ارتبطت في أذهان سكان العالم بحرب الإبادة الجماعية التي تعد الأشرس في القرن العشرين، والبقعة الأكثر طردًا لأبنائها هربًا من افتراس الجوع والعطش والحروب الأهلية، لكن وعلى مدار ربع قرن تقريبًا تغيرت الصورة تمامًا، لتتحول من شلالات الدم المتدفق في شوارعها إلى واحدة من أفضل بقاع العالم وقبلة السائحين الأولى في القارة السمراء.
جمهورية رواندا، أو كما يطلق عليها “أرض الألف تل” إحدى دول شرق إفريقيا بمنطقة البحيرات العظمى، تحدها تنزانيا شرقًا وأوغندا شمالاً والكونغو الديموقراطية غربًا وبوروندي جنوبًا، وتعد بالإضافة إلى بوروندي من أقاليم الكونغو الكبير، تبلغ مساحتها قرابة 26338 كيلومتر مربع، وتقع بأكملها على ارتفاع عالٍ، وأدنى نقطة فيها على نهر “روسيزي”، بمنسوب 950 مترًا فوق مستوى سطح البحر.
التعافي السريع من آثار حرب الإبادة المدمرة إلى تصدر قائمة الاقتصاديات الأكثر نموًا في القارة كان مثار تساؤلات عدة، خاصة في وقت تتساقط فيه العديد من دول الجوار جراء الصراعات والنزاعات الداخلية، فكيف نجحت رواندا في تحقيق المعجزة وعبور هذا المنعطف التاريخي الصعب لتصل إلى ما وصلت إليه في الوقت الراهن؟
رواندا في سطور
تتميز رواندا بمناخها المعتدل رغم قربها من خط الاستواء، فمعدل درجة حرارة العاصمة كيجالي هو 19 درجة مئوية، وتشتهر بالتضاريس الجميلة حيث المرتفعات الخضراء والمناظر الطبيعية الخلابة، والتلال البديعة ووفرة الحياة البرية، بما في ذلك حيوان الغوريلا الجبلية النادرة الذي تتميز به الدولة ويحظى بشعبية لدى عشاق البيئة.
تعتبر الفرنسية والإنجليزية اللغتين الرسميتين للبلاد، بالإضافة إلى اللغة المحلية المعترف بها، وهي كينيارواندا، كما تنتمي لعدد من المنظمات الدولية كدول الكومنولث ومؤسسة التنمية الدولية ومنظمة التجارة العالمية والأمم المتحدة والبنك الدولي للإنشاء والتعمير والاتحاد الإفريقي ووكالة ضمان الاستثمار متعدد الأطراف ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة والمركز الدولي لتسوية المنازعات الاستشارية ومؤسسة التمويل الدولية ومجموعة دول إفريقيا والكاريبي والمحيط الهادي والبنك الإفريقي للتنمية.
كانت كاروهيمبي تتمتع بسمعة قوية في المنطقة بأنها قادرة على القيام بأعمال السحر، ما تسبب في بث الخوف في نفوس الكثير من الرجال المدججين بالسلاح، الأمر الذي كان كافيًا لحماية امرأة مسنة مثلها وأكثر من مئة شخص خلال الإبادة الجماعية في رواندا
الفرنك الرواندي هو العملة الرسمية للدولة التي تشتهر بأنها منبع نهر النيل، رغم أنها دولة حبيسة لا تملك أي سواحل بحرية، يتألف المجتمع السكاني فيها من عدة مجموعات عرقية كمجموعة الهوتو الذين يشكلون 80% من مجموع السكان، ومجموعة التوتسي الذين يشكلون 10% من مجموع السكان، وأقليات من جماعات التوا والأقزام، كما يدين غالبية سكانها بالدين المسيحي من طائفة الكاثوليك، بالإضافة إلى الدين المسيحي من طائفة البروتستانت والدين الإسلامي.
تقسم إداريًا إلى أربع محافظات وهي: محافظة كيغالي والمحافظة الجنوبية والمحافظة الغربية والمحافظة الشمالية والمحافظة الشرقية، ويطلق على كل محافظة اسم انتارا وتقسم إلى ضواحي يطلق عليها اسم أكاريري، ويعتبر الرئيس جريجوري كاييباندا أول رئيس لها، وحكمها من عام 1962-1973، ونالت استقلالها عام 1962، إذ كانت مقسمة بين ألمانيا وبلجيكا.
تتميز رواندا بمناظرها الطبيعية الخلابة
حرب الإبادة الجماعية
اكتسبت رواندا شهرتها القارية والدولية من الإبادة الجماعية التي وقعت خلال الحرب الأهلية التي اندلعت في أبريل عام 1994 بين قبيلتي الهوتو ذات الأغلبية العددية وقبيلة التوتسي التي حكمت البلاد لقرون طويلة، أسفرت عن سقوط ما يزيد على 800 ألف قتيل رواندي خلال مئة يوم فقط.
المذبحة صنفت على أنها أكثر الإبادات الجماعية في العالم في القرن العشرين، مرجعين ذلك إلى الدعاية العنصرية التي مورست بين القبيلتين في إطار التنافس بينهما، فنشب عل إثرها تلك الحرب التي استمرت لعدة عقود طويلة، دفع الروانديون ثمنها غاليًا جدًا على المستويات كافة.
الملفت للنظر في هذه الحرب أن المجتمع الدولي ودول الجوار والاتحادات الإقليمية لم تحرك ساكنًا حيالها، ولم يتدخل أي من تلك الكيانات لوقف شلالات الدم المتدفقة في الشوارع الرواندية لسنوات طويلة، وهو ما أغرى الأطراف المتنازعة لمواصلة الحرب مستخدمين في ذلك أبشع أنواع التعذيب والقتل دون مراعاة لقوانين أو أعراف.
وأمام هذا الوضع المذري الذي ألقى بظلاله على المشهد العام داخل البلاد، ودفعها لتذيل قائمة الدول اقتصاديًا وأمنيًا وسياسيًا، لم يجد الملايين من الشعب الرواندي بدًا من الهجرة ومغادرة الوطن هربًا بالحياة والأنفس من مستنقعات الدم التي خضبت شوارع المدن ومحافظاتها المختلفة، ففُرغت الدولة من مواردها البشرية ما زاد من تفاقم الوضع.
80 ألف قتلوا في الحرب الأهلية 1994
أسطورة زورا كاروهيمبي
ارتبطت فترة الحرب الأهلية في رواندا بالعديد من الأساطير والحكايات، بعضها وقع بالفعل على رأسها قصة الساحرة زورا كاروهيمبي التي نجحت عبر سلاح السحر في حماية المئات من الروانديين من القتل والتنكيل على أيدي طرفي النزاع، وتحول منزلها إلى ملاذ آمن للفارين من الحرب.
كانت كاروهيمبي تتمتع بسمعة قوية في المنطقة بأنها قادرة على القيام بأعمال السحر، ما تسبب في بث الخوف في نفوس الكثير من الرجال المدججين بالسلاح، الأمر الذي كان كافيًا لحماية امرأة مسنة مثلها وأكثر من مئة شخص خلال الإبادة الجماعية في رواندا، بعضهم من الأوروبيين الموجودين في البلاد وقتها.
في الذكرى العشرين للإبادة كشفت كاروهيمبي النقاب عن بعض تفاصيل الحرب الأهلية خلال حديثها مع جان بيير مراسل “بي بي سي” في راواندا موضحة أن سلاحها الوحيد للدفاع عن نفسها كان في تخويف القتلة، حيث أرهبتهم بأنها ستبعث بالأرواح الشريرة إليهم وإلى عائلاتهم.
رواندا واحدة من الدول الإفريقية الرائدة في مجال النمو الاقتصادي، وقد شهدت التطور الاقتصادي الأكبر على مستوى العالم منذ 2005.. الكوميسا
جان بيير نقل عنها قولها إنها كانت تدهن نفسها بعشبة محلية مزعجة لجلد الإنسان لإبعاد القتلة الذين كانوا يخافون أن تلمسهم فتصيبهم العدوى، فيما أشار حسن حبياقري، أحد الناجين من الإبادة الجماعية: “هذه هي الطريقة التي استخدمتها كاروهيمبي تمامًا لإنقاذي وإنقاذ العديدين”.
وأضاف حبياقري: “لقد تم إنقاذنا ليوم آخر بعد أن أخبرت كاروهيمبي ميليشيا الهوتو بأنه إذا دخلوا الضريح، فإنهم سيعانون من غضب “نيا بينجي” وهي كلمة راواندية تطلق على الله وكانت تخيفهم تلك المعتقدات، فيما قال بعض السكان المحليين إن عشرات الأشخاص اختبأوا تحت سريرها وفي مكان سري في السقف، وأضاف آخرون أنها حفرت خندقًا في حقلها لتخفي الناس فيه، وكان من بينهم أطفال رضع بقوا أيتامًا بعد مقتل أمهاتهم.
وهكذا تحول منزل كاروهيمبي التي توفيت في منزلها في قرية موسامو، شرق العاصمة الراواندية في 17 من ديسمبر/كانون الأول 2018، والمكون من غرفتين في قرية موسامو إلى ملاذٍ آمن لأبناء التوتسي، ومع انتهاء الإبادة الجماعية ودخول المتمردين من التوتسي إلى العاصمة كيجالي، كان كل من لجأ إلى كاروهيمبي على قيد الحياة.
الساحرة الرواندية زورا كاروهيمبي
معجزة اقتصادية
أمام هذا المشهد المأساوي سادت حالة من اليأس قلوب الروانديين، فهناك ما يقرب من مليون مواطن فقدوا في هذه الحرب، فضلاً عن مئات الآلاف هربوًا بحياتهم من جحيم النزاع، وكانت أرض الألف تل بحاجة إلى معجزة حقيقية لضمان الأمن الغذائي لمن تبقى على قيد الحياة من الشعب.
وما هي إلا سنوات قليلة مضت عقب وضع الحرب أوزارها حتى وضعت حكومة البلاد خطة محكمة لتطوير الزراعة، وجلبت خبراء أجانب لأجل ذلك، وأنشأت شبكة هاتفية للمعلومات الزراعية ومكتبًا للتصدير ونقل المحاصيل، ووفرت الأسمدة بأسعار رخيصة، ومعداتٍ زراعيةً للتأجير بأسعار مشجعة.
العديد من الإستراتيجيات التي اتبعتها الحكومة لتعزيز النمو الزراعي كخطوة أولى نحو تنمية اقتصادية وبنيوية شاملة، فقدمت قروضًا ميسرة للمزارعين، لتظهر نتيجة ذلك خلال 5 سنوات فقط، فعلى سبيل المثال ارتفع إنتاج القهوة من 30 ألف طن بعد الحرب إلى 15 مليون طن بعد الأعوام الـ5 التي تلت الحرب.
ثم جاءت الخطوة التالية، وهي تشجيع الاستثمارات الخارجية، حيث وضعت رواندا قانونًا جديدًا للاستثمار، وأنشأت ما يُعرف بنظام “الشباك الواحد”، الذي يمكِّن المستثمر من إنهاء جميع الإجراءات في مكان واحد وخلال بضع ساعات، كما أسست مجلسًا استشاريًا للاستثمار والتطوير، كان أعضاؤه من الروانديين ذوي الكفاءات العليا والمنتشرين في مختلف دول العالم.
كيجالي اليوم باتت إحدى أفضل المدن في العالم، فهي آمنة ونظيفة وخضراء وجاذبة، وتحتضن كثيرًا من الملتقيات الاقتصادية وقمم الاتحاد الإفريقي وهذا يدل على أنها مدينة متطورة
وفي غضون أشهر قليلة تحولت العاصمة كيجالي إلى بؤرة استثمار عالمية، تزامن ذلك مع إلغاء التأشيرة لجميع الأجانب، سواء أكانوا أفارقة أم أوروبيين أم غيرهم، وهذا ما جعل العاصمة أكثر العواصم الإفريقية استقبالاً للمستثمرين، بالنظر إلى هذه التسهيلات وسلاسة الإجراءات في مطارها الدولي.
وكان نتيجة لذلك طفرة هائلة في الاقتصاد الرواندي وصفت بـ”المعجزة” حيث حقق خلال الفترة بين عامي 2000 و2015، نموًا في ناتجه المحلي بمعدل 9% سنويًا، فيما تراجع معدل الفقر من 60% إلى 39%، ونسبة الأمية من 50% إلى 25%، وارتفع متوسط حياة الفرد من 48 عامًا إلى 64 عامًا.
وبحسب تقرير حديث لمنظمة دول تجمُّع السوق الإفريقية المشتركة (الكوميسا)، فإن رواندا واحدة من الدول الإفريقية الرائدة في مجال النمو الاقتصادي، وقد شهدت التطور الاقتصادي الأكبر على مستوى العالم منذ 2005، كما ارتفعت قيمة الناتج الإجمالي المحلي للبلاد إلى نحو 8.48 مليار دولار أمريكي في 2016، صعودًا من 2.58 مليار عام 2005، و1.74 مليار عام 2000، و1.29 مليار دولار فقط في سنة 1995 لتحتل المركز التاسع بقائمة أكثر الدول استقطابًا للمستثمرين في القارة الإفريقية.
وفي السياق ذاته قالت منظمة دول تجمع السوق الإفريقية المشتركة لدول شرق وجنوب إفريقيا (الكوميسا)، إن رواندا تعتبر الآن واحدة من الدول الإفريقية الرائدة في مجال النمو الاقتصادي، حيث سجل اقتصادها النمو الأكبر على مستوى العالم منذ عام 2005 بمتوسط بلغ 5.7%.
قبلة السياحة الأولى إفريقيًا
اعتمدت رواندا في نهضتها السياحية على 3 مبادئ، استغلال الثروات الطبيعية والتوسع في الحدائق العامة وجذب الاستثمار، وإلغاء التأشيرة للأجانب سواء أفارقة أم أوروبيين أم آسيويين أم غيرهم، ونظافة المدن وإعادة بناءها على الطراز الحديث حتى حازت العاصمة كيجالي لقب أنظف عاصمة إفريقية من الأمم المتحدة.
ومع مجيء العام 2014 أصبحت رواندا تستقبل مليون سائح سنويًا، بعد أن كانت بلدًا طاردًا لأبنائه فضلاً عن السياح، وكما كان انهيار السياحة أحد عوامل سقوط الدولة إبان فترة الحرب تحولت النهضة التي لحقت بها إلى واحدة من عوامل البناء حتى صارت قبلة السياحة الأولى في إفريقيا.
كيجالي اليوم باتت إحدى أفضل المدن في العالم، فهي آمنة ونظيفة وخضراء وجاذبة، وتحتضن كثيرًا من الملتقيات الاقتصادية وقمم الاتحاد الإفريقي وهذا يدل على أنها مدينة متطورة، حسبما أشار الباحث الرواندي، فيدريم موغابي، الذي أكد أن العاصمة وحدها تحقق 43% من الدخل الإجمالي للبلاد حتى إن محنة ذكرى الإبادة تحولت إلى منحة عبر تأسيس متحف يرتاده السياح ليخبرهم بأن المدينة تأرجحت بين زمنين، زمن أبقاها في دائرة البؤس وزمن قادها نحو التطور.
فيما أرجع الصحفي يوجين أويمانا، الفضل في هذا التطور الذي تشهده رواندا خلال السنوات الماضية إلى القيادة الرشيدة للبلاد التي أسست للوحدة والتصالح بين أبناء الشعب، كاشفًا أنه بعد ربع قرن من الإهمال والتجاهل الدولي والإقليمي باتت رواندا اليوم مقصدًا ومزارًا للملايين سنويًا.