أثر قرار الانسحاب الأمريكي المفاجئ والمتزامن مع تصاعد لهجة تركيا التهديدية لاجتياح المناطق الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية، على مجريات الأحداث في المنطقة، فالإدارة الذاتية التي تسيطر اليوم على مساحة تقارب 23% من مساحة سوريا، باتت اليوم أمام مفترق طرق، والتحركات الدبلوماسية للقادة السياسيين والعسكريين للإدارة باتت أشبه بالمشي في حقل ألغام.
اليوم تتحرك الدبلوماسية التابعة للإدارة الذاتية على عدة صعد، فمن جهة ما انفكت التصريحات الأمريكية التي تحاول طمأنة الحليف المحلي المتمثل بقوات سوريا الديمقراطية تتوالى، في ذات الوقت التي تؤكد واشنطن على تقديرها للمخاوف الأمنية لأنقرة، ومن جهة أخرى تحاول تركيا الاستفادة من الانسحاب الأمريكي لتجتاح المنطقة وتعيد ما قامت به في عفرين بالسيطرة على باقي مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية في منبج وشرق الفرات، أيضًا من جهتها تتربص روسيا الداعم الرئيس للنظام السوري لتقوم هي وحليفها بملء الفراغ التي سيحدثه الانسحاب الأمريكي من سوريا.
التعويل على التوافق مع النظام بضمانة روسية
من جهتها نشرت صحيفة الشرق الأوسط قبل أيام بنودًا لما أسمته بخريطة الحل، مقدمة من الإدارة الذاتية لروسيا التي تتكفل بالمفاوضات بين دمشق والإدارة الذاتية، وجاء في هذه البنود شيء يشي بعرض مقدم من الإدارة الذاتية قائم على الاعتراف المتبادل بين النظام والإدارة، فالإدارة تطرح فكرة الاعتراف بالنظام السوري الحاليّ، في مقابل اعتراف دمشق بالإدارة الذاتية وقواتها العسكرية كجزء من المنظومة الدفاعية للسلطة في دمشق، هذه البنود التي لم يعلق عليها النظام حتى الآن سلبًا ولا إيجابًا، ولا حتى الضامن المفترض لهذه المفاوضات أي الجانب الروسي.
اتسمت سياسة الإدارة الأمريكية منذ تسلم دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية بالتذبذب والمزاجية في اتخاذ وتنفيذ القرارات
تكون الإدارة الذاتية في حال الوصول إلى اتفاق مع النظام السوري، قد قطعت الطريق أمام أي حل أمريكي مطروح لحمايتها من الهجوم التركي المحتمل الذي قد يذهب بكل ما بنته الإدارة خلال السنوات الماضية، خاصة أن الولايات المتحدة الأمريكية اختارت الصمت قبل الآن، حيال خسارة الإدارة لركن من أركانها وهو منطقة عفرين التي كانت تعتبرها الإدارة مقاطعة رئيسة من مقاطعتها الثلاثة.
لكنها بذلك تكون قد لجأت إلى الحليف السابق الذي خذلها أيضًا في قضية عفرين، فالروس كانوا واضحين في التضحية بالإدارة الذاتية أمام مصالحهم مع الأتراك، وهاهم يعودون ليعرضوا خدماتهم على الإدارة الذاتية مقابل أن تتخلى الإدارة عن تحالفها مع الخصم اللدود لموسكو في سوريا المتمثل في الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوربية المنضوية ضمن التحالف الدولي لمحاربة داعش.
وموسكو التي بات ظاهرًا وبشكل جلي بعد سنوات الثورة السورية الثمانية أنها لاعب رئيس في القضية السورية، إن لم يكن أصبح هو من يمسك بزمام الأمور، خاصة بعد أن كسبت تركيا الداعم الرئيس للمعارضة السورية إلى جانبها، وباتت أنقرة اليوم أقرب إلى موسكو من واشنطن، وبعد أن تم تحييد مسار جنيف للحل السياسي في سوريا، في مقابل التأثير المباشر والواضح لمسار أستانة في المعادلة السورية على الصعيد السياسي والعسكري.
البناء على وعود واشنطن الهشة
اتسمت سياسة الإدارة الأمريكية منذ تسلم دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية بالتذبذب والمزاجية في اتخاذ وتنفيذ القرارات، خاصة فيما يتعلق بالتحركات الأمريكية في الشرق الأوسط، وفي سوريا على وجه الخصوص، أدى هذا التذبذب إلى تحجيم دور واشنطن يومًا بعد آخر في القضية السورية، وانحصر دورها مؤخرًا في محاربة تنظيم داعش الذي بات يلفظ أنفاسه الأخيرة.
يخشى الأكراد التعويل على الموقف الأمريكي لحمايتهم من الشهية التركية المفتوحة لقضم مناطق سيطرتهم، خاصة أنه لا بوادر فعلية تشي بجدية الموقف الأمريكي لحمايتهم
عدم التوازن والغموض في الموقف الأمريكي، جعل الثقة بها من أي حليف هشة جدًا، ولعل تجربة إقليم كردستان العراق الأخيرة أيام الاستفتاء على استقلال الإقليم عن العراق خير مثال، فواشنطن ظهرت بمظهر الداعم للتوجه الإيراني (العدو المفترض لها)، أمام تحرك البارزاني (الحليف المفترض لها)، وأدى موقفها حينها إلى تمدد إيران أكثر وأكثر في العراق.
اليوم يخشى الأكراد التعويل على الموقف الأمريكي لحمايتهم من الشهية التركية المفتوحة لقضم مناطق سيطرتهم، خاصة أنه لا بوادر فعلية تشي بجدية الموقف الأمريكي لحمايتهم، أو حماية الإدارة الذاتية بهيكليتها الحاليّة على أقل تقدير، فالتصريح الأخير للرئيس الأمريكي بشأن منطقة عازلة قد يتم إنشاؤها لحماية قوات سوريا الديمقراطية وأيضًا ضمان عدم المس بالأمن القومي التركي، لم يوضح ما الدور الذي سيناط بالإدارة الذاتية، فتركيا تعرض خدماتها لتقوم هي بإنشاء وإدارة المنطقة العازلة المقترحة، في الوقت الذي يدور حديث عن إشراك قوات عربية إلى جانب قوات البيشمركة السورية المدعومة من الزعيم الكردي مسعود بارزاني والتابعة للمجلس الوطني الكردي لتنتشر على طول الشريط الحدودي بين سوريا وتركيا، وفي هذا أيضًا إنهاء للإدارة الذاتية بشكلها الحاليّ.
إذًا، تجد الإدارة الذاتية نفسها اليوم أمام خيارين واضحين هذا إذا قمنا باستبعاد الخيار الثالث وهو المغامرة والوقوف في وجه أي عملية عسكرية تركية محتملة لتجنب إعادة تجربة عفرين، والخياران الأكثر واقعية هما: إما الاعتماد على الوعود الأمريكية غير واضحة المعالم حتى الآن على أقل تقدير، أو القبول بالعرض الروسي كضامن للمصالحة بين الإدارة والنظام السوري، وهذا ما يبدو أن الإدارة قد خطت أولى الخطوات الفعلية تجاه تحقيقه بتقديمها لخريطة الحل ذات الـ11 بندًا، الأمر الذي قد يحميها من توغل تركي محتمل في مناطقها، إذا رفعت أعلام النظام السوري على الشريط الحدودي.