في الـ13 من مارس 2016 وخلال حوار أجرته معه صحيفة “عكاظ” السعودية قال الرئيس السوداني عمر البشير تعليقًا على موقف بلاده من الأزمة السورية: “بشار الأسد لن يترك منصبه لأنه يقاتل بكل طائفته وهذه الطائفة مترابطة وتقاتل مع بعضها في سوريا و لبنان والعراق، وأقول بشار لن يرحل، سيقاتل إلى أن يُقتل”.
عكست تلك التصريحات وقتها موقف الخرطوم الواضح مما يحدث في سوريا والتنديد بالجرائم المرتكبة بأيدي الجيش السوري بحق المدنيين طيلة السنوات الماضية، مطالبة بسرعة التدخل لحل الأزمة وإن ألمح البشير خلال الحوار إلى أن نظام بشار لن يرحل إلا بالقوة، معلنًا دعم بلاده الكامل للموقف السعودي الرامي إلى إبعاد الأسد عن المشهد السياسي السوري مستقبلاً.
ولكن دون سابق إنذار، فوجئ الجميع بوكالة الأنباء السورية “سانا” تعلن زيارة البشير لدمشق، أمس الأحد، ولقاءه بالأسد في القصر الجمهوري، وبحث عدد من قضايا التعاون المشترك بين البلدين، حيث نشرت لهما بعض الصور الملتقطة أثناء الزيارة ومراسم الاستقبال.
الزيارة وإن لم تدم أكثر من ساعة ونصف على الأكثر، إلا أن التحول الدراماتيكي في الموقف السوداني أثار العديد من التساؤلات عن الدوافع الحقيقية وراء هذه الخطوة التي تعد الأولى لرئيس عربي يزور دمشق منذ اندلاع الأزمة في 2011 ، فهل يفتح البشير الباب أمام تطبيع عربي مع النظام السوري؟ وهل جاءت الزيارة بمبادرة فردية من الرئيس السوداني أم هناك أطراف أخرى ضالعة في هذا التحرك؟ هذا بخلاف ما يضعه التوقيت ذاته من علامات استفهام.
كسر عزلة الأسد
بزيارة البشير لدمشق يكون أول رئيس يكسر عزلة الأسد عربيًا منذ 7 أعوام، وهي خطوة لها العديد من الدلالات والمؤشرات التي تعكس طبيعة ما وصلت إليه الأزمة السورية بعد هذا السجال الطويل والمنحنيات المتعرجة التي شهدتها طيلة السنوات الماضية، لا سيما في ظل المساعي الحثيثة التي تبذلها أطراف الأزمة لإعداد دستور للبلاد تجرى على إثره انتخابات رئاسية قريبة.
الرئيسان، البشير والأسد، أكدا خلال لقائهما أن “الظروف والأزمات التي تمر بها العديد من الدول العربية تستلزم إيجاد مقاربات جديدة للعمل العربي تقوم على احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وهذا بدوره كفيل بتحسين العلاقات العربية بما يخدم مصلحة الشعب العربي” بحسب سانا.
جزء كبير من مسؤولية تردي الأوضاع الاقتصادية في السودان يرجع لفشل إدارة ملف العلاقات الخارجية، ومن ثم فإن هذه الخطوة تأتي في إطار إعادة النظر في هذا الملف
الرئيس السوداني وفق ما نقلته وكالة الأنباء السورية قال: “سوريا هي دولة مواجهة وإضعافها هو إضعاف للقضايا العربية وما حدث فيها خلال السنوات الماضية لا يمكن فصله عن هذا الواقع ورغم الحرب بقيت متمسكة بثوابت الأمة العربية”، معربًا عن أمله بأن تستعيد عافيتها، ودورها في المنطقة في أسرع وقت ممكن، وأن يتمكن شعبها من تقرير مستقبل بلده بنفسه بعيدًا عن أي تدخلات خارجية، مؤكدًا وقوف بلاده إلى جانب سوريا وأمنها وأنها على استعداد لتقديم ما يمكنها لدعم وحدة أراضي سوريا.
فيما أشار الأسد الذي أعرب عن بالغ زيارته بهذه الزيارة أن سوريا وعلى الرغم من كل ما حصل خلال سنوات الحرب بقيت مؤمنة بالعروبة ومتمسكة بها، موضحًا في الوقت ذاته أن “تعويل بعض الدول العربية على الغرب لن يأتي بأي منفعة لشعوبهم لذلك فالأفضل هو التمسك بالعروبة وبقضايا الأمة العربية”.
حوار عمر البشير مع صحيفة عكاظ السعودية في 2016
لماذا في هذا التوقيت؟
يشهد السودان خلال الآونة الأخيرة موجة من الأزمات الاقتصادية التي عززت من تفاقم الوضع المعيشي لملايين السودانيين، وباتت الطوابير الطويلة للحصول على الخبز والوقود وغاز الطهي وأمام أجهزة الصراف الآلي مشهدًا مألوفٍا في الخرطوم وولايات أخرى منذ بداية العام الحاليّ، فيما شهدت البلاد أيضًا مظاهراتٍ متفرقة احتجاجًا على ارتفاع تكاليف المعيشة.
وعلى الجانب السياسي يسعى النظام الحاكم في السودان إلى إحداث تعديل في بعض مواد الدستور تسمح للبشير بالترشح مرة أخرى، وهو ما يتطلب حملة دعائية قوية، تستند في ركائزها على تحسين الوضع المعيشي وبحث موارد جديدة للدولة، تعزز من شعبية الرجل التي منيت بحزمة من التعرجات الفترة الماضية جراء الفشل في التعامل مع الملفات الاقتصادية العالقة التي أفسدت الحياة على الشعب السوداني.
ليس من المنطقي التسليم بأن الزيارة جاءت بمبادرة سودانية أو سورية دون وجود أطراف أخرى ضالعة في الموضوع، فالطائرة التي أقلت البشير من الخرطوم لدمشق طائرة روسية، بحسب الصور الملتقطة من “سانا”
تلك الأوضاع كانت حاضرة وبقوة في بورصة تأويلات تلك الزيارة، هذا ما أكد عليه الكاتب والباحث السياسي السوداني طلال إسماعيل، الذي أشار إلى أن الزيارة كانت مفاجئة للجميع ودون سابق إنذار أو تمهيد، على الأقل لم يتم الترويج لها إعلاميًا ولم يسبقها أي استعدادات تقليدية بروتوكولية كما هو معهود في الزيارات الأخرى.
إسماعيل في مداخلة تليفزيونية له مع “سكاي نيوز” كشف أن جزءًا كبيرًا من مسؤولية تردي الأوضاع الاقتصادية في السودان يرجع لفشل إدارة ملف العلاقات الخارجية، ومن ثم فإن هذه الخطوة تأتي في إطار إعادة النظر في هذا الملف، بما يفتح الباب أمام مزيد من الدعم، الاقتصادي والسياسي، لنظام البشير خلال المرحلة المقبلة.
هيكلة خريطة التحالفات
ليس من المنطقي التسليم بأن الزيارة جاءت بمبادرة سودانية أو سورية دون وجود أطراف أخرى ضالعة في الموضوع، فالطائرة التي أقلت البشير من الخرطوم لدمشق طائرة روسية، بحسب الصور الملتقطة من “سانا”، هذا بخلاف أن المجال الجوي السوري تحت سيطرة القوات الروسية.
لم يكن للبشير أن يتوجه إلى دمشق دون تنسيق روسي في المقام الأول، وهو ما قد يذهب في اتجاه رغبة الخرطوم في إعادة النظر بخريطة تحالفاتها الإقليمية والدولية، خاصة بعد التوتر الواضح في العلاقات مع الغرب، أوروبا كانت أو الولايات المتحدة، ومن ثم ربما يكون الدب الروسي هو البديل، في ظل تعزيز خطوات التعاون المثمر بين البلدين على مختلف الأصعدة، آخرها القاعدة العسكرية التي انشأتها موسكو في السودان العام الماضي.
رسائل ربما حملها البشير في حقيبته خلال لقائه مع الأسد تتمثل في إبرام صفقة تبادلية، التطبيع العربي مع النظام السوري مقابل تقليص نفوذ إيران وحزب الله داخل الأراضي السورية
الحديث داخل الأروقة السياسية يشير إلى ترجيح انضمام السودان إلى المحور الروسي، بحسب الدكتور محمد عبد العزيز أستاذ العلاقات الدولية بجامعة الإسكندرية، الذي أشار إلى أن البشير بتلك الزيارة يبعث برسالة واضحة للغرب مفادها أنه لو لم يتم إعادة النظر في الموقف من بلاده ستكون موسكو هي الوجهة القادمة، خاصة بعد النجاحات الكبيرة التي حققها الروس في المنطقة خلال الآونة الأخيرة.
عبد العزيز لـ”نون بوست” كشف أن النظام السوداني خلال العقد الأخير على وجه التحديد يتمتع ببراجماتية عالية جدًا، فالبداية حين صدّر نفسه رافعًا للواء الحركة الإسلامية، لكن سرعان ما سقط هذا اللواء كما سقطت ألوية أخرى مع اصطدامها بالمصالح العليا للخرطوم، ومن ثم تأتي هذه الزيارة في هذا الإطار الساعي إلى تغليب مصلحة السودان على أي منهجية فكرية أو سياسية.
وفجأة تحول البشير الى دكتاتور وسفاح سافك للدماء في نظر الاعلام العربي بعد ان كان بطل التوزان معادي للصهيونية والامبريالية
على العموم زيارة البشير لسوريا ليست بقرار شخصي منه او من روسيا فقط، يوجد الكثير من اللاعبين في اللعبة ترقبوا المثير#زياره_البشير_للاسد #اخر_جدعه_لي_بشبش
— SHEKHO (@blue_zol) December 16, 2018
الطائرة التي أقلت الرئيس السوداني لسوريا روسية
تطبيع عربي مقابل تحييد إيران
أستاذ العلاقات الدولية بجامعة الإسكندرية، لم يستبعد كذلك تنسيقًا عربيًا وراء تلك الزيارة، لافتًا إلى أن العزف السوداني على الوتر الروسي لا يتعارض مطلقًا مع التفاهمات العربية لا سيما الخليجية التي تتجنب الخرطوم إحداث أي تصعيد معها، فالمسار المشترك بين تلك القوى، روسيا والسعودية تحديدًا، يذهب إلى تحييد إيران.
رسائل ربما حملها البشير في حقيبته خلال لقائه مع الأسد تتمثل في إبرام صفقة تبادلية، التطبيع العربي مع النظام السوري مقابل تقليص نفوذ إيران وحزب الله داخل الأراضي السورية، وهي الصفقة التي ربما تروق لموسكو في ظل تزايد الشقاق مع طهران بشأن الأدوار المرسومة لكلا القوتين داخل سوريا مؤخرًا.
يتفق مع هذا الطرح الأستاذ في القانون الدولي الدكتور محمد خير العكام الخبير في الشؤون السياسية والدولية، الذي لم يستبعد أن يكون الرئيس السوداني عمر البشير، قد حمل خلال زيارته رسائل إلى الأسد، كاشفًا أن أسباب هذه الزيارة قد تكون سودانية أكثر من كونها سورية.
https://twitter.com/safar2020/status/1074415183928414208
العكام في تصريحات نقلتها وكالة “سبوتنيك” الروسية قال: “على الأقل هذا مؤشر على صدق ما قالته سوريا منذ البداية، إن الدول العربية التي قاطعت سوريا هي التي سوف تأتي إليها، وهذا أول الغيث”، موضحًا أن “شكل الزيارة لها دلالات، كوننا ننظر إلى هذه الزيارة على أنها لرئيس عربي بعد كل ما فعله العرب ضد سوريا، هم اليوم يأتون إلى سوريا وعلينا أن نربطها مع الإشارات التي صدرت من تركيا، فالدول التي عملت على هذه الحرب بدأت تراجع أنفسها، وبدأت تتكيف على أن سوريا انتصرت بهذه الحرب، هذه خطوة واقعية باتجاه القبول بالواقع وبدور سوريا في المنطقة وليس فقط بالحديث عن الرئيس وموقع الرئاسة”.
جدير بالذكر أن وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو، أعرب عن استعداد تركيا للنظر في العمل مع الأسد، إذا فاز في انتخابات ديمقراطية، مشددًا في تصريحات له أمس الأحد على هامش مشاركته في منتدى الدوحة، أن “الأولوية الآن في هذه الفترة هي إنشاء دستور للبلاد، وأن عليهم (الشعب السوري) بأنفسهم إعداد مسودة الدستور”.