نحن مع موعدٍ مع نفس الوقت من السنة مرة أخرى، حيث يبدأ كثيرون بتقييم العام الذي مضى وراءهم ويبدأون بوضع الأهداف والأماني التي يرجون تحقيقها والوصول إليها مع بدء اليوم الأول من العام الجديد الذي ينتظرهم. فكم من شخصٍ منّا قرر أنْ يلتزم بنظامٍ غذائيّ أكثر صحة، أو البدء بممارسة التمارين الرياضية أو التوقّف عن التدخين أو توفير مزيدٍ من المال أو تعلّم المزيد من الأشياء الجديدة بدءًا من اليوم الأول في العام الجديد؟
جميعنا فعلنا ذلك على ما أعتقد، وربّما تشابهت أهدافنا لدرجةٍ أو أخرى، فقد وجد أحد الاستطلاعات التي أجرتها جامعة شيكاغو أنّ 55.2٪ من القرارات المرتبطة ببداية العام الجديد تتعلق بالصحة، سواء فيما يتعلق بالطعام أو الرياضة أو غيرها من العادات الصحية، و34.4٪ منها مرتبطة بالعمل، و5.2٪ منها هي أهداف اجتماعية مثل قضاء مزيد من الوقت مع العائلة ومساعدة الآخرين والاستمتاع بالحياة والتطوّع.
تأثير “البداية الجديدة”: هل تحفّزنا البدايات حقًّا؟
في حال تعاملنا مع الزمن وسيرورته، يمكننا أنْ نرى أنّ ثمّة مناسبات أو أيّام خاصة يمكن النظر إليها على أنّها “معالم زمنيّة” مميّزة، والتي قد تكون بداية كلّ أسبوع أو شهر أو فصل دراسيّ أو عام، أو قد تكون مرتبطة بشهر رمضان أو بذكرى عيد ميلادك، أو بانتقالك لوظيفةٍ جديدة أو منزلٍ جديد، حتى أنّ البعض يمكن أنْ يلجأ لقصّ شعره حتّى يصنع “بدايته” الجديدة دون الارتباط بمناسبةٍ معيّنة.
يتعامل الأفراد مع المعالم والمناسبات الزمنية كفرصة جيّدة للمحاسبة الذاتية وإعادة تقييم الماضي ورسم صورة معيّنة عن ذواتهم الحالية والمستقبلية التي يرغبون في تحقيقها.
يُطلق الباحثون في علم النفس السلوكيّ مصطلح تأثير البداية الجديدة أو البداية الطازجة على هذه الظاهرة. وقد وجدوا بالفعل أنّ معدّلات البحث في شبكات الإنترنت عن كلمة “حِمية” تكون أكثر ارتفاعًا في اليوم الأول من كل شهر وفي اليوم الأول من كل أسبوع. وليست صدفةً أنّ البحث عن تلك الكلمة في محرّك البحث جوجل يزيد بنسبة 82٪ في الأول من كانون الثاني من كل عام.
يرى العلماء أنّ الأفراد يتعاملون مع تلك المعالم الزمنية كفرصة جيّدة للمحاسبة الذاتية وإعادة تقييم الماضي وإعادة رسم صورة معيّنة عن ذواتهم الحالية والمستقبلية التي يرغبون في تحقيقها، إذ تفتح تلك الصورة الطريق أمام الناس لاتخاذ قرارات والبدء بسلوكيّات جديدة موجّهة نحو تحقيق الأهداف المرجوّة.
وبكلماتٍ أخرى، تعمل تلك المعالم الزمنية على إعادة تركيز انتباهنا على “الصورة الأكبر” من ذواتنا وأهدافنا بعيدًا عن ضغوطات الحياة اليومية التي تُبعدنا عن التفكير فيها وتمتصّ من طاقاتنا اللازمة لذلك، ما يجعلنا أكثر قُربًا من صورتنا المتخيّلة والذات المستقبلية التي نرغب بتحقيقها.
لماذا يخفق الكثيرون في تحقيق قراراتهم؟
أظهرت الأبحاث أن حوالي نصف البالغين يقومون باتخاذ عددٍ من القرارات للسنة الجديدة. ومع ذلك، فإنّ أقلّ من 10٪ منهم فقط ينجح في الاحتفاظ بها والعمل على تحقيقها لأكثر من بضعة أشهر. فعلى سبيل المثال، ما يقرب من 80٪ من رواد صالات الألعاب الرياضية الذين ينضمون مع بداية العام الجديد يستقيلون من عضويتهم في الأسبوع الثاني من شهر فبراير. 6 أسابيع ليست بالفترة الطويلة!
وجدت دراسة أنّ أولئك الذين يضعون قرارات السنة الجديدة هم أكثر عرضة بمقدار 10 مرات لتغيير سلوكهم بعد 6 شهور مقارنةً مع الأشخاص الذين لا يفكّرون بأيٍّ من الأهداف السنوية
من الواضح أنه عندما يتعلق الأمر بقرارات الصحة للسنة الجديدة، فإن النوايا لوحدها لا تكفي. لكن وعلى الرغم من أنّ الكثير من الأشخاص لا يحققون أهداف العام الجديد بالضرورة، إلا أنّ هناك بعض الأخبار الجيدة فيما يتعلّق بالموضوع. فوفقًا لواحدة من الدراسات التي نُشرت في مجلة علم النفس السريري، تبيّن أنّ أولئك الذين يضعون قرارات السنة الجديدة هم أكثر عرضة بمقدار 10 مرات لتغيير سلوكهم بعد 6 شهور مقارنةً مع الأشخاص الذين لا يفكّرون بأيٍّ من الأهداف السنوية. ما يجعلنا نتساءل عن الأسباب التي تجعل البعض ينجح في ذلك في حين يفشل البعض الآخر.
ينصح الخبراء بأنّ التركيز على سلوك واحد فقط في كل مرة من المرجح أن يؤدي إلى نجاح أكبر على المدى الطويل
بدايةً علينا أنْ نفهم سبب إخفاقاتنا لنفهم لاحقًا الطرق الفعّالة للاستمرار في الحفاظ على تنفيذها وتحقيقها. فقد يعود سبب إخفاقك إلى تشتيت نفسك بالكثير من القرارات أو السعي لتحقيق الصعب منها دفعةً واحدة، ما يؤثّر لاحقًا بشكلٍ سلبيّ على الشعور بالثقة والكفاءة. ولعلّ الحلّ الأمثل لهذه المشكلة يكمن في محاولة تخصيص الهدف بشكلٍ أكبر ومن ثمّ العمل على تحقيقه بشكلٍ تدريجيّ خطوة بخطوة، مثل إجراء تغييرات في النظام الغذائي في خطوات صغيرة بدلًا من تغييره دفعةً واحدة.
يٌنصح بمشاركة القرارات مع مَن حولك كأفراد العائلة أو الأصدقاء أو زملاء العمل، نظرًا لأنّ الأمر يساعد أكثر في مراقبة السلوكيات المتعلقة بالقرار
كما أنّ تحقيق أهداف صغيرة بشكلٍ تدريحيّ يمكن أنْ يؤدي إلى تعزيز معتقداتك الذاتية عن ذاتك وقدرتك ويزيد من مستوى النجاعة الذاتية “self-efficacy” لديك، وهي مدى اعتقادك ويقينك بقدرتك على إتمام المهام وبلوغ الأهداف. وتنصح الجمعية الأمريكية لعلم النفس أيضًا بأنّ التركيز على سلوك واحد فقط في كل مرة من المرجح أن يؤدي إلى نجاح أكبر على المدى الطويل.
إضافةً لذلك، ينصح أحد المقالات المنشورة في موقع “ذا كونفرسيشن” بمشاركة القرارات مع مَن حولك كأفراد العائلة أو الأصدقاء أو زملاء العمل، نظرًا لأنّ الأمر يساعد أكثر في مراقبة السلوكيات المتعلقة بالقرار، كما يمكن للمشاركة أيضًا أنْ تزيد من مستويات التحفيز والتشجيع لا سيّما إنْ وجدتَ من يشاركك بنفس الأهداف.
والأهم من ذلك، ينصح المقال نفسه بضرورة الصبر وتحمّل الهفوات الممكنة، فالعادات السيئة قد تستغرق شهورًا أو سنوات حتى يمكن التخلّي عنها أو استبدالها بأخرى أكثر صحية، ولا يوجد حلول سريعة لإجراء التغييرات الكبيرة في نمط حياتك، وما يهمّ فعلًا هو أنْ تتعلّم من أخطائك. ولا تنسَ أنّ كلّ يوم يمكن له أن يكونَ يومًا جديدًا.