أتاح لنا التقدّم التكنولوجي في السنوات الأخيرة إمكانية الوصول إلى العديد من الخيارات من المسلسلات التي يمكن لنا مشاهدتها في جلسةٍ واحدة. فما بين قنوات مثلNetflix وHulu وHBO والتي تتيح لك المتابعة مقابل رسوم شهرية لا تكاد تُذكر، أو حتى مواقع التورنت والتنزيل التي تساعدك في الوصول إلى مسلسلاتك وأفلامك المفضلة، تجد نفسك في كثيرٍ من المرات وقد أنهيت موسمًا كاملًا في جلسةٍ واحدة لم تفعل فيها شيئًا بالكاد سوى الطعام أو الذهاب للمرحاض ربما، الأمر الذي يمكن بتشبيهه بماراثون مشاهدة.
لنتفق بالبداية أنك لست الوحيد الذي تفعل ذلك. ففي مسحٍ دراسيّ أجرته نتفليكس عام 2013 وشمل أكثر من 3000 شخصٍ ممّن تجاوزا عمر الثامنة عشر، تبيّن أنّ 73% من مشتركي القناة يقومون بمشاهدة ما بين 2-6 حلقات من العرض التلفزيوني أو المسلسل نفسه في جلسة واحدة. وقد أشار البحث أيضًا إلى أنّ غالبية المتابعين يفضّلون عرض الموسم كاملًا لمتابعته دفعةً واحدة على أن يتابعوه حلقةً حلقةً بشكلٍ أسبوعيّ.
73% من مشتركي نتفليكس يقومون بمشاهدة ما بين 2-6 حلقات من العرض التلفزيوني أو المسلسل نفسه في جلسة واحدة
فيما اتفق 76% من الخاضعين للدراسة أنّ مشاهدتهم لمجموعة من الحلقات المتتابعة من نفس البرنامج أو المسلسل في اليوم نفسه لهي بمثابة هروبٍ أو فاصلٍ صغير من حياتهم المزدحمة. 79% منهم أشاروا إلى أنّ مشاهدة العديد من حلقات برامجهم المفضلة في آن واحد تجعل منه أكثر متعةً وتسلية. و80% منهم فضّلوا مشاهدتهم لمسلسلاتهم بهذه الطريقة على التواصل مع أصدقائهم أو حتى الانشغال بمواقع التواصل الاجتماعيّ.
لماذا نشاهد مسلسلاتنا بنهَم وشراهة؟
عرف قاموس الصحة النفسية مصطلحات مثل “نهَم الأكل Binge Eating” أو “نَهم الشرب Binge Drinking ” وهما اضطرابان نفسيّان يُظهر المريض بهما نوباتٍ لا يُمكن التحكّم بها في تناول الطعام أو في شرب الكحوليّات، ما ينعكس سلبًا على الصحة الجسدية للفرد بما قد يؤدي للسُمنة والإدمان، إضافةً إلى العديد من المشاكل النفسية مثل الاكتئاب والقلق وعدم القدرة على السيطرة على النفس.
يعرّف “نهَم المشاهدة” أو “Binge Watching” بأنّه “مشاهدة حلقات متعددة ومتتابعة من العرض التلفزيوني نفسه في جلسة واحدة”
لكنْ وخلال السنوات القليلة الأخيرة، وافق خبراء الصحة النفسية والعقلية إلى إرفاق مصطلح “نهَم المشاهدة” أو “Binge Watching” إلى القاموس، معرّفين إياه بأنّه “مشاهدة حلقات متعددة ومتتابعة من العرض التلفزيوني نفسه في جلسة واحدة”، بحيث أصبح هذا الأمر هو الطريقة المعيارية الجديدة لاستهلاك البرامج التلفزيونية في السنوات الأخيرة.
وعلى أنّ معظم من يتّبعون هذا النهج بالمشاهدة قد أشاروا إلى استمتاعهم بهذا السلوك وفقًا لإحصائية نتفليكس آنفة الذكر. إلّا أنّ العديد من الأبحاث والدراسات النفسية، بالرغم من ندرتها، تشير إلى الأضرار المحتملة التي قد ترافق هذا النمط المفرط من التعامل مع التلفاز ومشاهدة المسلسلات، مثل مشاكل الأرق والحرمان من النوم، أو تأثر الحياة الاجتماعية للفرد نفسه، أو تشتيته عن أنشطة حياتية أخرى.
أمّا عن الأسباب النفسية التي تدفع الشخص لهذا السلوك، فيجيبنا عالم الأنثروبولوجيا والأديب الكنديّ “غرانت ماك كراكين” بأنّ الأفراد في هذا العصر، لا سيّما جيل الألفية، ينغمسون في مشاهدة المسلسلات بشراهة نظرًا لأنهم يرون في التلفاز ملاذًا جيّدًا يمكن اللجوء إليه بعيدًا عن حياتهم المزدحمة. وأنه بالرغم من أساليب حياتنا المحمومة التي تعتمد على التكنولوجيا الرقمية والتفاعلات على مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أنّنا نميل أكثر إلى مشاهدة القصص والروايات المسرودة والتي ننظر إليها على اعتبار أنها عالمٌ آخر، حتى لو كان خياليًا، غير الذي نعيش فيه.
الأفراد في هذا العصر، لا سيّما جيل الألفية، ينغمسون في مشاهدة المسلسلات بشراهة نظرًا لأنهم يرون في التلفاز ملاذًا جيّدًا يمكن اللجوء إليه بعيدًا عن حياتهم المزدحمة
ومما لا شك فيه فإنّ مشاهدة المسلسلات التلفزيونية، مثله مثل أي هواية أو نشاط ترفيهي آخر، فهي تلبّي في الأساس حاجة الفرد إلى الترفيه والمتعة. لكن العديد من الأدلة تشير إلى أنّ “الانفعال العاطفي” يعدّ عاملًا مهمًّا لتجربة المشاهدة الشرِهة أو النهمة. ففي إحدى الدراسات التي هدفت إلى فهم هذا السلوك وتبعياته، توصّل الباحثون إلى أنّ معظم من يتّبعون نمط الشراهة بالمشاهدة، فإنهم يقومون به لأسباب عديدة، لكنّ إجماعًا معيّنًا بين المشاركين على أن العامل الرئيسي في المسألة يبدو أنه يرجع لبنائهم علاقة عاطفية مع سرد المسلسل وتفاصيله، والتي يمكن لها أنْ تتقاطع بشكلٍ أو بآخر مع تجاربهم الحقيقية.
معظم من يتّبعون نمط الشراهة بالمشاهدة، فإنهم يقومون به لبنائهم علاقة عاطفية مع سرد المسلسل وتفاصيله، والتي يمكن لها أنْ تتقاطع بشكلٍ أو بآخر مع تجاربهم الحقيقية.
فأنتَ عندما تشاهد عرضًا أو فيلمًا أو حتى عندما تقرأ كتابًا، فإنّ جزءًا من رغبتك في معرفة ماذا سيحدث بعد ذلك يأتي من شعورك بأنك وضعت نفسك في هذا الدور أو ذاك، أو أنّك قد كوّنت علاقةً عاطفية مع شخصيات المسلسل. وهذا يفسّر لنا تمامًا رغبتك وقيامك بإعادة مشاهدة مسلسلاتك المفضلة ذات الحلقات الكثيرة، مرارًا وتكرارًا بين الفينة والأخرى. وبكلماتٍ أخرى، تصبح الأُلفة التي كوّنتها مع قصة المسلسل أو شخصياته دافعًا مهمًّا لجعلك تترك أيّ شيءٍ في العالم من حولك وتلتصق بأريكتك فقط.
الأمر نفسه يفسّر لنا سبب رغبة الكثير من الأشخاص بمشاهدة المسلسلات الحزينة أو تلك التي تصنّف بأنها مرعِبة، فهم غالبًا ما يحبّون أنْ يختبروا نوعًا معيّنا من المشاعر والعواطف من خلال قصةٍ مسرودة أمامهم على شاشة التلفاز، نظرًا لعجزهم عن اختبارها أو فهمها أو الاقتراب منها بالشكل المطلوب في حياتهم العادية.
وحتى اللحظة لم يصنّف المجتمع العلميّ “نهم المشاهدة” كنوعٍ من أنواع الإدمان مثل “نهم الأكل” أو “نهم الشرب”، لكن يحذّر خبراء الصحة النفسية والعقلية أنّ الأمر على المدى البعيد قد يتفاقم إلى أبعد من مشاكل النوم والأرق أو اختلال الحياة الاجتماعية. لا سيّما وأنه يؤثر بشكلٍ أساسيّ على “نظام المكافأة” في الدماغ“، المسؤول عن حوافزنا ودوافعنا في التعامل مع الأشياء لتحقيق المشاعر الإيجابية خاصةً العواطف التي تنطوي على المتعة. فإذا عوّدنا أدمغتنا على الحصول على ما تشتهيه سريعًا وفي جلسةٍ واحدة، كطفلٍ أصرّ على أكل جميع حلوياته قبل العيد حتى إذا جاء لم يفرح بها، فربما نصبح بالمستقبل عاجزين عن الوصول إلى أيّ محفّز قد يقودنا لعاطفة إيجابية كالمتعة والفرح والسعادة والشعور بالإنجاز والتحقيق الذاتي.