعاني ضعفا لم يسبق لها أن عاشته من قبل، وهنا أتحدث طبعا عن الأحزاب الوطنية التي كانت تعبر عن نبض الشارع وتساهم بشكل كبير في تأطير المواطنين والدفاع عن قضاياهم الاجتماعية.”
صمت حكومي
هذا الاحتقان الاجتماعي، وُجه بصمت حكومي وسلبية كبرى، ففي الوقت الذي كان المغاربة ينتظرون استنفار الحكومة لحل المشاكل العالقة واتخاذ إجراءات استعجالية وذات أثر يلمسه المواطن البسيط في حياته اليومية، وجّه أعضاء الحكومة اهتمامهم نحو الصراعات السياسية في حملة انتخابية سابقة لأوانها، غير مبالين بالخطر الذي يواجهه المجتمع.
ويقول مغاربة، إن حكومة بلادهم لم تع بعد حجم “الأزمة” التي تعيشها البلاد منذ فترة، وتتطلب حلولاً عاجلة وفعالة تكون قادرة على امتصاص هذا الاحتقان خاصة في صفوف الشباب والطبقة الكادحة، وإعادة الأمل إلى هؤلاء، بعيدًا عن المزايدات السياسية التي تتسم بها الساحة السياسية في المملكة.
ومؤخرًا، نبه حزب التقدم والاشتراكية، المشارك في حكومة العثماني، إلى ضرورة الإنصات لنبض الشارع، إذ شدد على أن “ما تشهده الساحة الاجتماعية من احتقان، حيث تبرز مظاهر الاحتجاج ضد الأوضاع المعيشية والأمنية في بعض الأقاليم، وتتزايد حركات المطالبة بحقوق اقتصادية واجتماعية مشروعة يتعين التعاطي معها بأقصى درجات الإنصات والتجاوب في إطار دولة القانون والمؤسسات”.
هذه الاحتجاجات المتواترة، برهنت أن الانتقال الديمقراطي الذي يشهده المغرب يمر بمرحلة صعبة
اعتبر الحزب أن تزايد مظاهر الاحتقان على الساحة الاجتماعية “تنتعش في الأجواء السلبية التي تخيم على الوضع العام ببلادنا، حيث تتواصل الضبابية والأزمة في الحقلين السياسي والحزبي ويتعمق الإحساس بانسداد الآفاق أمام شرائح اجتماعية واسعة، في غياب مبادرات عمومية قادرة على احتواء هذا الاحتقان عبر بث نفس إصلاحي قوي في مختلف مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية”.
بدوره اعتبر المكتب السياسي لحزب الأصالة والمعاصرة المعارض أن المغرب يواجه مؤشرات مقلقة على المستوى السياسي والاجتماعي، الذي يميزه تنامي الاحتقان الاجتماعي، وانسداد أفق الإدماج الاقتصادي والاجتماعي أمام فئات من الشباب ونزوعهم المتنامي لركوب مخاطر الهجرة غير الشرعية بحثًا عن تحقيق ظروف عيش كريم لم تمكنهم منه الحكومة.
كما تطرق الحزب للأزمة الأخيرة بين حزبي العدالة والتنمية وحليفه في الأغلبية التجمع الوطني للأحرار، معتبرًا أن دم الانسجام بين الأحزاب المشكلة للحكومة “يعزز ما هو قائم من انعدام تفاعل الحكومة مع انتظارات وانشغالات المواطنين وراهنية قضاياهم”.
الانتقال الديمقراطي على المحك
يتباهى المغاربة حكومة وشعبًا ومؤسسة ملكية، أنهم خرجوا من موجة “الربيع العربي” بأقل الأضرار، فيحسب للمغرب تبنيه سياسة مغايرة استفادت من دفعة الربيع العربي وأعطت للمملكة دستورًا جديدًا عام 2011، أتاح انتخابات ديمقراطية أفرزت سنة 2012 برلمانًا تصدره حزب العدالة والتنمية ذو المرجعية الإسلامية، غير أن هذا الوضع الاستثنائي للمغرب في المنطقة بدأ في التلاشي.
هذه الاحتجاجات المتواترة، برهنت أن الانتقال الديمقراطي الذي يشهده المغرب يمر بمرحلة صعبة، وهو ما يمكن تفسيره وفقًا للعديد من الخبراء بكون الإصلاحات التي تم القيام بها لم ترق لمستوى التطلعات مما أبقى إمكانية عودة الاحتقان الاجتماعي قائمة في أي لحظة وفي أي منطقة من البلاد.
فيما يرى آخرون أن الأحزاب السياسية والنخب لم تكن في مستوى المرحلة والمسؤولية الملقاة على عاتقها من تمثيل المواطنين في التفاوض السياسي مع السلطة من أجل تأويل ديمقراطي وتطبيق سليم ومتقدم للقواعد الدستورية، وجني المزيد من المكاسب وتعزيزًا للحريات والحقوق وتكريس سيادة القانون وربط المسؤولية بالمحاسبة وتحقيق شروط دولة المواطنة.
يتهم الملك وأعوانه في المغرب بإفشال الانتقال الديمقراطي في البلاد
يؤكد العديد من المغاربة، أن النخبة السياسية في بلادهم فشلت في وضع اللبنات الأولى للممارسة الديمقراطية وللنجاعة السياسية والتأصيل لسلوك سياسي حضاري حديث قوامه المنافسة الشريفة بين المشاريع والبرامج والأفكار، الأمر الذي انعكس سلبًا على الوضع الاجتماعي في المملكة.
في هذا الشأن يقول إبراهيم البعلي إن، “فشل حزب العدالة والتنمية في تسيير البلاد في السنوات الأخيرة، خلف لدى المواطنين خيبة أمل في حزب علقوا عليه آمالا كبيرة، وهو ما أدى إلى فقدان الثقة في كل الأحزاب السياسية التي لم تستطع بسبب ضعفها الكبير على مستوى منسوب الثقة في قياداتها أن تقدم نفسها كبديل قادر على إيجاد الحلول الملائمة لأوضاع اجتماعية متفاقمة اعلنت عنها حتى المؤسسات الرسمية للدولة، وفق قوله”
ليست الأحزاب وحدها من تتحمّل مسؤولية الفشل، فالمؤسسة الملكية لها دور أيضًا، فهي من ساهمت في تنامي الصراع السياسي بين الأحزاب، بدعمها لأحزاب لم يخترها الشعب، ومن مخلَّفات ذلك إعفاء عبد الإله بنكيران من تشكيل الحكومة ما مثل بداية فكَّ عقد التوافق الذي انطلق سنة 2011 بين الإسلاميين الذين كانوا يقودون المعارضة وبين المخزن.
كلّ هذا، حمل الشعب إلى التشكيك في العملية السياسية برمتها وبجدوى السياسة وفعاليتها في تلبية تطلعاته، فمن ينتخبهم لا يحكمون، وإنما الفاعل الفعلي هو من يتمتع برضاء الملك وحاشيته دون سواهم، هنا يقول المغاربة ما فائدة الانتخابات إذًا؟