في مشهد أثار استياء شريحة كبيرة من المصريين، اقتحمت هراوات مدفوعة بعربات من الأمن، قبل يومين، شارع المعز لدين الله الفاطمي في وسط العاصمة القاهرة، لتنفيذ قرار هدم العقار رقم (88) الذي يطلق عليه “وكالة العنبريين” وسط صراخ من سكان الشارع والعاملين به.
قرار هدم الوكالة التي يرجع تاريخها إلى القرن التاسع عشر، حيث بنى المبنى السلطان قلاوون كي يكون سجنا، ثم حوله العثمانيون لوكالة لصانعي العطور، ومن ثم سميت بهذا الاسم، أثار موجة من الغضب على منصات السوشيال ميديا، خاصة وأن العقار يعد أحد أبرز المعالم الأثرية في الشارع.
حالة من القلق بدأت تنتاب المهتمين بالشأن الأثري حيال استراتيجية التعامل مع المواقع الأثرية في مصر، لاسيما وأنها ليست المرة الأولى التي تتجاهل فيها الحكومة صرخات الأثريين وتوسلاتهم بحماية التراث وإعادة ترميمه كونه تجسيدا لحضارة المصريين، هذا في الوقت الذي تزايدت فيه مخاوف البعض من استمرار سلسلة هدم المواقع الأثرية أيا كانت الحجج.. فهل يتوقف الأمر عند وكالة العنبريين فقط؟
تراث قديم
منذ ما يزيد على 900 عام وبالتحديد فى عام 517 هجرية وضعت اللبنة الأولى فى هذا المبنى القديم بعد أن أكمل الفاطميّون إنشاء مدينتهم الملكية بأسوارها وبواباتها وقصورها ومساجدها، ولم يكن ينقصها كما تقول كتب التاريخ سوى (حبس المعونة) أو السجن فى لغتنا الحالية ويمر التاريخ على المكان وتوالى استخداماته من سجن إلى سوق للعطور ثم عدة أرباع تعلو السوق ثم وكالة شديدة الجمال فى عهد محمد على باشا
شيخ المؤرخين العرب، تقي الدين المقريزي (1364- 1442) في إحدى مؤلفاته تطرق إلى سوق العنبريين بقوله إنه “كان في الدولة الفاطمية مكانه سجنا لأرباب الجرائم يعرف بحبس المعونة،و كان شنيع المنظر ضيقا لا يزال من يجتاز ه يجد منه رائحة منكرة،فلما كان في الدولة التركية و صار قلاوون من جملة الأمراء الظاهرية، صار يمر من داره الي قلعة الجبل علي حبس المعونة، فيشم منه رائحة رديئة ويسمع صراخ المسجونين وشكواهم الجوع والعري والقمل”
المواصفات الخاصة بالمباني الأثرية متوافرة بالمكان، وفق تحقيق تم فتحه بعد تقدم عدد من الشكاوى بخصوصه، وتم تشكيل لجنة من كلية الآثار ومن أثريين كبار.
وتابع: فتعهد علي نفسه إن جعل الله تعالي له من الأمر شيئا أن يستبدل مكان هذا الحبس بنشاط آخر ،فلما صار اليه ملك ديار مصر و الشام، هدم حبس المعونة وبناه سوقا أسكنه بياعي العنبر، وكان للعنبر إذ ذاك بديار مصر وجود و للناس فية رغبة زائدة،لا يكاد يوجد بأرض مصر إمرأة وإن سفلت إلا ولها قلادة من عنبر،وكان يتخذ منها المخاد والكلل والسطور وغيرها،وتجار العنبر يعدون من بياض الناس و لهم أموال جزيلة وفيهم رؤساء و أجلاء.
فلما صار الملك الي الناصر محمد بن قلاوون، جعل هذه السوق و ما فوقه من المساكن وقفا علي الجامع الذي أنشأه، إلا أن العنبر من بعد سنة سبعين وسبعمائة كثر فيه الغش، حتي صار إسما لا معني له وقلت رغبة الناس في إستعماله، فتلاشي أمر هذا السوق بالنسبة لما كان، ثم لما حدثت المحن بعد سنة ست وثمانمائة قل ترفة أهل مصر عن استعمال الكثير من العنبر فطرق هذا السوق ما طرق غيره من أسواق البلاد وبقيت فية بقية يسيرة الي ان خلع الخليفة المستعين بالله العباسي بن محمد في سنة خمسة عشرة وثمانمائة، وصار بعدها معطلا نحو سنتين ثم عاد اهل العنبر الي السوق علي عادتهم في سنة ثمان عشر وثمانمائة”.
قرار بهدم الوكالة
الحكومة: غير أثري
رغم تأكيد المستشار محمد سمير، المتحدث الرسمي باسم النيابة الإدارية- في تصريحات تليفزيونية – على أن المواصفات الخاصة بالمباني الأثرية متوافرة بالمكان، وفق تحقيق تم فتحه بعد تقدم عدد من الشكاوى بخصوصه، وتم تشكيل لجنة من كلية الآثار ومن أثريين كبار.
اللجنة أوصت وزارة الآثار باتخاذ إجراءات تسجيل المكان كأثر، كي يحافظ عليه كجزء من هوية مصر، إلا أن ان ذلك لم يكن شفيعًا للوزارة لإثنائها عن اتخاذ قرار الهدم بحجة الخطوة الداهمة التي تلاحقه والمباني المجاورة له.
وفي المقابل وكما جاء على لسان محمد عبدالعزيز، المشرف العام على مشروع القاهرة التاريخية بوزارة الآثار، فإن العقار غير أثرى، ولم يسبق تسجيله من قبل فى تعداد الآثار المصرية، موضحاً أنه صدر قرار بهدمه من محافظة القاهرة بسبب خطورته، خاصة فى ظل تعرض العقار للاحتراق مرتين فى عامى 2005 و2017، لافتاً إلى أن الوزارة لا علاقة لها بالعقار إطلاقاً.
وأضاف أنه كانت هناك قضايا يين المستأجرين والمحافظة، وليس للآثار دخل فيها، وحاولوا إدخال الوزارة فيها “لكننا أكدنا أنها لا تخص الوزارة في والعقار محروق مرتين في عامي 2005 و 2017″، منوهًا إلى أن الثقافة كانت قد شكلت لجنة عام 2000 للنظر في تسجيل العقار، وأكدت أنه لا يستحق التسجيل في تعداد الآثار المصرية، ورفضت تسجيله أكثر من 3 مرات، ولا يضم آثارًا داخله غير المدخل فقط، وهو عبارة عن أنقاض وأرض فقط.
شارع المعز لدين الله الفاطمي
مخطط محكم
في 2005 شب جريق ضخم في محلين بوكالة العنبريين، طريقة تعامل رجال الإطفاء مع الحريق أثارت وقتها الكثير من التساؤلات حول نوايا غير سوية وراءها، حيث استمر رجال الإطفاء كما يحكى أصحاب المحلات بالوكالة لثلاثة أيام كاملة يتعاملون مع الحريق باستخدام خراطيم المياه, حتى أن حوائط كاملة فى الوكالة سقطت أثناء الإطفا.
الحاج مصطفى وردة احد أصحاب محلات الوكالة في تصريحات نقلتها صحيفة “الأهرام” الممولة من الحكومة، علق قائلا «المكان كله مبنى من الحجر والأسقف من الخشب ومعروف انه مكان اثرى وقديم ولكن المطافئ تعاملت معه بمنتهى الإهمال وكأنهم يريدون هدمه فعلا حتى عندما سقط احد الحوائط لم يتوقفوا عن استخدام خراطيم المياه ،، وقتها كان هناك كلام يتردد عن رغبة وزير الثقافة الأسبق فاروق حسنى فى هدم الوكالة وكما قالوا لنا فإن الوزير كان يريد أن يتقابل مسجد الأشرف برسباى المواجه للوكالة ومسجد السلطان الغورى الذى يقع على الجانب الآخر من الشارع والتى تقع الوكالة بينهما .. وما أكد هذا الكلام انه بعد الحريق مباشرة صدر قرار برقم (14) لسنة 2005 بهدم المكان كاملا حتى سطح الأرض وهو ما وقفنا جميعا ضده وطالبنا بانتداب خبراء لمعاينة المكان .»
شهود آخرين ألمحوا إلى رغبة دفينة لدى أجهزة الدولة التنفيذية ووزارة الثقافة في هدم هذا المكان الحيوي، دون اعتبار لما يتضمنه من عبق تاريخي يعود لمئات السنين، حيث تقع الوكالة في واحد من أشهر شوارع مصر المحروسة على مر التاريخ الإسلامي كله، وهو شارع المعز لدين الله الفاطمي.
أطلق على الشارع قديماً عدة أسماء هي الشارع الأعظم وقصبة القاهرة وقصبة القاهرة الكبرى، وأخيراً أطلق عليه اسم المعز لدين الله في عام 1937 تكريماً لمنشئ القاهرة، وتمتد تلك التسمية من باب الفتوح إلى باب زويلة، شاملة شوارع باب الفتوح، أمير الجيوش، النحاسين، بين القصرين، الصاغة، الأشرفية، الشوايين، العقادين، المناخلية، والمنجدين، السكرية إلى باب زويلة.
تخوفات من استمرار عمليات الهدم
بداية لسلسلة من الهدم
تخوفات عدة انتابت سكان شارع المعز لدين الله الفاطمي والمهتمين بالشأن الأثري عقب إزالة وكالة العنبريين، حيث ذهب بعضهم إلى أن الوكالة ليست سوى البداية نحو سلسلة من الهدم خلال الفترة المقبلة، وهو ما أشار إليه الخبير الأثرى، سامح الزهار، الذي اعتبر أن هدم الوكالة بمثابة بداية لسلسلة من هدم المبانى التاريخية والمبانى ذات الطابع التراثى للقاهرة التاريخية، قائلاً: «من اليوم سيكون لدينا مبنى جديد يتهدم كل يوم»، مشيراَ إلى أن عدم تسجيل المبنى كأثر مشكلة وزارة الآثار.
الزهار في تصريحات صحفية له أضاف «شغلتنا كأثريين هى ترميم المبانى المتهالكة والحفاظ عليها، وليس تسجيل المبانى متكاملة الأركان، والحفر الكبير سيعمل على هز ورَجّ الشارع والتأثير بشكل سيئ جداً على المبانى الأثرية، فهل يضمن أى شخص ألا تتأثر المبانى الأثرية الموجودة بالشارع التاريخى جراء بناء مبنى جديد بدلاً من وكالة العنبريين؟».
ما حدث في العنبريين ليس الأول من نوعه في مشوار تشويه التراث المصري، ففي مفاجأة من العيار الثقيل كشفت عنها وزارة الأثار المصرية قبل فترة،أعلنت اختفاء 33 ألف قطعة أثرية
الخبير الأثري طالب الحكومة، وليس وزارة الآثار فقط، بالتدخل لحماية شارع المعز ومبانى الشارع التاريخى التى باتت مُهدَّدة، مقترحًا حلاً بديلاً للهدم، متمثلاً فى عرض المبنى للمستثمرين لحل النزاع مع الورثة وتسوية الأمر، بالإضافة إلى تمويل عملية ترميم المبنى المُهدَّد نظير الاستفادة بحق الانتفاع بالمكان لعدة سنوات تعوضه عن الأموال التى دفعها وأكثر.
ما حدث في العنبريين ليس الأول من نوعه في مشوار تشويه التراث المصري، ففي مفاجأة من العيار الثقيل كشفت عنها وزارة الأثار المصرية قبل فترة،أعلنت اختفاء 33 ألف قطعة أثرية، خلال عملية جرد قامت بها الوزارة بشكل ذاتي، لبحث حالة المخازن وما طرأ عليها خلال الـ50 عامًا الماضية.
وقبلها بأشهر قليلة فوجئ المصريون بالقرار الذي يحمل رقم 110 لسنة 2018 والذي بمقتضاه سيتم اقتلاع 55 منبرًا من أعظم وأجمل منابر القاهرة الإسلامية من أماكنها وتخزينها في مخازن متحف الحضارة لحين إعادة عرضها وفقًا لما ستقرره اللجان فيما بعد.
القرار أثار ضجة وجدلًا واسع النطاق في الشارع المصري خاصة بين المهتمين بالشأن التاريخي والأثري، فوفقًا لهذا القرار لن تكون المنابر وحدها الهدف بل أيضًا 60 قطعة أخرى موزعة بين مشكاوات وكراسي مقرئين وثريات، وهو ما دفع إلى التساؤل بشأن الدوافع الحقيقية وراء هذا القرار، ولمصلحة من تُشوه صورة القاهرة القديمة؟ وهو السؤال الذي لم يجد المصريون إجابة عنه حتى الآن