تطورات إيجابية متلاحقة يشهدها الصومال هذا البلد العربي الإفريقي الذي أقعدته الصراعات والحروب الداخلية لزمن طويل، وتأتي التطورات الإيجابية في وقتٍ يتعرض فيه الصومال لهجمة إعلامية شرسة مَن يتابعها يظن أن البلد لا يزال في أتون حرب أهلية، ولكن رغمًا عن ذلك أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية الأسبوع الماضي إعادة بعثتها الدبلوماسية الدائمة إلى مقديشو، بعد نحو 28 عامًا على إغلاق سفارتها في العام 1991.
وخطوة إعادة السفارة الأمريكية لم يكن الحدث السعيد الأول من نوعه، فقد سبقه خلال الشهر الماضي هبوط أول رحلة للخطوط الجوية الإثيوبية إلى مطار آدم عدي في مقديشو بعد انقطاع امتدّ لنحو 40 عامًا.
هجوم إعلامي إماراتي شرس على الرئيس الصومالي
المتتبع لوسائل الإعلام الإماراتية يجدها تشن هجومًا إعلاميًا غير مسبوق على الحكومة الصومالية والرئيس محمد عبد الله فرماجو وتتهمه بالفشل في إدارة الدولة ورعاية المنظمات الإرهابية “رغم أنه رئيس الجمهورية!”، كما حاول موقع بوابة العين الذراع الإعلامية لجهاز أمن الدولة الإماراتي، دمغ حكومة فرماجو بالتورط في قضايا فساد واستغلال للنفوذ وهو اتهام قابلته الناشطة الصومالية هبة شوكري بتعليقٍ ساخرٍ، حيث خاطبت رئيس تحرير الموقع الإماراتي علي النعيمي، قائلةً: “شكرًا لك لأنك أثبت أن لدينا محاسبة برلمانية مستقلة وهذا دليل على أن ما كنت تشيعه سابقًا بأن الحكومة الصومالية تتدخل بالبرلمان وترشيه كذب، علمًا أن كل هذا ليس من شأنك ووجود لجنة تحقيق برلمانية في شبهة فساد تصدر نتيجة ضد حكومة شيء إيجابي نفتخر به نتمنى لكم برلمانًا مثله”.
يدرك فرماجو أهمية التنسيق الأمني مع دول الجوار وبالذات مع إريتريا التي وجُهت إلى نظامها اتهامات بدعم حركة الشباب الصومالية المتطرفة
لا يخفى على أحد أسباب الحملة الإماراتية على الصومال، إذ إن الهدف منها يبدو واضحًا وهو محاولة شيطنة حكومة الرئيس محمد فرماجو والتشكيك في إصلاحاته إلى جانب الدفع باتجاه قيام ثورة داخلية عليه بتحريض حكام الأقاليم والشعب ضده، نسبةً لمواقفه التي تقاطعت مع سياسة الإمارات في المنطقة مثل رفضه الانضمام لمحور أبوظبي الرياض في قطع العلاقات مع قطر، إضافة إلى تعامله بحسم مع أبو ظبي، إذ اعترضت حكومة مقديشو على اتفاقيةٍ وقعتها شركة موانئ دبي مع جمهورية أرض الصومال (غير المعترف بها عالميًا)، وبالطبع لعبت علاقات فرماجو الوثيقة مع الرئيس التركي أردوغان دورًا كبيرًا في السخط الإماراتي عليه.
مصالحات القرن الإفريقي.. ترحيب وتشكيك
منطقة القرن الإفريقي شهدت تغيرات مذهلة منذ وصول رئيس الوزراء الإثيوبي الجديد آبي أحمد إلى السلطة مطلع أبريل/نيسان الماضي، فقد تبنى منذ يوم تنصيبه مبادرة لإصلاح العلاقات مع إريتريا ثم قام بزيارة سريعة إلى الصومال يبدو أنها مهّدت إلى اختراق كبير في العلاقات المتوترة بين الصومال ونظام إريتريا، إذ قام فرماجو لاحقًا بزيارة تاريخية إلى العاصمة الإريترية ثم التقى القادة الثلاث أكثر من مرة بين أسمرة وبحر دار الإثيوبية، وينتظر أن تستضيف العاصمة الصومالية مقديشو اللقاء الثالث بين فرماجو وأفورقي وآبي أحمد.
هذه اللقاءات والقمم أثارت جدلًا كثيفًا حتى على مستوى الصومال، اعتبرها كثيرون أنها تشكل إعدادًا لترتيب جديد في منطقة القرن الإفريقي نظرًا لغموض مخرجات القمتين الثلاثيتين وما يدور من حديث عن اتفاقات سرية لم يتم إعلان محتواها بشكل صريح، وما هو متاح إعلاميًا أن قادة الصومال وإثيوبيا وإريتريا اتفقوا على بناء تعاون أوثق في مجالات السياسة والأمن والاقتصاد، كما اتفق الزعماء على العمل لجعل منطقة القرن الإفريقي منطقة مستقرة ومزدهرة.
القمة الثلاثية التي جمعت رؤساء إريتيريا والصومال وإثيوبيا
يدرك فرماجو أهمية التنسيق الأمني مع دول الجوار وبالذات مع إريتريا التي وجُهت إلى نظامها اتهامات بدعم حركة الشباب الصومالية المتطرفة، ولذلك يمكن فهم توجه الرئيس الصومالي إلى بناء علاقات وثيقة مع الجيران لسد منافذ الدعم الخارجي للحركة المتطرفة، ولتبادل المعلومات والخطط الأمنية، كما يتوقع مراقبون أن تكون اللقاءات بين القادة الثلاث توصّلت إلى إرسال قوات إثيوبية وإريترية لملء الفراغ الذي سيخلفه انسحاب بعثة القوات الإفريقية “أميصوم” من الصومال.
ولهذا نرى أن تحركات فرماجو وآبي أحمد وأفورقي تدعم استقرار الصومال أمنيًا، وتصب في إطار تعزيز صورة التعافي الذي تشهده البلاد منذ وصول محمد عبد الله فرماجو إلى السلطة العام الماضي رغم ارتباط التشكيل الجديد للقرن الإفريقي بالرغبة الإماراتية في تغيير المنطقة لصالحها، ولكن على ما يبدو لا يوجد حليف مؤكد لأبو ظبي في القرن الإفريقي سوى أسياس أفورقي، فقد أثبتت الأيام أن فرماجو عصّي على محاولات الاختراق الإماراتية وكذلك آبي أحمد الذي وجّه رسائل واضحة للإمارات من يوم كشفه لما دار بينه وبين ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد “حديث الإسلام ضاع منكم“، وأخيرًا اتصاله بأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني الأسبوع الماضي.
يجزم الأكاديمي والباحث بجامعة شرق إفريقيا، هاشم حسن هاشم لـ”نون بوست، بأن القرار الأمريكي “مؤشر كبير على تحسن الوضع الأمني في الصومال وانحسار الانفلات الأمني بنسبة عالية”
ومن الواضح أن فرماجو تعامل بذكاء مع ترتيبات القرن الإفريقي الجديد حيث ضمِن تحسن علاقات بلاده مع الجيران، وتوصّلت تفاهماته مع آبي أحمد إلى إعادة فتح خط الطيران المباشر بين مقديشو وأديس أبابا بعد غياب امتدّ لـ4 عقود، كما أن هناك تسريبات عن اتجاه الخطوط الكينية لاستئناف رحلاتها مع الصومال وتنشيط حركة نقل الركاب والبضائع بين البلدين، وهذا بالطبع يصب في إطار تعافي الصومال سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا.
عودة البعثة الدبلوماسية الأمريكية نصر جديد لحكومة فرماجو
لا ينبغي أن نمر مرور الكرام على خبرٍ مثل قرار وزارة الخارجية الأمريكية إعادة بعثتها الدبلوماسية إلى مقديشو، حيث تحدّث إلى “نون بوست”، الأكاديمي في جامعة شرق إفريقيا الصومالية هاشم حسن معتبرًا أن “شخصية الرئيس محمد عبد الله فرماجو، لعبت دورًا كبيرًا في عودة السفارة الأمريكية، فهذا الرجل يحظى بدعم جماهيري كبير من المواطنين الصومالين باستثناء بعض من رؤساء الأقاليم الذين يعادونه بسبب مصالحهم الشخصية، وقد كانت سياسته ترتكز على بناء مؤسسات الدولة، ووضع خطط ناجعة في السيطرة على المشكلات الأمنية في العاصمة وخارجها”.
وأضاف: “صانع القرار في واشنطن يرى أن هذا الوقت المناسب لإعادة فتح السفارة في مقديشو بعد التطورات الأخيرة التي شهدتها منطقة القرن الإفريقي، خاصة أن أغلب الدول الأوروبية وغيرها بدأت تفتح سفاراتها في الصومال للاستفادة من الموقع الجغرافي للبلد وموارده الضخمة التي لم تكتشف بعد”.
سياسة الحياد والاستقلالية المطلقة في القرار التي يتبنّاها فرماجو، التي ترتكز أيضًا على إصلاح العلاقات مع دول الجوار، والبحث عن مصلحة الصومال دون الإضرار بالآخرين، من المؤكد أنها ستزعج أعداء الرئيس الإقليميين ووكلائهم في الداخل الصومالي
ويجزم الأكاديمي والباحث بجامعة شرق إفريقيا، هاشم حسن هاشم لـ”نون بوست، بأن القرار الأمريكي “مؤشر كبير على تحسن الوضع الأمني في الصومال وانحسار الانفلات الأمني بنسبة عالية، خاصة أن تركيا وبعض الدول الأخرى تقوم بتدريب أعداد كبيرة من قوات الجيش والشرطة، وقد تخرجت دفعات منهم”، ويختم بقوله: “فتح السفارة هو اعتراف ضمني أيضًا بنجاح سياسة حكومة فرماجو في إدارة المشكلات الأمنية والسياسية للبلد، والتخفيف من آثارها بشكل كبير، وهو ضربة قوية لبعض الجهات الإعلامية التي سعت كثيرًا في طعن الحكومة من خلال تركيز النقاشات عن الأوضاع الأمنية”.
ونعتقد كذلك أن عودة التمثيل الدبلوماسي الأمريكي للصومال ستسرع من وتيرة حملات القضاء على ما تبقى من جيوب حركة الشباب الموجودة في بعض الأقاليم، حيث أقرّ البنتاغون في نهاية شهر مارس/آذار عام 2017 خطة لمنح صلاحيات لبعثة القوات العسكرية الأمريكية في إفريقيا “أفريكوم”، بشن حملة ضد حركة الشباب التي تُصنف ضمن الجماعات الإرهابية.
وفسّر مراقبون آنذاك تلك الصلاحيات على أنها إطلاق يد القوات الأمريكية في اتخاذ قرار شن الهجمات في إفريقيا ضد حركة الشباب، وجاء قرار البنتاغون بعد انتخاب الرئيس الصومالي الحاليّ محمد عبد الله فرماجو الذي يحمل الجنسية الأمريكية.
توقعات بالتصعيد ضد فرماجو
سياسة الحياد والاستقلالية المطلقة في القرار التي يتبنّاها فرماجو، التي ترتكز أيضًا على إصلاح العلاقات مع دول الجوار والبحث عن مصلحة الصومال دون الإضرار بالآخرين، أو جعل الآخرين يوظفون الصومال في خدمة أجندتهم من المؤكد أنها ستزعج أعداء الرئيس الإقليميين ووكلائهم في الداخل الصومالي، ففي الوقت الذي ينبغي على الجميع دعم خطوات التعافي والإصلاح المشهود دفع عدد من نواب البرلمان بمذكرة لسحب الثقة عن الرئيس فرماجو، لم يتم كشف مبررات هذا الطلب ولكن تقول التسريبات إن الأمر يتعلق بوجود اتفاقيات سرية مع إثيوبيا وإريتريا تمت خلال قمتي أسمرة وبحر دار تتضمن نشر قوات من الدولتين في الصومال وربما إقامة قاعدة عسكرية.
رئيس الصومالي فرماجو يتمتع بشعبية واضحة ويمثل صوت الأمل والإصلاح لدى قطاع عريض من المواطنين الصوماليين
لم تتضح الرؤية حتى الآن ولكن مشروعًا كهذا مؤكد أنه لن يمر بسهولة فهو يستلزم الحصول على أغلبية الثلثين في مجلسي البرلمان الصومالي (الشيوخ والعموم)، ولذلك فإن الهدف الأساسي منه ربما يكون صناعة ضجة إعلامية أو تشويه صورة الرئيس والحكومة والتشكيك في سياساته بأنه رئيس معزول جرى التصويت على سحب الثقة منه.
الرئيس الصومالي فرماجو يتمتع بشعبية واضحة ويمثل صوت الأمل والإصلاح لدى قطاع عريض من المواطنين الصوماليين، ولكي يتمكن من مجابهة هذه الحملات المستمرة ينبغي عليه أن يتحلّى ببُعد النظر وانتهاج سياسة الحوار للعمل على احتواء الخلافات الداخلية وتطبيع العلاقات المتوترة بين الحكومة الفيدرالية وحكومات الأقاليم، إلى جانب الحديث بصراحة عن مخرجات لقاءاته مع زعيما إثيوبيا وإريتريا.