رغم تعدد الجاليات الأجنبية في مصر على مر العقود والحقب الزمنية المتلاحقة، فإن الجالية اليونانية كانت الأكثر خصوصية في هذا المضمار، إذ ظلت ولا تزال لها رائحة مميزة في التاريخ المصري، إلى الحد الذي كان من الصعب فيه أحيانًا خلال بعض المراحل التفرقة بين ما هو مصري ويوناني.
حالة من الالتحام والاندماج المجتمعي عايشها اليونانيون في مصر منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى كتابة هذه السطور، ورغم عوامل التعرية السياسية والجغرافية التي أثرت بشكل كبير على حضور تلك الجالية في المجتمع المصري غير أن رائحتها تتناثر في شوارع وأزقة ومحال ومقاهي مدينة الإسكندرية، كما تحتفظ بعبقها الجذاب في العاصمة القاهرة وبعض مدن الوجه البحري.
نجح اليونانيون في حفر أسمائهم بأحرف من نور في سجلات التاريخ المصري خلال القرنين الماضيين، فكانوا ركنا مهمًا في دفع قاطرة التنمية لا سيما على الجانب الاقتصادي والخيري، حتى وقت الأزمات كانوا جنبًا إلى جنب إلى جوار المصريين، وهو ما دفع بعضهم للقول إنه لا يشعر إن كان في مصر أو اليونان.. ليبقى السؤال: إن كان الأمر كذلك فلماذا تقلصت أعدادهم إلى هذا الحد؟
الجالية اليونانية
“اليونانيون كانوا في كل حتة بمصر من أسوان إلى الإسكندرية”.. بهذه الكلمات استهل رئيس الجالية اليونانية بالإسكندرية إدموند نيكولا أكاسيماتس، حديثه معلقًا على العلاقات التاريخية بين الشعبين، المصري واليوناني، مضيفًا “كان لليونانيين وجود في جميع المحافظات، ولكن العدد الأكبر كان في الإسكندرية ثم القاهرة مرورًا ببورسعيد وأسيوط وأسوان وقد بلغ عددهم نحو 400 ألف”.
إدموند البالغ من العمر 80 عامًا أكد أن لليونانيين والمصريين طباعًا واحدة وسمات مشتركة لا تتوفر بين شعبين آخرين، وذلك منذ الفراعنة وحتى الآن، لافتًا إلى أنه قد وجد في الحفائر الأثرية المصرية بعض الآثار اليونانية وهو ما يكشف حجم التاريخ المشترك والأصيل بين البلدين.
تأسست الجالية اليونانية بمصر في مدينة الإسكندرية عام 1843 على أيدي عدد من رجال الاقتصاد اليوناني المقيمن في مصر وقتها، أعقبها تدشين مقار للجالية في عدد من المدن الأخرى أبرزها القاهرة وبورسعيد والإسماعلية وميت غمر وأسيوط.
هدفت تلك الجمعيات بداية الأمر إلى تحقيق هدفين: الأول النهوض بأفراد الطائفة اليونانية ورعاية مصالحها وهو الهدف الطبيعي لأي كيانات تدشنها الجاليات المقيمة في مصر، غير أن الهدف الثاني تمثل في خدمة الوطن المصرى عن طريق العمل الصالح المنتج، وتأييد القضية الوطنية المصرية.
الاندماج في المجتمع المصري
لم يتعامل اليونانيون المقيمون في مصر على أنهم وافدون في دولة أجنبية بل اعتبروا أنفسهم أبناء هذا البلد، يفرحون لفرحه ويتألمون لألمه، ويشاركون أبناءه همومهم ومشاكلهم، وهو ما تجسده مواقفهم التاريخية خلال الأزمات التي واجهتها الدولة المصرية طيلة العقود الطويلة الماضية.
ففي فترة الاحتلال الأجنبي المصري، شارك اليونانيون المقيمون في مصر في أعمال المقاومة بالنفس والمال وقدموا النقود والتبرعات وأعلنت الجالية اليونانية في مصر وقتها أن 223 فردًا من أفرادها انضموا إلى جيش التحرير في بورسعيد، كما أقبل الكثير منهم على مراكز التدريب في أعمال التمريض وتطوع بعضهم بتقديم ملابس لجنود مصر.
علاوة على ذلك فقد تميزوا بالأعمال الخيرية التي تصب في صالح المجتمع المصري، إذ أنشأوا عشرات المستشفيات والمراكز الصحية الخيرية، هذا بخلاف ملاجئ الأيتام والعجزة، مثل ملجأي بناكي وكانيز كيرن ويعد المستشفى الذي أنشأه تيوخارى كوتسيكا واحدًا من أكبر مستشفيات مصر على الإطلاق في القرن التاسع عشر.
كذلك أنشأ اليونانيون عشرات المدارس التي تميزت بروعة البناء والتصميم والمستوى الجيد للمناهج الدراسية والعلمية بها، فكانت المدرسة اليونانية المعروفة في باب اللوق بالقاهرة، أيضًا المدرسة العبيدية التي لها قصة طويلة من النزاع بين العائلة اليونانية التي أنشأتها وكانت تسميها “آييت” والأقباط وذلك بعد تمصير العائلة البانية للمدرسة واتخاذ اسم آخر لهم “عبيد” هذا الاسم الذي اعتبره الأقباط تابعًا لهم ومن ثم طالبوا بحقهم في المدرسة.
“كانت الحياة مختلفة كثيرًا عن الوضع الحاليّ، كانت الإسكندرية فعلاً كالحلم، تحفل بالمسارح ودور العرض” ميشال أرسناليدس، صاحب سينما “أوديون” بالإسكندرية
إمبراطورية اقتصادية
نجح اليونانيون في تكوين إمبراطورية اقتصادية داخل السوق المصرية، إذ برعوا في مختلف الأنشطة التجارية على رأسها تجارة القطن، وكانوا أكبر التجار المضاربين في بورصتي العقود ومنيا البصل على رأسهم “خوريمي” و”بناكي” و”سلفاجو لوسكارس” وغيرهم.
علاوة على ذلك فقد امتلكوا ما يقرب من 35% من مجموع الأسهم في جميع البنوك المصرية والشركات المساهمة على اختلاف أنواعها وجنسياتها، إضافة إلى اختراقهم لمنظومة العمالة داخل البنوك، إذ كان ليون كاسترو نائبًا لرئيس مجلس البنك التجاري المصري منذ يناير سنة 1944، كذلك بنك الأراضي المصري الذي كان يعمل به قطاع كبير من اليونانيين.
هذا بخلاف ما تميزوا به في صناعة الزيوت، فكان مصنع الخواجة زيربيني في كفر الزيات من أكبر مصانع الزيوت في مصر بالإضافة إلى مصانع السجائر والأخشاب، كما علمت الجالية اليونانية في جميع المهن منها الترزي (الخياط) والنجار والغرسون وأصحاب البقالات وبائعي الأقمشة، وفي شارع كنيسة الأقباط بالإسكندرية يوجد حتى الآن مقهى طناشي الذي يجتمع فيه سائقو التاكسي اليونانيون وأصحاب الحرف البسيطة.
كما يعتبر النادي البحري اليوناني في الإسكندرية أول نادٍ رياضي بحري تأسس في مصر عام 1909 وكانت تمارس فيه مسابقات الرياضات المائية بين جميع طوائف الشعب، واليوم تحول إلى متنزه للجالية اليونانية أو اليونانيين القادمين من بلادهم للسياحة واستعادة الذكريات في أرض المحروسة.
النادي البحري اليوناني بالإسكندرية
الإسكندرية.. مدينة كوزموبوليتية ساحرة
عُرف عن اليونانيين عشقهم لمدينة الإسكندرية، فقد كانوا يصفونها بـ”المدينة الكوزموبوليتية الساحرة” حيث كان يلتقى أبناء الجالية اليونانية في بارات ومقاهي وميادين المدينة كل ليلة، يتسامرون حتى الفجر، يتنعمون بالسير على شواطئها، ويتنسمون عبق تاريخها الذي سطرته أقلام كبار المؤرخين والشعراء، اليونانيين منهم وغير اليونانيين.
فالشاعر اليوناني الشهير كونستنتين كفافيس، الذي لقب بـ”شاعر الإسكندرية”، عرف عنه هيامه بالإسكندرية، فقد ولد ومات فيها، كذلك بيريكليس مونيوديس الذي كتب عن بقايا اليونانية في المدينة، وجيورجيوس سيفيريس الذي فتنه قمر الإسكندرية، والشاعرة أفيجيني بينزوده التي ناجت الإسكندرية وكفاح أهلها، وكتبت عنها إليزابيث تسارس 16 كتابًا تمجد تاريخها عبر السنين.
وفي حديثه مستعرضًا ذكرياته عن المدينة قال ميشال أرسناليدس، المهندس اليوناني، صاحب سينما “أوديون” بالإسكندرية،: “كانت الحياة مختلفة كثيرًا عن الوضع الحاليّ، كانت الإسكندرية فعلاً كالحلم، تحفل بالمسارح ودور العرض، وقد ورثت عن والدي السينما، وأتذكر يوم افتتاحها في سبتمبر/أيلول 1953 حيث كنا نعرض فيلميين: مصري وهندي أو مصري وأوروبي، بعد ذلك أصبحت السينما درجة أولى وأصبحنا نعرض فيلمًا واحدا يكون أمريكيًا، لأنها غزت عالم السينما في التسعينيات، أما الأفلام اليونانية فكان يتم تصويرها في مصر قبل الحرب”.
“السبب الوحيد لخروج اليونانيين من مصر كان اقتصاديًا، حيث تراجعت مصادر رزقهم ومن ثم انقطاعها نهائيًا” الكاتبة نجاة عبد الحق
أما الدكتور اليوناني سبيردون كملاكس، فاستحضر سنوات حياته بالمدينة قائلاً: “عشت أيامًا حلوة في اﻹسكندرية وبعد ما تخرجت من الجامعة اشتغلت في صيدليات اﻹبراهيمية وعندما أردت فتح صيدلية خاصة بي كان هناك شرط الحصول على الجنسية المصرية وبعدها سافرت إلى اليونان واشتغلت هناك”، وأضاف: “أكلت عيش وملح مع المصريين وشربت من مياه النيل بنسبة 100%، ولكن حلم اﻷجزخانة جعلني أترك مصر، وسافرت لليونان وفتحت اﻷجزخانة، ولكن لم أنس مصر أبدًا ﻷنها في قلبي”.
فيما أكد خرستو خرستوفيدس المهندس الميكانيكي اليوناني الذي عاش قرابة الـ16 عامًا في مدينة اﻹسكندرية أن اليونانيين جاءوا إلى مصر قبل اﻹسكندر اﻷكبر، واليونان ومصر منذ آلاف السنين بلد واحد، كاشفًا أن ما يقرب من 150 ألف يوناني في بلاده مصريو الطباع، موضحًا أنه يزور نادي اليونانيين في اﻹسكندرية ويصطحب أولاده ليعرفهم على اﻷماكن التي عاش فيها قائلاً “أماكن كلها بركة وخير”.
الجالية اليونانية خلال المشاركة في افتتاح كنيسة بالإسكندرية
ما الذي حدث؟
ارتبط عدد اليونانيين بمصر بالمتغيرات السياسية، ففي عام 1917 وبينما كانت الحرب العالمية الأولى على أشدها بلغ عددهم 56731 نسمة، ثم زاد بعد انتهاء الحرب ليصل إلى 76264 غير أن العدد تقلص منذ سنة 1937 عندما تم الاتفاق على إلغاء الامتيازات الأجنبية في مؤتمر مونتري إذ بلغ عددهم 68559 يونانيًا، واستمر تناقصهم حتى وصل إلى 57427 سنة 1947.
لكن بعد إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية وبداية مرحلة التأميم في عهد جمال عبد الناصر، نزح عشرات الآلاف من اليونانيين إلى بلادهم تاركين مصر، في موجة هجرة غير مسبوقة منذ قدومهم إلى المحروسة، حتى وصل عددهم اليوم إلى أقل من خمسة آلاف معظمهم في مدينة الإسكندرية ومنطقة مصر الجديدة بالقاهرة.
الكاتبة نجاة عبد الحق في كتابها “الطوائف اليونانية واليهودية في مصر… النشاط الاقتصادى والابتكار قبل ناصر” أشارت إلى أن تقلص أعداد أفراد الجاليات الأجنبية ورحيل الكثير منهم من مصر لم يبدأ فقط بعد ثورة يوليو، مشيرةً إلى قانون التمصير لعام 1947 الذي فرض على الشركات الأجنبية تمصير إدارتها وتشغيل نسبة من المصريين لا تقل عن 51% من العاملين، وأن تكون مراسلات الشركة باللغة العربية.
تراجع تقبل المصريين للآخر لا سيما غير العرب، بفضل الحملات الثقافية التي اعتمدت الخطاب القومي في فترة الخمسينيات والستينيات، أثر بشكل كبير على حياة اليونانيين في مصر، ما دفع الكثير منهم للهجرة
وأضافت أن السبب الوحيد لخروج اليونانيين من مصر كان اقتصاديًا، حيث تراجعت مصادر رزقهم ومن ثم انقطاعها نهائيًا، وعلى عكس اليهود الذين خرجوا في غضون عشر سنوات خرج اليونانيون على مدار ثلاثين عامًا بداية من عام 1927 وانتهى مع قوانين التأميم والإصلاح الزراعي نهاية الخمسينيات.
يشاطرها الرأي الدكتور أحمد عفيفي أستاذ التاريخ بجامعة القاهرة، الذي أشار إلى أنه بجانب البُعد الاقتصادي الذي كان وراء تقليص أعداد الجالية اليونانية في مصر فهناك جانب ثقافي ومجتمعي آخر، لافتًا في حديثه لـ”نون بوست” إلى أن التغير الذي شاب العقل المجتمعي المصري بشأن قبول الآخر كان له تأثير كبير في هذا النزوح.
أستاذ التاريخ أضاف أن تراجع تقبل المصريين – عكس ما كان عليه الوضع سابقًا – للآخر لا سيما غير العرب، بفضل الحملات الثقافية التي اعتمدت الخطاب القومي في فترة الخمسينيات والستينيات، أثر بشكل كبير على حياة اليونانيين في مصر، ما دفع الكثير منهم للهجرة، كاشفًا أنه التقى عشرات اليونانيين الذين كانوا يقيمون في الإسكندرية واضطروا للرحيل بعدما لمسوه من عدم تقبل بعض المصريين لهم ما أشعرهم بالخطر على حياتهم.
وفي المجمل تظل الجالية اليونانية واحدة من أكثر الجاليات اندماجًا وتأثيرًا في المجتمع المصري، ويبقى اليونانيون الشعب الأقرب للمصريين على مر التاريخ، وتبقى الإسكندرية قبلة اليونانيين الباحثين عن استرجاع ذكرياتهم الجميلة فوق أرض كانوا يعتبرونها بلدهم الثانية وشعبًا تقاسموا معه أفراحه وأطراحه.