يزداد امتناني يومًا بعد يوم وأنا أقرأ عن وسائل الترفيه القديمة المنقرضة التي كانت تعتمد بشكل كبير على موت أحد الأفراد مثل مصارعة النمور والأسود والتبارز بالسيوف والتبارز بالمسدسات، وما زلت أجزع لرؤية لقطات من مصارعات الثيران الإسبانية، وأتساءل دومًا ما الذي يجعل شخص ما يستمتع برؤية ذلك العذاب؟
لكن تلك ليست المشكلة حقيقة، فإذا كان هناك نوع من البشر يستمتع برؤية الحيوانات تُعذب بهذا الشكل، أو البشر يلقون بأرواحهم أيضًا هكذا، فهناك نوع آخر يحب زيارة المواقع المرتبطة بالموت أو المأساة عمومًا حتى وإن كانت تشكل خطرًا وتهديدًا على أرواحهم فيما يعرف باسم “السياحة السوداء أو المظلمة”.
قد ترغب بزيارة إحدى جُزر الكاريبي أو باريس أو الاستمتاع بالتسوق في دبي، لكن هناك العديد من الأشخاص بدلًا من كل تلك المناطق التي تستطيع قضاء عطلة ممتعة بها يختارون فقط التوجه إلى أوروبا الشرقية، للقيام بجولة في معسكرات الموت النازية ورؤية آلاف الجماجم البشرية، أو السفر إلى أفغانستان والسير في طرقات قد تنفجر فيها أي عبوة ناسفة في أي لحظة، فإذا كان أي شيء من هذا يثير اهتمامك فأنت بالتأكيد سائح مظلم.
السياحة هي المتعة، ومتعتها تكمن أحيانًا في الشعور بالرهبة:
ما الذي يجعلنا نستمتع بتلك القشعريرة التي تصيبنا في أثناء مشاهدة فيلم من أفلام الرعب؟ هل يجعلنا هذا نستمتع بخوض المخاطر أم نحن نستمتع فقط بتلك المخاطر البعيدة عنا، مشاهدة التجربة لا المشاركة فيها؟ قد يعود الأمر إلى أسلافنا الذين استمتعوا بمشاهدة المصارعة الرومانية والحج إلى كانتربري، وانتظروا عمليات الإعدام العلنية، لكن أن يأخذنا الأمر إلى أبعد من ذلك هو حقًا أمر عجيب.
لماذا السياحة السوداء؟
السياحة المظلمة ما هي إلا أمر بشع، يعتمد على استغلال المعاناة الإنسانية واستغلال ثقافات شعوب فقيرة بل وعقائدهم أيضًا، لتحويل كل هذا إلى تسلية رخيصة شبه مجانية بالنسبة للغربيين الأغنياء الذين يزورون تلك الدول للسخرية منها وتدنيس كل أماكن المآسي للضحك والشعور بالإثارة إثر اشتراكهم في عبور أحد الشوارع الخطرة أو المشاركة في طقس من طقوس الذبح عند بعض القبائل الإفريقية.
دعوني أعرض لكم في هذا المقال أشهر مزارات السياحة السوداء في قارة آسيا:
– كمبوديا
ما الذي يأتي في ذهنك عندما نذكر “كمبوديا”؟ رُبما لا شيء، رُبما تلك دولة لم تفكر في زيارتها من قبل، لكن على كل حال لو انتهى بك المطاف زائرًا لها، عليك أن تعرف منطقة “تشونغ إيك” Choeung Ek إحدى مدن كمبوديا التي أعدم فيها حزب “الخمير الحمر” الكمبودي الشيوعي أكثر من مليون مواطن كمبوديّ، كذلك تم التخلص من جميع المثقفين والسياسيين، وكيف انتهى الأمر بالمدينة؟ مجرد مزار سياحي لتلك الدماء!
في “تشونغ إيك” Choeung Ek تستطيع السير فوق أكثر من 17000 جثة من جثث النساء والرجال والأطفال الذين دُفنوا في مقبرة جماعية، هذا بالإضافة إلى العظام البشرية التي قد تعثر عليها وأنت تتجول في حقول الدماء تلك.
لا تستغرب هذا الأمر، فهناك أكثر من 8 آلاف جمجمة بشرية معروضة للمشاهدة في أحواض زجاجية!
تلك ليست التسلية السياحية الوحيدة في كمبوديا، فإطلاق النار أحد أهم المغامرات التي قد تمر بها هناك، فيمكنك اختيار السلاح الذي تريد وتصوبه أينما تشاء في نطاق إطلاق النار.
في الحقيقة لن تخلو قائمة أي سائح يرغب في زيارة كمبوديا من هذا النشاط، فيمكنك إطلاق النار على أي حيوان تختاره، هناك الدجاج والأرانب والديك الرومي، كما أنك ستجد الأبقار أيضًا! لكنها ستكلفك نحو 400 دولار!
يمكنك إطلاق النار على بقرة باستخدام بندقية آلية أو أنواع أخرى متوفرة من الأسلحة، لكنك لن تتخيل أن تلك الأسلحة تتضمن البازوكا “قاذفة الصواريخ”!
السياحة السوداء قد تشكل دخلًا كبيرًا للدول، ليست الفقيرة فقط بل والغنية أيضًا كما في اليابان.
السياحة السوداء في اليابان
اليابان دولة يحفها الغموض، لذلك تكون اختيارًا للكثير من عشاق المغامرة، ستجد فيها كل شيء: المتاحف والمعابد والروح العصرية والألعاب والموضة والاختراعات، الكثير من الأشياء المبهجة، لكنها أيضًا واجهة مهمة لمحبي السياحة المظلمة.
العديد من مواقع اليابان ترتبط بالموت، سواء حرب المحيط الهادي أم الحرب العالمية الثانية، يكفي القنبلة الذرية التي أُلقيت على هيروشيما وناغازاكي لتجعل كل منهما أحد المعالم الأكثر ظلمة.
ولا تكفي هذه المآسي، فموقع اليابان الجغرافي جعلها موطنًا لأكثر البراكين نشاطًا وتدميرًا في العالم، وكذلك تعرضها الدائم للزلازل مثل ذلك الزلزال الذي ضربها في 11 من مارس 2011 بقوة 9.0 وتسبب في التسونامي المدمر على طول الساحل الشمالي الشرقي لجزيرة “هونشو”، الذي أدى إلى موت ما يقرب من 20 ألف مواطن، والعديد من الأضرار الهيكلية.
العديد من زوار اليابان يتجهون إلى زيارة أماكن الكوارث مثل هيروشيما، متجاهلين الإشعاع الذي ما زال يشكل خطرًا على حياتهم
وأحد الأضرار الجانبية للتسونامي هو حدوث انهيار في محطة الطاقة النووية في فوكوشيما، التي تعتبر أسوأ كارثة نووية منذ “تشيرنوبل”.
العديد من زوار اليابان يتجهون إلى زيارة أماكن الكوارث مثل هيروشيما، متجاهلين الإشعاع الذي ما زال يشكل خطرًا على حياتهم، فكل منهم يمسك بجهاز قياس إشعاع يخبرهم متى يكون الأمر شديد الخطورة، لكنهم لا يهتمون كثيرًا لتلك الأشياء، بل يتجاهلونها، ويظلون يتجولون مع مرشدهم السياحي مستمتعين برؤية المدارس المدمرة والمحال التي هُجرت وكل شيء فيها تُرك كما هو: الملابس ولعب الأطفال والمنازل والسيارات والدراجات.. كل شيء.
الأمر المضحك أن اليابان تسمح بالتجول في عدد من تلك المناطق، بل وتُحاول أيضًا تشجيع الناس على العودة إلى بعض مناطق هيروشيما، قائلين إن تلك المناطق أصبحت آمنة من خطر الإشعاع، رغم أن أجهزة قياس الإشعاع تُخبر بالعكس!
الأمر لا يتوقف عند هذا الأمر، فهناك “الغابة الانتحارية” وهي غابة خضراء كثيفة الأشجار تقع بجوار جبل فوجي، الكثير من القصص أضفت على تلك الغابات طابعًا مرعبًا، ما جعلها مزارًا سياحيًّا، يزورها البعض مستمتعين بخضرتها وجمالها وأيضًا بالجثث المنتحرة المعلقة في الأشجار!
الغباء البشري لا مثيل له، ومن خلفه يترزق عدد كبير من الأشخاص الذين يراهنون عليه، وللأسف تلك النماذج السابقة ليست كل شيء، ففي الجزء الثاني من المقال سأحدثكم عن السياحة السوداء في جنوب إفريقيا، وكيف يسخر الغرب من معتقدات الشعوب الأكثر فقرًا ويتخذونها وسيلة للتسلية.