حين امتلأت القاعة بالجمهور وخفتت الإضاءة، صعدوا إلى المسرح بإطلالتهم المعتادة: الجلباب الأبيض والعمامة الخضراء التي يدنو منها وشاح باللون نفسه، يصفق الجمهور بحرارة بل إن منهم من يحرك جسده كما في حلقات الذِكر، إيذانًا ببدء إنشاد أغانيهم التي تدور في فلك مدح الرسول عليه الصلاة والسلام وأسباطه.
كانت هذه صورتهم المعهودة التي اعتاد الناس أن يروهم عليها، إلا أن الواقع الفعلي يثبت ما هو عكس ذلك، ففي السنوات الأخيرة أفسح النظام المصري المجال لأتباع الطرق الصوفية لنشر فكرهم، فتولوا مناصب دينية وسياسية كونهم يؤيدون كل ما يخدم النظام ويعزفزن على الدعاية له والتمجيد لرموزه.
اعتاد مرشحو الرئاسة مغازلة القيادات الصوفية لكسب ودهم باعتبارهم أحد أهم التيارات الإسلامية المعتدلة
وضمن جهود البحث عن “ديكور إسلامي” بديل عن الجماعات الإسلامية المغضوب عليها، وفي خطوة مفاجئة منذ أسابيع قليلة، فاز بالتزكية رئيس المجلس الأعلى للطرق الصوفية عبد الهادي القصبي برئاسة ائتلاف “دعم مصر” داخل مجلس النواب، وهو ائتلاف الأغلبية المقرب من الرئيس عبد الفتاح السيسي.
كان هذا الفوز بالنسبة لمشايخ الطرق الصوفية بمثابة رد اعتبار بعد عقود بدوا فيها بعيدين كل البُعد عن السياسة، لكنهم الآن يرون – أو هكذا رأى فيهم النظام – أنهم مؤهلون لتمثيل التيار الإسلامي داخل البرلمان والمشهد السياسي برمته، فما الذي يجعل السلطة في مصر تنحاز للطرق الصوفية على حساب باقي التيارات الإسلامية؟
بديل جديد للجماعات الإسلامية.. لماذا الصوفية دون غيرهم؟
77 طريقة للصوفية في مصر، منها 67 طريقة مسجلة لدى المجلس الأعلى للطرق الصوفية، يقترب عدد مريديها ومحبيها من 15 مليون متصوف، بالإضافة إلى 6 آلاف ضريح يتوزعون على العديد من المحافظات، يزور أتباع الصوفية منها 1000 ضريح مشهور، حيث تحتوي القاهرة وحدها على 294 ضريحًا، ومن أشهرها ضريح الحسين والسيدة زينب والسيدة نفيسة.
لم يكن الموقف العدائي للطرق الصوفية تجاه الإخوان والسلفيين موقفًا دينيًا ولا وطنيًا كما سعت للترويج له، لكنه كان صراع على النفوذ
هذه الأعداد شجّعت العديد من القوى السياسية المتنافسة على التقارب من الطرق الصوفية، حيث اعتاد مرشحو الرئاسة مغازلة القيادات الصوفية لكسب ودهم باعتبارهم أحد أهم التيارات الإسلامية المعتدلة، ففي ظل اشتعال السباق الرئاسي لعام 2014، حسمت الطرق موقفها من مرشحي الرئاسة بدعم عبد الفتاح السيسي.
وفي ظل الدعم “اللامحدود” من الطرق الصوفية للسلطة في مصر، سعت السلطة الحاليّة للتعويل عليهم لمواجهة ما يُسمى “التطرف الديني” الذي يتمثل – من وجهة نظرها – في جماعة “الإخوان المسلمين”، فضلاً عن توظيفهم لملء الفراغ السياسي الذي تركته الجماعة، مستغلة في ذلك موقف الطرق الصوفية من التيارات الإسلامية الأخرى.
هناك محاولات دؤوبة من جانب الصوفيين للتأثير السياسي والمجتمعي
يظهر هذا الموقف في صورة العداء الصوفي الواضح لكل من الإخوان المسلمين والسلفيين على الرغم من المنحى الديني الظاهر في الطرق الصوفية، وقد خرجت العديد من التصريحات من مشايخ الطرق مدللة على الوقوف بجانب الليبراليين ضدهم، فعلى سبيل المثال ما جاء على لسان شيخ الطريقة العزمية محمد علاء الدين أبو العزايم الذي أيَّد السيسي في الانتخابات الرئاسية بأن “مساعي جماعة الإخوان المسلمين والجماعات السلفية للانخراط في العمل السياسي الرسمي تهدد التسامح الديني”.
وفي حديثه مع قناة “DW” عربية، يرى أبو العزايم أن جماعة الإخوان المسلمين “جماعة ليس لها وطن أو دين”، ويشرح بالقول: “لقد عرف الشعب المصري حقيقتهم، وهي أنها جامعة إرهابية”، ويقول عن تقييمه للتيار السلفي: “الإخوان والسلفيون على مقربة واحدة، وهم يتكلمون كثيرًا ولا يفعلون”.
تزامن صعود الصوفيين بالبرلمان مع تضييق أمني وقضائي وديني ضد القيادات والجماعات السلفية المؤيدة لنظام السيسي
لم يكن الموقف العدائي للطرق الصوفية تجاه الإخوان والسلفيين موقفًا دينيًا ولا وطنيًا كما سعت للترويج له، لكنه كان صراع على النفوذ، وحين أيقنت فشلها في تحقيق المكاسب المرجوة سعت إلى الانقلاب عليهما، وهو ما تجسد في دورها فيما بعد.
هكذا رأى فيهم النظام أداة لإقصاء تلك الفصائل (جماعات الإسلام السياسي خاصة الإخوان المسلمين) التي لها ثقل عليه، فكانت الطرق الصوفية بديلاً لسد الفراغ المجتمعي الناتج عن تحجيم التيار الإسلامي، وقد تزامن صعودهم بالبرلمان مع تضييق أمني وقضائي وديني ضد القيادات والجماعات السلفية المؤيدة لنظام السيسي.
التصوف الجديد.. التمايل مع السلطة في كل الاتجاهات
كان الصوفيون أكثر المستفيدين من سقوط حكم الإخوان، إذ بات الطريق ممهدًا أمامهم من جديد لاستعادة دورهم ونفوذهم مرة أخرى، وبالفعل ما إن ظهر الرئيس الحاليّ عبد الفتاح السيسي على الساحة معلنًا ترشحه لانتخابات رئاسة الجمهورية عام 2014، حتى اتجه الصوفيون نحوه لإعلان المبايعة والتأييد والدعم.
بدا القصبي متماهيًا مع كل الأنظمة
ومنذ الإطاحة بجماعة الإخوان المسلمين قبل نحو خمس سنوات، يقدم الصوفيون أنفسهم كقوى وسطية قادرة على حشد وتأييد المصريين لدعم السيسي حيث ساند قادتها ومشايخها السيسي في أكثر من مناسبة، وصرحوا مرارًا بأنهم داعمون للسيسي في كل قراراته.
كما شارك شيخ الأزهر أحمد الطيب – وهو صوفي الأصل – في بيان انقلاب 3 من يوليو/تموز 2013، وأعلن دعمه لخريطة الطريق التي أعلنها السيسي آنذاك بعزل مرسي، وعلى غرار الطيب، تبنى مفتي مصر السابق علي جمعة موقفًا صريحًا ضد الثورة وتأييد الانقلاب.
ومع بدء الانتخابات أخذ شيوخ الطرق الصوفية على عاتقهم مهمة تنظيم العديد من المؤتمرات الداعمة للسيسي قبيل إجراء الانتخابات منها ما قام به علاء الدين ماضي أبو العزائم شيخ الطريقة العزمية، ورئيس الاتحاد العالمي للطرق الصوفية، الذي قال “من يرى نفسه كُفء فليرشح نفسه، ولكن أي مرشح سيخوض الانتخابات الرئاسية أمام السيسي سيخسر”.
مهادنة الصوفيين وتوددهم لنظام السيسي وصلت إلى حد وصفه بأنه “صوفي” كما جاء على لسان زين العابدين فهمي سلامة خليفة خلفاء الطرق الرفاعية بالمنيا
مهادنة الصوفيين وتوددهم لنظام السيسي وصلت إلى حد وصفه بأنه “صوفي” كما جاء على لسان زين العابدين فهمي سلامة، خليفة خلفاء الطرق الرفاعية بالمنيا، الذي قال نصًا: “السيسي محب للطرق الصوفية لأنه صوفي الأصل”، وأشار في تصريحات له “أن جميع أعضاء الطرق الرفاعية بالمنيا، سيتوجهون لصناديق الانتخابات، لتأييد السيسي رئيسًا للبلاد”.
كما جاء على لسان إسماعيل توفيق أحد مشايخ الطرق الصوفية بأن “أصوات المتصوفة في الانتخابات البرلمانية لن تذهب لأي مرشح ينتمي للتيار السلفي أو الإخواني أو الجماعة الإسلامية”، وفي أكثر من مناسبة، ظهر الحبيب علي الجفري – الصوفي اليمني – محاضرًا في ثكنات الجيش، داعمًا للسيسي ومشرعًا لقرارات السلطة.
تتماهي الطرق الصوفية في التأييد المطلق للأنظمة الحاكمة
وفي مايو 2014، توجه وفد من مشايخ الطرق الصوفية للقاء السيسي على رأسهم محمود الشريف نقيب الأشراف، وعبد الهادي القصبي رئيس المجلس الأعلى للطرق الصوفية، لإعلان دعمه في الانتخابات الرئاسية، وكانت هذه المرة الأولى التي تعلن الطرق الصوفية تأييدها لمرشح بعينه تحت شعار “لا إله إلا الله السيسي حبيب الله”.
استمر نهج الصوفيين في دعم السيسي بأقصى درجات الدعم بعد وصوله للحكم، إذ توجه البعض للقول: “نبي الإسلام محمد راضٍ عن السيسي”، كما جاء على لسان أبو العزائم، ولم يقتصر الأمر أيضًا على التصريحات بل نظمت الطرق الصوفية ممثلة في الاتحاد العالمي للطرق الصوفية بالتعاون مع وزارة الأوقاف إطلاق ملتقى “التصوف ضد التطرف” في شهر يونيو/حزيران من العام 2015 عقب دعوة السيسي لتجديد الخطاب الديني.
امتدت الحركة الصوفية لاحتلال مساحة مهمة في المشهد السياسي بعد غياب الإخوان والسلفيين
وبعد إقصاء الإخوان المسلمين والتنكيل بهم بإجراءات النظام القمعية، واستبعاد السلفيين لخلافاتهم مع وزارة الأوقاف المعنية بتنظيم شؤون الدعوة والمناسبات الدينية، استولت الحركة الصوفية على ساحات صلاة الأعياد بمصر، رغم إعلان وزارة الأوقاف بأنها لن تسمح للحركة الصوفية إقامة ساحات للصلاة غير التي حددتها الوزارة وأخطرت بها وزارة الداخلية.
هذا التطور في الحالة الإسلامية المصرية يشير إلى أن الحركة الصوفية لم تكتف بدورها الموسع في السيطرة على مساجد آل البيت، وإنما امتدت حركتها لاحتلال مساحة مهمة في المشهد السياسي بعد غياب الإخوان والسلفيين.
من الذكر إلى السياسة.. القصبي والتماهي مع كل الأنظمة
خضعت الطرق الصوفية للترويض والعمل على خدمة النظام، ففي خمسينيات القرن الماضي أيد مريدوها جمال عبد الناصر بوضوح في القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية الداخلية والخارجية من البداية، فعلى سبيل المثال وقفت مشيخة الطرق الصوفية مع عبد الناصر في صراعه ضد الإخوان المسلمين، كما سار أكبر موكب صوفي رسمي في مصر تأييدًا لعبد الناصر في أعقاب هزيمة 5 من يونيو 1967.
لا يستبعد البعض أن يستند السيسي إلى جماعات سياسية إسلامية كظهير سياسي له بشرط أن يكون بلا أنياب حقيقية ولا يمتلك قدرات الجماعات الإسلامية الأخرى
وفي مقابل وصول مشايخها إلى بعض المناصب السياسية، والتغلغل داخل أجنحة النظام وكسب الكثير من الولاءات، تتماهى الطرق الصوفية في التأييد المطلق للأنظمة الحاكمة؛ إذ وقفت بجانب الرئيس المخلوع حسني مبارك إبان ثورة يناير/كانون الثاني 2011، ثم دعمت أحمد شفيق – أحد رموز نظام حسني مبارك وآخر رئيس وزراء في عهده – في الانتخابات الرئاسية 2012 أمام الرئيس السابق محمد مرسي.
وفي عهد مبارك، نجح الصوفيون بما يملكونه من قاعدة شعبية جارفة في الحصول على كسب ثقة ودعم أعضاء وقيادات الحزب الوطني المنحل الذي استغل الصوفيين للترويج لأفكاره وتحقيق أهدافه السياسية سواء إبان فترات الانتخابات أم غيرها من الاستحقاقات التي تحتاج إلى تأييد جماهيري.
لكن توترًا حدث بين الطرفين حين أقدم مبارك على تعيين عبد الهادي القصبي الذي كان عضوًا في الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم آنذاك، شيخًا لمشايخ الطرق الصوفية، بما يخالف ما كان معمولاً به من تعيين أكبر أعضاء المجلس الأعلى للطرق الصوفية المنتخبين من مشايخ الطرق، ومع ذلك لم يرتق هذا التوتر إلى درجة الصدام.
كانت الطرق الصوفية بديلاً لسد الفراغ المجتمعي الناتج عن تحجيم التيار الإسلامي
وخلال مسيرته السياسية بدا القصبي متماهيًا مع كل الأنظمة، فقد اُنتخب نائب بمجلس الشورى عن دائرة طنطا عام 2007، وفي عهد السيسي، انتخب نائب في مجلس النواب، وهو نفسه رئيس لجنة التضامن الاجتماعي في البرلمان، وتقدم على مدار الدورات البرلمانية الثلاثة الماضية بمشروعات قوانين أثارت جدلاً، كان أبرزها قانون “الجمعيات الأهلية” الذي وجد انتقادات محلية ودولية واسعة بسبب ما يفرضه من قيود على المنظمات غير الحكومية.
لكن رغم اعتماد السيسي على المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية لدعم نظامه فإن البعض لا يستبعد أن يستند إلى جماعات سياسية إسلامية كظهير سياسي له، بشرط أن يكون بلا أنياب حقيقية، ولا يمتلك قدرات الجماعات الإسلامية الأخرى، وقد أثبتت تجربة التيار الصوفي بمصر ذلك رغم محاولات دؤوبة لإحياء دور التيار الصوفي.
وفي ظل تراجع قوى الإسلام السياسي ممثلة في جماعة الإخوان المسلمين والسلفيين، يرى محللون أن الطرق الصوفية لا تزال غير قادرة على تقديم بديل، بسبب إبقاء الحالة الصوفية حتى اللحظة بشكل شعبوي غير منظم، فضلاً عن عدم خوضها معترك الحياة السياسية بشكل قوي في تشكلات حزبية سياسية قوية، ورغم ذلك من المتوقع أن تستمر السلطة في استغلال الطرق الصوفية سياسيًّا كما كانت تفعل الأنظمة السابقة.