خضعت منطقة إفريقيا جنوب الصحراء لفترة طويلة لحكم الإمبراطوريات الإسلامية المتتالية في أعقاب الفتوحات الإسلامية في القرن الثامن، إمبراطوريات كان لها الفضل الكبير في تطور المنطقة وازدهارها لقرون عدة، في هذا التقرير سيأخذكم “نون بوست” في رحلة للتعرف على هذه الممالك الإسلامية.
إمبراطورية كانم
تعتبر إمبراطورية كانم، أولى الدول التي دخلها الإسلام في إفريقيا جنوب الصحراء، إلى أن حملت لواءه وتبنته دينًا للدولة، وشملت هذه الدول أراضي ما يعرف حاليًّا بالتشاد وشمال شرق نيجريا وجنوب ليبيا وشرق النيجر وشمال الكاميرون.
في سنة 1085، أزاح المسلم هوماي آخر ملك من ملوك دوجووا سلما من السلطة، وهكذا نشأت أسرة جديدة من أسر سيفووا، وكان قدوم أسرة سيفووا بمثابة التغيير الجذري في إمبراطورية كانم، فقد تم أسلمة رأس النظام.
خلال عهد أسرة سايفاوا، عرفت سلطنة كانم توسعات كبرى، كما بدأت التبادلات الدبلوماسية مع السلاطين في شمال إفريقيا، وأعلنت الجهاد ضد القبائل المحيطة بها، وبدأت فترة طويلة من الفتح، لتتمكن بذلك من بسط سلطانها على مناطق واسعة.
سلطنة “برنو”
من السلطنات الإسلامية الأخرى التي بسطت سلطانها في مناطق عدة بالقارة السمراء، نجد سلطنة “برنو” التي حكمت “بلاد السودان الأوسط” لخمس قرون، ويعود تأسيس إمبراطورية برنو إلى سنة 1380 ميلاديًا، وقد اتخذ ملوكها الأوائل مدينة تسمى “بيرنى نجازرجامو” (نيجريا) في غرب “بحيرة تشاد” عاصمة لهم، ولم تكن مساحة الإمبراطورية الناشئة في البداية كبيرة إلا أنها تمكنت فيما بعد من بسط سلطانها على مناطق واسعة من وسط إفريقيا.
ضمَت هذه الدولة عددًا كبيرًا من القبائل والعناصر، فهناك قبائل “الصو” وقبائل “الكانمبو” وقبائل “الكانورى” وهي خليط من العرب والبربر والزنوج، وهؤلاء يكوِنون أغلب سكان هذه السلطنة، يضاف إلى ذلك قبائل “التبو” (التدا) من البربر، وكذلك “بربر الطوارق” من سكان المناطق الشمالية الصحراوية، فضلاً عن قبائل العرب الذين كانوا يُعرَفون هناك باسم (الشوا).
عرفت القرون الوسطى قيام مملكة أوفات التي تعتبر أقوى السلطنات الإسلامية في بلاد “الزيلع”
كان ملوك السلطنة يعرفون باسم “المايات” (جمع ماى، وهو لقب بمعنى: ملك)، وأبرز هؤلاء “الماي إدريس آلوما” الذي حكم طيلة 32 سنة بين 1571 و1603 ميلاديًا، ويعرف هذا الماي بكونه أبرز رجل دولة عرفته الإمبراطورية، ففي عهدها عرفت “البورنو” أوج مجدها، وفق العديد من المراجع التاريخية.
مثل الحج أحد أبرز الوسائل المهمة في تعميق العقيدة الإسلامية لدى شعوب مملكة البرنو في بلاد السودان الأوسط، وأيضًا عاملاً مهمًا في نشر الثقافة العربية الإسلامية في تلك الربوع من القارة الإفريقية السمراء، وفق مراجع تاريخية عدة.
وعرفت شعوب مملكة برنو وحكامها بحرصهم الشديد على أداء هذه الشعيرة منذ القدم، وكان منفذ القاهرة هو الطريق الشائع، ومن جانب آخر فإن فترة بقاء الحاج في الأماكن المقدسة كانت تطول كثيرًا، فيختلطون هناك بمختلف القبائل والعلماء مما يترك فيهم أثرًا عميقًا.
شجع سلاطين “البرنو” انتشار الثقافة العربية الإسلامية في مناطق نفوذهم، فأكثروا من بناء المساجد والكتاتيب، وكانت اللغة العربية هي لغة التعليم ولغة الحكومة الرسمية، فضلاً عن كونها لغة المعاملات التجارية ولغة المراسلات الدولية، أسوة بباقي الدول الإسلامية.
مملكة أوفات
انتشرت الممالك الإسلامية في الشرق الإفريقي أيضًا، وقد عرفت القرون الوسطى قيام مملكة أوفات التي تعتبر أقوى السلطنات الإسلامية في بلاد “الزيلع”، وسيطرت على المنطقة لفترة طويلة، وتمكنت من نشر الإسلام ونقل الحضارة الإسلامية، وأدت دورًا بارزًا في تاريخ المنطقة الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.
تأسست هذه السلطنة في نهاية القرن الثالث عشر الميلادي على يد قوم من العرب المهاجرين إلى الحبشة، وقد نسبهم البعض إلى بني خزيمة، بينما يرى آخرون أنهم ينتمون إلى عقيل بن أبي طالب، وتذهب رواية أخرى إلى نسبتهم لعثمان بن عفان رضي الله عنه، والقول الفصل إنهم عرب ينتمون إلى القبائل القرشية.
امتد سلطان المملكة على أراضي شاسعة في منطقة القرن الإفريقي التي عرفت باسم “بلاد الزيلع”، وهي البلاد التي تحيط بهضبة الحبشة من الشرق والجنوب الشرقي، وتتمثل الآن فيما يعرف بجيبوتي والجزء الجنوبي من إقليم إريتريا وسهول الدناكل وتمتد جنوبًا وتضم الجزء الشرقي من حوض نهر عواش، والهضبة الصومالية بما فيها من منطقة هرر والأوجادين، وتمتد شرقًا لتشمل جزءًا كبيرًا مما يعرف الآن بالصومال الشمالي (الإنجليزي سابقًا) بما فيه من موانئ زيلع وبربرة.
اشتهرت الممالك الإسلامية قديمًا بمواكب الحج
تنسب هذه السلطنة إلى اسم عاصمتها وهي مدينة أوفات التي كانت تسمي أيضًا مدينة جبرة أو جبرت التي كانت تعد من أكبر مدن منطقة الطراز الإسلامي (سميت بالطراز لأنها على جانبي البحر كالطراز له)، وهي على مسافة عشرين مرحلة غرب مدينة زيلع في الصومال حاليًّا.
امتهنت مملكة أوفات، التجارة البرية والبحرية، فقد جعلها موقعها في جنوب الهضبة الحبشية، متحكمة بطرق القوافل التي تصل البحر الأحمر وخليج عدن بداخل الحبشة، أي بين ميناء زيلع على الساحل الصومالي الشمالي، والمناطق الداخلية، وقد نشطت الحركة التجارية برعاية هذه السلطنة حتى أصبح لها علاقات قوية بكل من مصر وبلاد اليمن وغيرها من الأقطار “البحر أحمرية” بصفة خاصة.
مكانتها الجغرافية وازدهارها الاقتصادي، حمل المملكة أعباء الكفاح والجهاد ضد الحبشة النصرانية، حيث كانت أول الممالك الإسلامية خروجًا على ملك الحبشة، وذلك في عهد الملك حق الدين بعد أن ضمت إليها عددًا من الممالك الأخرى.
“مملكة مالي”
سنة 1230 ميلاديًا، عرف غرب القارة السمراء ميلاد إحدى أكبر الحضارات التي عرفتها إفريقيا، مملكة كان لها الفضل الكبير في انتشار الإسلام، وهي “مملكة مالي” التي كانت تعرف أيضًا باسم “مملكة المايذنج” أو “الدولة الإمبراطورية”.
أسس هذه السلطنة شعب زنجي أصيل هو شعب “الماندنجوه” أو “الماندنجو”، ومعناها “المتكلمون” بلغة الماندي، ويطلق على هؤلاء شعب “الفولاني”، ويلقبهم المؤرخون العرب بلقب “مليل” أو “ملل”، وتأسست هذه المملكة بين بلاد برنو شرقًا والمحيط الأطلسى غربًا وجبال البربر شمالاً وفوتاجالون جنوبًا.
يعود تأسيس إمبراطورية السنغاي الإسلامية العظيمة، حسب مراجع تاريخية كثيرة، إلى سنة 1335 ميلاديًا
في البداية، كانت مملكة مالي مجرد دويلة صغيرة، إلا أنها سرعان ما استطاعت بزعامة سوندياتا كيتا أن تضم الكثير من مناطق كانت تحت سيطرة قبائل خاضعة لمملكة غانا، وخلال فترة وجيزة استطاع سوندياتا أن يجعل من مملكته الصغيرة إمبراطورية عظيمة بعد أن استولى على أراضي مملكة غانا الغابرة كافة، ليصبح متحكمًا في مناطق شاسعة وشعوبها تدين له بالولاء.
عرفت إمبراطورية مالي تعاقب العديد من الملوك على حكمها الذين كانوا يلقبون بلقب “مانسا”، ومعناها السلطان أو السيد بلغة الماندي، ولعل مانسا موسى صاحب موكب الحج المشهور الذي أذهل الناس في مصر والحجاز وانتعشت التجارة والعلوم في عهده، أحد أبرز هؤلاء، فوصلت الدولة في عهده إلى القمة في الاتساع والقوة.
إمبراطورية السنغاي
أبرز الممالك الإسلامية في تلك المنطقة، نجد إمبراطورية السنغاي، ويعود تأسيس هذه الإمبراطورية الإسلامية العظيمة، حسب مراجع تاريخية كثيرة، إلى سنة 1335 ميلاديًا على يد الملك “سني علي كولن”، بمساعدة أخيه “سليمان نار”، وذلك بعد التخلص من أسر ملك مالي منسى موسى، وهما ابنا “زا ياسبي” الذين احتلوا المنطقة لسنوات طويلة.
في الفترة الأولى لهذه الإمبراطورية الإسلامية التي حكمت فيها أسرة “سني” وصل نفوذها معظم غرب القارة الإفريقية من المحيط غربًا، وإمارات الهوسا شرقًا، ووسط الصحراء شمالاً، وبلا الموسى جنوبًا، وقد استمرت هذه المرحلة حتى عام 1492 ميلاديًا، فدام حكمها أكثر من قرن ونصف (نحو 157سنة).
عُرفت إمبراطورية السنغاي بتنظيم الإدارة وتجهيز جيش قوي
في الفترة الثانية لهذه الإمبراطورية الإسلامية التي امتدت بين 1492 ميلاديًا و1594 ميلاديًا، عرفت المنطقة أوج ازدهارها وضُمت إلى سلطة البلاد أراضي جديدة في الشمال وعلى سواحل المحيط الأطلسي فاتسعت مملكة السونغاي في عهد “أسكيا محمد الكبير” لتمتد من مناطق قبائل الفولاني وحوض السنغال في الغرب إلى منطقتي أغادس (تقع اليوم في وسط النيجر) ودندي (تقع على نهر النيجر بين شمالي بنين وغربي نيجيريا)، وحدود إمارات الهوسا في الشرق، ووسط الصحراء الجزائرية شمالاً، وبلا الموسى جنوبًا.
فضلاً عن انتشارها الجغرافي الكبير، عُرفت هذه الإمبراطورية بتنظيم الإدارة وتجهيز جيش قوي، فقد عمل “محمد أسكيا الكبير” بمعونة العلماء والتجار على تنظيم شؤون المملكة الإدارية، فقد أقيمت إدارة موحدة في العاصمة تشمل وزارة المالية والعدل والداخلية والزراعة والغابات، ووزارة أخرى لشؤون البيض أو الأجانب من مواطني شمال إفريقية والطوارق الذين يقطنون أطراف الصحراء.
الدولة الفودية
من الدول الإسلامية التي أقيمت بالسودان الغربي، نجد “الدولة الفودية”، التي تأسست في القرن التاسع عشر الميلادي، وسادت قرنًا من الزمن إلى أن أضعف شوكتها الاستعمار، تأسست هذه الدولة على يد الشيخ عثمان بن فوديو الذي يرجع أصله إلى قبيلة “الفولاني” التي أسهمت بقوة في نشر الدعوة المحمدية وعودة النهضة الإسلامية للغرب الإفريقي.
سافر الشيخ عثمان إلى مكة المكرمة، وعقب عودته من هناك وأدائه مناسك الحج بدأت الدعوة “العثمانية”، فأخذ عثمان في دعوة أهله وإخوانه إلى التوحيد الخالص ونبذ البدع والشرك، فاستجاب لدعوته كثير من أبناء قريته، فأسس حركة دعوية أطلق عليها اسم “الجماعة”.
ما إن تأسست الجماعة، حتى بدأت الدعوة تنتشر شيئًا فشيئًا بين القبائل في غرب القارة الإفريقية ومختلف الفئات من “الهوسا” إلى “الطوارق” و”الزنوج”، دون أن ننسى قبيلته الأم “الفولاني” التي أصبحت عماد الدعوة وقوتها الضاربة.
عثمان بن فودي مؤسس الدولة الفودية
لئن لقيت دعوته رواجًا بين العامة، فقد ناصبه ملوك الهاوسا العداء، ما دفعه للهجرة إلى مكان يدعى “قد” في أطراف إمارة جوبير وسار معه أنصاره، وبدأ الحرب ضد الحكام فانتصر على ملك جوبير ويدعى “ينف” في معركة “كنو”.
هذا الانتصار مهد له الطريق للقضاء على إمارة جوبير، حيث دخل عثمان بعدها بسنوات قليلة عاصمة المملكة مدينة “القاضاوا”، ثم فتح بقية ممالك الهاوسا، كما فتح بورنو والأداماوا، واتخذ مدينة “سوكوتو” في أقصى الطرف الشمالي الغربي لنيجيريا مركزًا لدعوته.
بعد إحكام السيطرة على ممالك الهاوسا، بدأ عثمان بن فودي في ضم شعوب المنطقة ككل تحت رايته، فضم إليه عدة شعوب وقبائل كانت متناثرة ومختلفة فيما بينها، وبدأ بالتوسع في ناحيتي الغرب والجنوب الغربي، حيث قبائل “اليورومبا” الكبيرة والكاميرون وبلاد الماسنيا (مالي)، حتى أصبحت مملكته أقوى مملكة إسلامية في إفريقيا وقتها.