ترجمة وتحرير: نون بوست
في حدث نظمته جمعية آسيا في مدينة نيويورك الأمريكية للنظر في شؤون فئة مهمشة من الشعب الصيني يقدر عددها بالملايين، تحدث القائمون على الحدث عن مسلمي الأويغور المحتجزين في مراكز الاعتقال في منطقة سنجان غرب الصين على يد السلطات الأمنية للبلاد. عندما كنت أتابع ما يحدث، اقترب مني شاب صيني وطرح علي سؤالا بلهجة شابها الشعور بالقلق: “أنا شاب من قوم هوي، وهي أكبر مجموعة أقلية مسلمة في الصين، ويخشى قومي أن يلقوا مصير الأويغور داخل المجتمع الصيني. هناك مجموعات مناهضة للطعام الحلال المتوافق مع الشريعة الإسلامية وهم يبذلون أقصى ما في وسعهم لإغلاق مطاعمنا. ما الذي تعتقد أنه سيحدث؟”
في واقع الأمر، لا تبشر الأخبار القادمة بشأن الهوي أو الأويغور بخير على الإطلاق. ففي شهر كانون الثاني/ ديسمبر الماضي، أزالت العديد من المقاطعات معاييرها المعتمدة للأطعمة الحلال، في خطوة وصفها المسؤولون الحكوميون بأنها تندرج في إطار محاربة التوجه السائد نحو الطعام الحلال، الذي يدّعون أنه يتجاوز مجال الطعام ليتشعّب تأثير الشريعة الإسلامية ويمتد نفوذها إلى الجانب العقائدي للمجتمع. ويعتبر هذا التوجه مناقضا للسياسة الحكومية السابقة، التي لطالما شجعت على تطوير التجارة الحلال لتدعيم الصادرات.
في هذه الأثناء، أُغلقت ثلاثة مساجد بارزة خلال هذا الأسبوع، وهو ما أثار موجة من الاحتجاجات، وقد شملت حملة إغلاق المساجد جميع المقاطعات والمدن في البلاد تقريبا، ناهيك عن إجبار عدد آخر منها على القيام بإعادة هيكلة وفق المعايير الصينية. علاوة على ذلك، عزز الحزب الشيوعي حضوره في المناطق التي يقطنها المسلمون الصينيون، حيث تُعلّق صور متنوعة للرئيس شي جي بينغ في العديد من المواقع البارزة، في حين تُغطّى الجدران بالشعارات الماركسية.
تعتبر الأطعمة الخاصة بالأقلية المسلمة بخسة الثمن ومنتشرة في جميع أنحاء البلاد، وتتميز المطاعم التي تقدم هذه المأكولات بالكتابات العربية وصور المساجد الكبرى المعلقة على الجدران
يعيش في الصين أكثر من 20 مليون مسلم، وهناك 10 أقليات مسلمة تقليديا من أصل 55 أقلية معترف بها في الصين، التي يشكل الأويغور والهوي أغلبيتها الساحقة. ويعود تاريخ الدين الإسلامي في الصين إلى ما يناهز 1000 سنة، وهي فترة طغت عليها المواجهات السابقة بين السلطات الإمبريالية والمسلمين، خاصة حرب أقلية الهوي في القرن التاسع عشر، التي عرفت باسم “ثورة دونغان”.
تعتبر الأطعمة الخاصة بالأقلية المسلمة بخسة الثمن ومنتشرة في جميع أنحاء البلاد، وتتميز المطاعم التي تقدم هذه المأكولات بالكتابات العربية وصور المساجد الكبرى المعلقة على الجدران. لكن بالتزامن مع تنامي الإسلاموفوبيا في الصين خلال السنوات الأربع الماضية، عملت هذه المطاعم على إزالة أي دليل يشير إلى انتماء أصحابها الديني بشكل علني.
لا تستهدف الصين الدين الإسلامي فقط، حيث تطالب الحكومة المركزية في بكين بفرض الرقابة على جميع الديانات والعقائد. وفي السابق، كانت إدارة الدولة للشؤون الدينية في الصين تشرف على عمليات الرقابة، لكن هذه الهيئة وقع حلها خلال شهر آذار/ مارس الماضي وتم تعويضها بإدارة عمل الجبهة المتحدة، التي تعكس سيطرة الحزب الشيوعي على المجتمع المدني على المستوى المحلي.
يبدو أن حل إدارة الدولة للشؤون الدينية مثلّ نهاية العديد من علاقات العمل بين الإدارة والجماعات الدينية، حيث غادر معظم الموظفين السابقين، في حين أصبح وانغ تسوهان، رئيس الإدارة الذي لطالما كان معروفا بإجراءَاته المتساهلة نسبيا، واحدا من 10 نواب ووزراء في إدارة عمل الجبهة المتحدة. ويعتبر تسوهان رجل الكرسي بامتياز، حيث لا يعمل معه أي موظفين تقريبا، ولا يمتلك أي دور محدد أو سلطة.
في هذه البلاد، التي تحولت إلى بيئة أكثر قسوة بالنسبة للمؤمنين، واجه المسيحيون في جميع أنحاء البلاد موجة من القمع
في تعليقه على الوضع الحالي في الصين، علق أحد المسؤولين الغربيين، الذي رفض الكشف عن اسمه، والذي يتمتع بخبرة طويلة في العمل مع المنظمات غير الحكومية الدينية في الصين، أن إدارة الدولة للشؤون الدينية عُوِّضت بإدارة تمثل حاجزا بين الممارسات الشرعية والاحتياجات ومطالب الحزب الشيوعي، وتحولت الآن إلى أداة تحكم علني وصريح. وأضاف المسؤول أن هذه الإدارة كانت تسعى لتكفل الممارسات الدينية، لكنها اليوم باتت تسعى لتوظيف الدين لصالح الحزب. وتحت ضغط بيئة حزبية داخلية متزايدة التوتر، اضطر المسؤولون المحليون إلى التخلي عن سياسات التسامح المحلي لصالح فرض تطبيق صارم.
في هذه البلاد، التي تحولت إلى بيئة أكثر قسوة بالنسبة للمؤمنين، واجه المسيحيون في جميع أنحاء البلاد موجة من القمع، حيث تم اعتقال عدد من الوزراء البارزين وإغلاق الكنائس وفرض حظر على مبيعات الكتاب المقدس على الإنترنت، بالإضافة إلى إزالة الصلبان. كما أن طائفة البوذية التبتية، التي تتم مراقبتها عن كثب، تخضع لمراقبة أكثر من أي وقت مضى. وحتى الديانات الصينية المعروفة، مثل الطاوية والبوذية غير التبتية، تمر بوقت عصيب، حيث تم حرمانها من الحصول على إذن للسكن في المباني الجديدة أو المشاركة في الفصول الدراسية، كما تُصعّبَ عليهم العديد من الإجراءات.
مع ذلك، يمثل الانقلاب على الإسلام المثال الأبرز وربما الأكثر شراسة على الحملة القمعية الدينية في الصين. وفي جزء كبير منه، ينبثق هذا القمع من اعتماد نظام حكم شمولي في شينجيانغ، حيث يتم الآن تأويل أي ممارسة إسلامية من قبل الدولة الأمنية كدليل على التطرف المحتمل. في الحقيقة، كانت بعض المجتمعات المسلمة الأخرى قادرة في السابق على تحمل العاصفة جزئيا لأن أفرادها من الأويغور أُجبروا على العودة إلى شينجيانغ. حتى أن دعاة السلفية على الطريقة السعودية كانوا قادرين على العمل في نينغشيا وأماكن أخرى.
لكن، مع اشتداد الحملة المناهضة للإسلام في شينجيانغ، تبنّت مقاطعات أخرى اليوم الأفكار نفسها، خشية اتهام قادتها باللين في التعامل مع الإرهاب أو بالتعاطف الإيديولوجي مع الإسلام. وفي الواقع، هذا هو الحال مع مسؤولي الحزب الذين ينتمون إلى عائلات إسلامية. فقد تم القبض على العديد من المسؤولين الأويغور بسبب كونهم منافقين، إذ يمثلون أنفسهم كأعضاء مخلصين للحزب بينما كانوا متعاطفين سراً مع الدين. في هذا السياق، أخبر أحد الموظفين الصينيين من شعب الهان، الذي يعمل في بعض المناطق الإسلامية، مجلة “فورين بوليسي” قائلا: “لقد اعتادوا أن يطلبوا من المسؤولين الذين ينتمون لقوم الهوي المساعدة في التعامل مع شؤون منطقتهم بحرص شديد، أما الآن، إذا كنت من قوم الهوي، فعليك أن تكون أكثر قسوة مع شعبك”.
أصبحت الحملة العدوانية الجديدة تجاه أقلية الهان رائجة بفضل الإنترنت، حيث ساعدت بكونها واحدة من الأشكال القليلة المتبقية من الخطاب السياسي العام المسموح به
كانت هذه الحملة التي أطلقتها الدولة، والتي برزت في السنوات الأربع الماضية، مدعومة من قبل بعض الجماعات المعادية للإسلام. علاوة على ذلك، كانت العنصرية ضد الأيغور حاضرة، لكنها كانت تركز في السابق على العرق وليس على المعتقدات. وقد بدأت حملة الكراهية الجديدة هذه بعد الهجوم الإرهابي على محطة قطار في مدينة كونمينغ الجنوبية سنة 2014، حيث قام ثمانية مهاجمين من الأويغور بقتل 31 راكباً.
أصبحت الحملة العدوانية الجديدة تجاه أقلية الهان رائجة بفضل الإنترنت، حيث ساعدت بكونها واحدة من الأشكال القليلة المتبقية من الخطاب السياسي العام المسموح به. وقد شعر العديد من الأصدقاء والزملاء الصينيون، وحتى الليبراليون، بالغضب من عدم ذكر الإسلام، حيث اعتبروا الغربيين مناهضين للصين ومتحيزين للإسلام. وعلى الرغم من أن الخطابات الأخرى على الإنترنت قد وُضع حد لها، إلا أن الرقباء بالكاد أحسوا أن هناك سوء معاملة تجاه المسلمين، أو أن هناك دعوات إلى تسليط العنف ضدهم.
خلقت هذه الحملة المعادية للإسلام في مخيلة المناهضين فكرة وجود حركة للاستحلال وهو أمر مماثل لما يعتقده المشرعون الأمريكيون الريفيون الذين يخشون أن يبدأ الملاليون في نشر أفكارهم في البلاد. ولطالما شكل الطعام نقطة نزاع؛ فكثيراً ما كان الشباب الأويغور يتجنبون الأكل في المطاعم التي لا تقدم أكلات حلال، ليس لأسباب دينية بل كبادرة للتحدي الثقافي.
مع ذلك، أصبح الاستهلاك القسري للحم الخنزير الآن أمرا عاديا في مدينة شينجيانغ. ويعتقد الصينيون المعادون للإسلام أن المسلمين يرغبون في فرض منتجاتهم على حساب المنتجات الصينية، حيث أن تقديم بعض المأكولات الحلال علامة على تهديد وشيك. فعندما قدمت إحدى تطبيقات التوصيل أطعمة حلال من بين الخيارات، واجه المسلمون موجة من الكراهية على الإنترنت.
في هذا الصدد، تتعدّد المخاوف إذ أن الصينيين قلقون للغاية بشأن سلامة الأطعمة والأغذية الحلال حيث أن كينغشان، التي تعني “إسلامي” أو “نقي ونظيف” حسب الترجمة الحرفية، رسّخت اعتقادا بأن مستهلكي المنتجات الحلال يتميزون عن غيرهم، علاوة على أنها تزعم أن شعب الهان قذرون. ويرتبط هذا الأمر باعتقاد راسخ عند شعب الهان الصيني مفاده أن الأقليات العرقية تحظى بمعاملة خاصة تتجسد في سياسات حكومية مكنتهم من نقاط إضافية في امتحانات الالتحاق بالجامعة، ومن تنظيم أسري متساهل، كما هو الحال مع مبدأ التمييز الإيجابي في الولايات المتحدة الأمريكية، إذ كانت تلك السياسات فعلية.
تشهد قومية الهان اليوم اهتماما أكبر في صفوف عامة الصينيين ومن قبل الدولة على حد سواء
لكن خلافا لذلك، كان شعب الهان يتغاضى عن التمييز الذي يواجهه المواطنون الصينيون من غير الهان يوميا. في الأثناء، انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي في المجتمع الصيني أخبار زائفة حول الأعمال الوحشية التي ارتكبها عنصريون في حق المسلمين في الغرب. ومن المحتمل أن يكون هناك سبب آخر وراء الإسلاموفوبيا في الصين. في الحقيقة، تحتاج قومية الهان، التي اكتسبت قوتها حديثا، إلى عدو داخلي ويعتبر الإسلام الهدف الأنسب في هذا الإطار.
في هذا السياق، اتخذت جمهورية الصين الشعبية الاتحاد السوفيتي كقدوة إذ تصور نفسها على أنها دولة متعددة الأعراق. ونجح الهان الصينيون، على غرار الروس في الاتحاد السوفيتي، في فرض هيمنتهم على نطاق واسع. لكن، أدانت البيانات الرسمية الصادرة عن السلط العليا المركزية العرقية لشعب الهان على الأقل.
على الرغم من ذلك، تشهد قومية الهان اليوم اهتماما أكبر في صفوف عامة الصينيين ومن قبل الدولة على حد سواء. وقد تم تقييد تعليم لغة الأقليات بشكل كبير حتى بالنسبة للأقليات التي يتم التعامل معها بشكل إيجابي على غرار الكوريين، إذ تقلص عدد المدارس التي تقدم دروسا بلغتهم الأم، من العشرات إلى عدد ضئيل جدا. تجدر الإشارة إلى أن خطاب الدولة يدفع نحو خط عرقي وقومي بحت.
غالبا ما تعتمد الهوية الجديدة على خصم مقنع. في هذا الصدد، قد يفضل الحزب الشيوعي أن يرى شباب الهان من الرجال والنساء العدو على أنه أمريكي، إلا أن هذا الأمر يعتبر مستحيلا في بلد يبدي إعجابا شديدا بمسلسل “نظرية الانفجار العظيم” الأمريكي، ويعتبر التحاق الابن بجامعة هارفارد الأمريكية نجاحا. في المقابل، يجعل هذا الأمر من الإسلام العدو الأمثل. وينظر لدين الإسلام على أنه أجنبي في حين أنه منتشر في جميع أنحاء الصين، لكن الدولة تعتبره غير مقبول إيديولوجيا. وعلاوة على ارتباطه بالإرهاب، فإن الإسلام، حسب رأي الأغلبية الساحقة من شعب الهان، يخلو من أي عمق ثقافي أو سياسي.
أما المسلمون في الصين، الذين تعتبر أعداد كبيرة منهم نفسها مواطنين مخلصين، فيعد هذا الانقلاب ضد معتقداتهم وتاريخهم مأساة حقيقية. لكن مع وجود هذا الخوف من الإسلام الذي يعززه الرعب في سنجان وغضب عامة الصينيين، قد يكون القادم أسوأ.
المصدر: فورين بوليسي