طوال حياتي لم تهمني الملابس حتى وصلت إلى المرحلة الجامعية، معظم الوقت كنت أتقاسم أنا وأختي ملابس الخروج ذاتها، بعد ذلك تغير كل شيء، أصبحت أرى الجميع يتأنق من حولي، أكاد لا أرى إحدى زميلاتي تُكرر ما ترتديه مرتين، وفي محاولة مني لمواكبة ذلك التطور بت أكثر اهتمامًا بمظهري وبما ترتديه الأخريات، لكنني أيضًا كنت أبحث عن الأسعار الرخيصة، لأشترى أكبر كمية من الملابس أستطيع التبديل بينها.
لذلك توجهت لتلك المحال التي تبيع القطعة الواحدة بعشرة جنيهات، فأستطيع شراء عشرة قمصان فقط بمئة جنيه، وكانت تلك صفقة رابحة بالنسبة لي، لم أفكر من قبل هل هي علامة تجارية مقلدة أم ماذا، بل لم أكن أعرف ما العلامات التجارية من الأساس! ولم يكن يهمني حقًا أين صنعت تلك الملابس، وإن كان معظمها صنع في الصين، لكن لم يدر بذهني أبدًا الشخص الذي يصنع تلك الملابس الرخيصة.
من الذي يصنع ملابسنا حقًا؟
هل سبق وفكرت في ملابسك؟ من يصنعها؟ ماذا يحدث لها عندما تتبرع بها أو تتخلص منها؟ هل فكرت من قبل في صناعة الأزياء؟ كيف كان آباؤنا يشترون ثلاثة أو أربعة قمصان في السنة الواحدة بينما الآن نحن نشتري أكثر من ذلك في الشهر الواحد؟
إنها ببساطة الموضة الرخيصة، الملابس المصنعة في الصين وبنجلاديش وبعض الدول النامية التي تعتمد على العمالة الرخيصة، لتنتج العديد من الأزياء ذات الخامات المتوسطة أو السيئة والأسعار المنافسة.. إنها المنافسة، الأمر كله يتعلق بها، بالجشع كذلك والخوف والنفوذ واستغلال الفقر.
الملابس فيما مضى تختلف كثيرًا عن الآن، ففي الماضي عندما كان أحدهم يرغب بشراء الملابس لم يكن عليه سوى الاتجاه إلى أحد الخياطين أو عروض الأزياء، بعد ذلك أصبح هناك مصانع الملابس، عاملون يأخذون رواتبهم من خلال صناعة كم محدد من الملابس، لديهم تأمينهم الصحي وراتبهم الشهري وعلاواتهم الثابتة، يعملون في مكان ملائم ولم تكن صناعة الملابس تشكل تلك النسبة الكبيرة التي تشكلها الآن من دخل أي دولة.
تقول لوسي سييغل Lucy siegle وهي صحفية وكاتبة بريطانية في الوثائقي الخاص بشبكة “نت فيليكس” “The True Cost”:
“لقد اعتدنا وجود نظام، حيث يحضر الناس عروض الأزياء، في الربيع والخريف والصيف والشتاء، تلك العروض كانت قائمة لأعوام عديدة، لكن لم يعد هذا حال صناعة الأزياء في يومنا الحاليّ، لقد أعيد تشكيلها”.
لوسي سييغل
هل سألت نفسك من قبل ما الذي يحصل عليه العامل الذي يصنع لك تلك الملابس؟ من دولارين إلى 4 دولارات في اليوم، وإذا كان طفلًا قد يحصل على 10 دولارات في الشهر الواحد، وقد ينتهي به الأمر ميتًا بسبب المواد الكيميائية المستخدمة في صناعة الملابس أو محروقًا أو تحت أنقاض أحد المباني المنهارة.
لا يقع عاتق الأمر بأكمله على مستهلكي الموضة السريعة أو على أصحاب تلك المصانع أيضًا، لكن جزءًا كبيرًا من ذلك يقع على عاتق أصحاب العلامات التجارية، الشركات التي تتنافس فيما بينها على مد السوق بالمنتجات الرخيصة – بل الأرخص – وتتنافس في التفاوض مع المصانع، وبينما تزداد تكلفة المواد الخام، يضطر المصنع إلى التخلي عن سبل السلامة والتأمين وتقليل الأجور، بل وتقليص العمالة أيضًا، وإلا سينتهي به الأمر مغلقًا أبوابه.
رانا بلازا.. وجه مظلم لعالم الأزياء
أن تكون عاملًا فقيرًا في دولة نامية مثل بنغلاديش، تعمل بمصانع “رانا بلازا”، فى مبنى سافار بالعاصمة دكا، يحدث في المبنى ضعف هيكلي ينتج عنه الكثير من الشقوق، وتصدر الحكومة أمرًا بإخلاء المبنى، فتبدأ البنوك والمحال التجارية في الأدوار السفلية بالإخلاء على الفور، بينما يأمر ملاك المصانع عمالهم بالعودة والعمل، وفي الـ24 من أبريل عام 2013 ينهار المبنى مخلفًا خلفه 1129 قتيلًا، أغلبهم من النساء، و2515 جريحًا منهم من فقد ساقيه أو ذراعيه ولن يستطيع العمل مرة أخرى.
ذلك الحادث صُنِّف كأسوأ حادث في تاريخ صناعة الموضة، لكنه لم يكن الوحيد، فبعده اندلعت سلسلة من الحرائق والانهيارات في بعض المصانع ببنغلاديش أيضًا، والأمر لا يقتصر على هذه الحوادث فقط، بل أنت معرض للضرب والسحل إذا أردت المطالبة برفع أجرك أو أخذ استراحة ما، فأنت تعمل كالعبد وتُضرب كالعبد أيضًا من أجل تصدير موضة لا تدوم إلا شهر أو اثنين بالكثير.
تقول مصممة الأزياء أورسولا دي كاسترو Ursula De Castro: “التغيير جارٍ بلا رحمة، نحو أسلوب إنتاج لا يهتم بشيء سوى مصالح الشركات الكبيرة”.
ماذا يحدث لملابسنا حقًا؟
لكن هل فكرت من قبل فيما يحدث لتلك الموضة التي تدوم أشهر قليلة؟ تلك الملابس الرخيصة الفائضة عن الحاجة التي رُبما تلقيها في القمامة أو تتبرع بها للمؤسسات الخيرية؟
دعني أخبرك بمفاجأة، تلك الملابس التي تُرسل إلى الجمعيات الخيرية على مستوى العالم ينتهي بها الأمر موزونة بالكيلو ومباعة في “بالة”، مصطلح “بالة” قد يكون مر بك من قبل، فهكذا تُشترى الملابس، في شوال كبير بالكيلو، يجهل المشتري ما فيه حقًا، قد يكون شيئًا ذا قيمة وقد لا يكون،
وتبدأ عملية الفرز والتوزيع على أسواق الملابس المستعملة، كل قطعة لها سعر مختلف.
هذا ما يحدث في أسواق مثل “الوكالة” في مصر، فهذه الملابس ما هي إلا ملابس مستعملة معظمها رخيص، تخلص منها أصحابها سواء برميها في سلة المهملات أم بالتبرع بها إلى إحدى الجمعيات الخيرية التي لديها فائض كبير من الخرق التي تُرسل لها، فنجد أنفسنا في مصر لا نستهلك الموضة السريعة فقط، بل ونشتري قمامة الدول الأخرى منها أيضًا.
لسنا الوحيدين بالطبع الذين نفعل هذا، فهناك عدد كبير من الدول النامية التي تُصنع الموضة السريعة ولا تتمكن من استهلاكها، بل المستعمل منها من الدول الأخرى لترتديها بأسعار أرخص.
صناعة الأزياء تُعتبر ثاني أكبر مستهلك للمياه، حيث تنتج 20% من مياه الصرف الصحي، بينما تنتج أيضًا انبعاثات غازات دفينة أكثر من جميع الرحلات الجوية والبحرية معًا!
لكن في الوقت الحاليّ قل عدد المستهلكين للموضة السريعة في مصر، وذلك بسبب تعويم الجنيه المصري، فأصبحت محال مثل “إتش & إم” و”زارا” وغيرهما من محلات الموضة السريعة يحتاجون للكثير من الأموال، وقد فاق سعر القميص الواحد الأربعمئة جنيه، لذلك اتجهت نسبة أكبر من المصريين الآن إلى شراء الملابس المستعملة من الموضة السريعة الخاصة بالدول الأخرى كمحاولة منهم للصمود أمام التعويم، أما في البلاد الأخرى العربية والأجنبية ما زال الإقبال كبيرًا على محال الموضة الرخيصة، غير مفكرين في أثر تلك الموضة على العاملين بها، أو على البيئة.
هل الموضة السريعة تشكل تهديدًا حقيقيًّا للبيئة؟
كشفت دراسة حديثة أجرتها مؤسسة “إلين ماكثر” Ellen MacArthur Foundation – وهي مؤسسة خيرية غير ربحية مقرها المملكة المتحدة – أن عربة واحدة مملوئة بالأقمشة تُهدر كل ثانية، وبعض الإحصاءات الأخرى تقول لنا إن مؤتمر كوبنهاغن للأزياء مسؤول عن 92 مليون طن من النفايات الصلبة التي تُسكب في الأراضي المخصصة للتخلص من النفايات الصلبة، كذلك صناعة الأزياء تُعتبر ثاني أكبر مستهلك للمياه، حيث تنتج 20% من مياه الصرف الصحي، بينما تنتج أيضًا انبعاثات غازات دفينة أكثر من جميع الرحلات الجوية والبحرية معًا!
هناك عددًا من العلامات التجارية مثل: “نايكي” Nike و”جاب” GAP و”إتش & إم” H&M وقعوا على مبادرة “اجعلوا الموضة مُدارة” Make Fashion Circular، وهي مبادرة تابعة لمؤسسة “إلين ماكثر”، تطمح إلى التأكد من أن الملابس المصنوعة تُصنع من مواد آمنة
إن التلوث التي تنتجه الموضة يحتاج إلى أن يتوقف بشكل ما، فنحن لا يمكننا الاستمرار في صنع ملابس تهدد بيئتنا، الأمر بالطبع يعود إلى العلامات التجارية، فهي تتحمل المسؤولية الخاصة بالنفايات التي يصدرونها، فكل علامة تجارية تحتاج إلى معالجة المواد الكيميائية وإعادة تدوير النفايات الصادرة عنها، فمن المفيد تطبيق قانون تدوير النفايات على صناعة الموضة، فنحن بحاجة إلى البدء في الكشف عن طرق لإعادة تدوير تلك الملابس.
الجدير بالذكر أن هناك عددًا من العلامات التجارية مثل: “نايكي” Nike و”جاب” GAP و”إتش & إم” H&M وقعوا على مبادرة “اجعلوا الموضة مُدارة” Make Fashion Circular، وهي مبادرة تابعة لمؤسسة “إلين ماكثر”، تطمح إلى التأكد من أن الملابس المصنوعة تُصنع من مواد آمنة، كذلك يُعاد تدوير الملابس القديمة.
هل إعادة التدوير الحل الوحيد؟
الإجابة هي لا، إنها أحد الحلول بالتأكيد، لكنها ليست الحل الوحيد، فيجب علينا التفكير في طريقة تجعلنا لا نلجأ إلى إعادة التدوير من الأساس باستهلاكنا أشياء أكثر مما ينبغي لنا.
لجأت بعض مؤسسات الأزياء الحاليّة للعمل على توفير نظام “تأجير” للملابس، بحيث أنه لن يكون عليك شراء فستان أو بدلة لحضور حفل واحد ثم تركها في الدولاب دون استخدام مرة أخرى، الأمر معروف منذ سنوات عديدة بالطبع، لكن أن تبدأ مؤسسات أزياء في تنفيذه بمثابة خطوة جيدة ناحية التخلص من إعادة التدوير.
لكن برأيك ماذا نستطيع أن نفعل في عالمنا العربي لنقلل استهلاكنا للموضة السريعة ونقضي على جشع أصحاب تلك العلامات التجارية؟