بعد مُضي نحو أسبوعين من أزمة اختفاء الصحفي السعودي جمال خاشقجي – الذي أُعلن مقتله لاحقًا ــ أصدرت وزارة الخارجية السودانية بيانًا أعلنت فيه أن “الخرطوم تابعت بقلق كبير حادثة اختفاء خاشقجي في إسطنبول”، مضيفةً أنه “انطلاقًا مما يجمع السودان بكل من المملكة العربية السعودية وتركيا من علاقات وطيدة، فيهيب السودان الدولتين الشقيقتين بمعالجة هذه القضية في بعديها القانوني والدبلوماسي، بما عرفا به من اتزان وحكمة، تقديرًا لوزنهما ودورهما الكبير في العالم الإسلامي”.
إلى هنا يمكن القول إن البيان السوداني كان متوازنًا لدرجة كبيرة لولا أنه اختلف في نهايته فقد جاء فيه “يتضامن السودان مع السعودية ضد محاولات بعض القوى الدولية لاستغلال الأزمة لفرض أجندتها، داعيًا الجميع لتفويت الفرصة على المتربصين بوحدة صفنا وتضامن أمتنا”، ولهذا تُعد الفقرة الأخيرة انحيازًا واضحًا للموقف السعودي في قضية اغتيال خاشقجي التي تمثل سابقةً لم تحدث في التاريخ الحديث ولا القديم، ونسفت العبارة الأخيرة كل ما ورد من حديثٍ متوازنٍ ذُكر في بداية بيان الخارجية السودانية.
الانحياز الواضح للسعودية دفع النائب البرلماني عن حركة “الإصلاح الآن” المعارضِة، فتح الرحمن فضيل، إلى إيداع طلب استدعاء لوزير الخارجية الدرديري محمد أحمد لمساءلته عن الأسباب التي دفعت وزارة الخارجية لاستعجال إصدار بيان يساند الرياض قبل اكتمال التحقيق، كما تساءل عما ستفعله الوزارة بعد بيانها إن ثبت تورط السعودية في اغتيال الصحافي، ومضى الطلب البرلماني إلى حد السؤال عن مصير حلف عاصفة الحزم الذي يشارك فيه السودان منذ 2015، إزاء التطورات الأخيرة.
وبالفعل صدقت تنبؤات النائب البرلماني فلم يمضِ على بيان الخارجية السودانية سوى يومين اعترفت بعدهما السعودية بمقتل خاشقجي في “مشاجرة” واشتباك بالأيدي داخل مباني قنصليتها في إسطنبول “بحسب الرواية السعودية” مما أثبت استعجال وزارة الخارجية في إصدار بيان تضامني لم يكن ضروريًا إذ إن جزءًا كبيرًا من الدول العربية لم تصدر بيانات مثله ولم تعلق أصلًا على القضية كدول المغرب العربي والعراق وليبيا مع ملاحظة العلاقات الوطيدة التي تربط السعودية مع المغرب على سبيل المثال.
يبلغ إجمالي الشركات السعودية المستثمرة حالًّا في السودان قرابة 512 شركة، وكان من المُخطّط أن تصل قيمة استثماراتها 25 مليار دولار، بيد أن المُنفَّذ منها حتى الآن 12 مليار دولار فقط
كما فضّلت معظم الدول الإفريقية الكبرى مثل جنوب إفريقيا وإثيوبيا ونيجيريا الصمت وعدم التعليق على الموضوع رغم سعي السعودية الحثيث لبناء علاقات قوية مع القارة الإفريقية لدرجة أنها عيّنت وزيرًا متفرغًا لشؤون القارة السمراء مطلع العام الحاليّ وفي سبيل ذلك رعت المملكة اتفاق سلام “إضافي” للسلام بين إثيوبيا وإريتريا بحسب وصف قناة “فرانس24” والوصف الفرنسي يشير بذكاء إلى أن البلدين اللدودين وقّعا اتفاق السلام الحقيقي من قبل في العاصمة الإريترية أسمرة منذ يوليو/تموز الماضي.
لكل هذه الأسباب وزيادة عليها إحجام السعودية عن مساعدة السودان في أزماته الاقتصادية الأخيرة، حيث لم توف السعودية والإمارات لحكومة البشير بوعود مساعدة البلاد اقتصاديًا خلال مرحلة ما بعد رفع العقوبات الأمريكية كنوع من رد الجميل لنظام البشير الذي دفع بالآلاف من أبنائه للمشاركة في التحالف السعودي الإماراتي لقتال الحوثيين في اليمن، ولا يزال الجنود السودانيين موجودين هناك رغم طول أمد الحرب وتعاظم الخسائر في أوساطهم.
ويبلغ إجمالي الشركات السعودية المستثمرة حاليًّا في السودان قرابة 512 شركة، وكان من المُخطّط أن تصل قيمة استثماراتها 25 مليار دولار، بيد أن المُنفَّذ منها حتى الآن 12 مليار دولار فقط بحسب ما أدلى به السفير السعودي لدى الخرطوم علي بن حسن جعفر.
كُتَّاب وصحفيون سودانيون مقربون من الحزب الحاكم أبدوا غضبهم من تجاهل الرياض للأوضاع الاقتصادية في السودان، حيث لفت عبد الماجد عبد الحميد رئيس تحرير صحيفة مصادر إلى أن الحكومة السودانية كانت بحاجة إلى 130 مليون دولار فقط لصيانة مصفاة النفط الرئيسية كي تتمكّن من حل أزمة الوقود الخانقة التي مرّت بها البلاد، ولم تتكرم عليها لا الرياض ولا أبو ظبي بتقديم هذا المبلغ.
واندهش عبد الحميد مما أسماه “الخذلان السعودي” رغم مواقف الخرطوم السياسية الداعمة للرياض حتى في قضية مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في مقر القنصلية السعودية في إسطنبول، مُبديًا استغرابه مما تقدّمه المملكة لمصر من دعم بمليارات الدولارات، فيما لا يحصل السودان على 1% قياسًا بها، كما تساءل عن أسباب توجّه الرياض للاستثمار في إثيوبيا وإريتريا المجاورتين، مع أن هاتين الدولتين، بحسب تقديره، لا تتمتّعان بالإمكانات الاقتصادية الهائلة التي يمتلكها السودان، ونعتقد أن انتقادات الصحفي عبد الحميد المقرب من الحزب الحاكم “شغل من قبل منصب وزير الإعلام في ولاية النيل الأبيض”، تعد موجهة في الأساس إلى صانع القرار السوداني فربما لم يجرؤ على قول ذلك بصريح العبارة لأسباب قدّرها لكن المعنى واضح من حيث المضمون فكأنه يقول للحكومة السودانية: “كفى تهافتًا ومجاملةً للسعودية التي لا تعيركم اهتمامًا بل حتى استثماراتها أصبحت موجهة في الوقت الراهن إلى دول الجوار”.
امتناع السودان عن التعليق ثانيةً على قرارات العاهل السعودي الأخيرة بإعفاء بعض المشتبه في تورطهم بقضية خاشقجي يعد أحد نتائج طلب الاستدعاء الذي قدّمه النائب البرلماني عن حركة الإصلاح
طلب الاستدعاء الذي أوعده النائب فتح الرحمن فضيل لم تبت فيه رئاسة البرلمان السوداني ولم تعلق عليه وزارة الخارجية حتى الآن لكن لا يزال هناك أمل في رد الوزير الدرديري بحسب ما يتوقع فضيل لأهمية الموضوع ولكن قد يتأخر التوضيح لانشغال الوزير مع ملفات معقدة أبرزها زيارة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي للبلاد الخميس المقبل.
ولعل امتناع السودان عن التعليق ثانيةً على قرارات العاهل السعودي الأخيرة بإعفاء بعض المشتبه في تورطهم بقضية خاشقجي يعد أحد نتائج طلب الاستدعاء الذي قدّمه النائب البرلماني عن حركة الإصلاح فقد لفت الأخير إلى موقف الحكومة السودانية المستهجن شعبيًا وأثار القضية إعلاميًا على الأقل، بل أحرج وزارة الخارجية التي لم تكن لتصدر البيان من دون موافقة القيادة العليا وعلى رأسها الرئيس البشير شخصيًا.
وتأتي التطورات الإقليمية الأخيرة في ظل توجُّه تركي قوي للاستثمار في السودان منذ زيارة الرئيس أردوغان أواخر العام الماضي برفقة 200 رجل أعمال ووقع 21 اتفاقية معظمها اقتصادية تنموية، واتفق الطرفان على رفع حجم التبادل التجاري، من 500 مليون إلى 10 مليارات دولار، ولم يكد الرئيس التركي يصل السودان حتى تفجر الغضب السعودي الإماراتي المصري ولم ير مسؤولو تلك الدول في الزيارة سوى “المطامع العثمانية” واحتلال جزيرة “سواكن”، التي تم الاتفاق على تنميتها وتأهيلها وإدارتها من الجانب التركي لفترة محددة.
الخارجية السودانية لم تركب الموجة الثانية مصفقةً ومؤيدةً للخطوات السعودية الأخيرة والزعم بأنها تحقق العدالة كما فعلت مصر وبعض من دول الخليج
وخرجت آنذاك تصريحات خليجية ومصرية بحق السودان وصلت حد الاتهامات بالتخوين وتهديد الأمن القومي العربي، بل تجاوزت ذلك إلى حدود العنصرية المقيتة عندما غرّد إعلامي إماراتي بارز، شغل من قبل منصب المدير العام لقناة أبو ظبي الرياضية محمد نجيب، قائلًا: “كلمة لكل قياداتنا ومن وثق بالبشير.. لا تشتر العبد إلا والعصا معه، إن العبيد لأنجاس مناكيد.. رحم الله أبا الطيب المتنبي”، مع العلم أن أبو ظبي لم تتخذ أي إجراء بحق الإعلامي المقرب من دوائر الحكم سوى فتح بلاغ شكلي في مواجتهه لتخفيف الغضب السوداني ولكن سرعان ما تم دفن القضية فلم نسمع بعد ذلك مطلقًا بعقد جلسة محاكمة له، ونشير إلى أن تركيا تواصل اهتمامها بالاستثمار في السودان حيث أعلنت شركة “سومّا” التركية للإنشاءات الأسبوع الماضي، استعداداتها لبناء أحد أكبر مطارات القارة الإفريقية في العاصمة السودانية الخرطوم، في إطار مشروع طموح بقيمة مليار و150 مليون دولار.
حسنًا فعلت الحكومة السودانية باستيعابها الدرس وعدم إصدار بيانٍ جديٍد يؤيد القرارات الأخيرة الصادرة عن العاهل السعودي بعد الاعتراف بقتل جمال خاشقجي التي قصد بها احتواء الهجمة العالمية الشرسة على بلاده، إذ إن الخارجية السودانية لم تركب الموجة الثانية مصفقةً ومؤيدةً للخطوات السعودية الأخيرة والزعم بأنها تحقق العدالة كما فعلت مصر وبعض من دول الخليج، ويا حبذا لو بقيت على موقفها هذا ولم تفاجئنا ببيانٍ جديد متخبط ويحمل عبارات حماّلات أوجه كالبيان السابق.
ودائمًا ما نضرب المثل بالرصانة والحنكة التي تتميز بها دبلوماسية إثيوبيا جارة السودان، فأديس أبابا فضّلت الصمت التام ولم تتهافت على مساندة السعودية كما فعل غالبية جيرانها “السودان والصومال وإريتريا وجيبوتي”، رغم أن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد يعقد آمالًا على استثمارات سعودية قادمة لبلاده التي تحافظ بدهاء على التوازنات الإقليمية والدولية فإثيوبيا طوال تاريخها الحديث لا تضع نفسها في مثل هذه المواقف وتتبع سياسة خارجية متّزنة تحافظ على علاقاتها مع مختلف الدول وتراعي لسمعة الدولة وحفظ ماء وجهها.