ليس من المستغرب أبدًا أنّ معدتك وأمعائك ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمزاجك ونفسيّتك. فلا بدّ وأنك أحسستَ مرةً بشعورٍ مفاجئ في بطنك أو معدتك في لحظةِ شعورك بالقلق أو التوتّر، أو تكون ربما شعرت بالغثيان والرغبة المفاجئة بالاستفراغ في الأوقات التي تشعر فيها بالخوف والرعب. أو قد تصيبك حرقة في معدتك في لحظات غضبك وعصبيّتك، أو أنّك شعرتَ بالجوع تزامنًا مع حزنك واكتئابك.
تمتدّ تلك الحالات وغيرها من التي تشي لنا أنّ ثمّة علاقة معقّدة تربط ما بين معدتك وبين ما يحدث في دماغك من تفاعلات وأحاسيس. والعديد من الدراسات حاولت في الفترة الأخيرة أنْ تصل لطبيعة تلك العلاقة. فعلى سبيل المثال، أثبتت إحداها أنّ الميكروبات والبكتيريا التي تعيش في أمعائنا ومعداتنا تلعب دورًا حاسمًا في تحديد مزاجاتنا.
إذ تُنتج تلك الميكروبات، والتي يتجاوز عددها أكثر من 100 تريليون، ناقلات عصبية مثل السيروتونين والدوبامين وحمض الغاما، وجميعها لديها ارتباطات متينة مع مزاجاتنا وحالاتنا الشعورية والعاطفية. وأنّ أمعاءنا تمتلك قدرات تفوق كل أجهزتنا الأخرى، ولها نظامها العصبي الخاص والمعروف في الأدبيات العلمية باسم “الجهاز العصبي المعوي”، وغالبًا ما يُشار إليه باسم “الدماغ الثاني“.
علاقة ثنائيّة الاتجاه
لنتفق بالبداية أنّ العلاقة بين العقل والأمعاء هي علاقة ثنائية الاتجاه: تتواصل الأمعاء مع الدماغ ويتواصل الدماغ مع الأمعاء في كل دقيقة من حياتنا. إذ يمكن لمجرد التفكير في تناول الطعام أنْ يتم تحرير عصارة المعدة قبل وصول الطعام إليها. كما يمكن للمعدة المضطربة أنْ ترسل إشاراتٍ للدماغ فيشعر الشخص بالاضطراب أو الألم، تمامًا كما يمكن للدماغ إرسال إشاراتٍ للقناة الهضمية فيشعر الشخص به.
تحتوي القناة الهضمية على أكثر من 100 مليون خلية عصبية تتحكّم بمزاجاتنا وحالاتنا الشعورية والعاطفية
وعلى الرغم من أنّنا نعتقد أنّ الجهاز العصبي المركزيّ -الدماغ والحبل الشوكي- هو المسؤول الأول والأخير عن صحتنا النفسية والعقلية وما قد يحدث لنا من اضطرابات أو أمراض، إلّا أنّنا ننسى أو نتجاهل بناءً على هذا الاعتقاد الدورَ الأساسيّ والمركزيّ الذي يلعبه الجهاز العصبي المحيطيّ، والذي يحتوي على أكثر من 100 مليون خلية عصبية في القناة الهضمية لوحدها، بحيث أنها تضمّ نوعًا من البكتيريا التي تُنتج ناقلات عصبية مثل السيروتونين والدوبامين وحمض الغاما، وجميعها لديها ارتباطات متينة مع مزاجاتنا وحالاتنا الشعورية والعاطفية.
الفصام والأمعاء.. اكتشافات جديدة مذهلة
في واحدة من الدراسات الحديثة والمثيرة، توصّل مجموعة من الباحثين إلى وجود علاقة ما بين مرض الفصام من جهة وبين المعدة والأمعاء من جهة ثانية. ففي الورقة البحثية التي نشرتها مجلة “ساينس أدفانسز”، حاول الباحثون إعادة النظر في الفصام بكونه مرضًا دماغيًا والتفكير فيه بشكلٍ مختلف عمّا سبق.
قد يبدو هذا غريبًا في البداية. فالفكرة القائلة بأنّ صحتنا العقلية قد تتأثّر بما يوجد في المعدة من ميكروبات وبكتيريا ليست بديهيّة تمامًا. كما أنّه يصعب تخيّل أنّ الفضام الذي يشمل العديد من الأعراض والسلوكيات النفسية مثل الذهان والأوهام والهلوسات وغيرها ممّا يحدث في الدماغ، قد يكون مرتبطًا بشكلٍ أو بآخر بالمعدة والجهاز الهضمي.
أكّدت الدراسة الحديثة بالفعل على وجود نوع معيّن من بكتيريا وميكروبات الأمعاء عند المصابين بفصام الشخصية دون تواجدها عند الآخرين من غير المصابين
باختصار، درس الباحثون البكتيريا المتواجدة في أمعاء 63 شخصًا مصابًا بأعراض الفصام، بعضهم يتناول أدوية لتخفيف الأعراض والبعض الآخر لا يتناول أيًّا منها، إضافةً لـ69 شخصًا ممّن لا يعاني من أعراض الاضطراب. أمّا النتيجة فقد أكّدت بالفعل على وجود نوع معيّن من بكتيريا وميكروبات الأمعاء عند المصابين دون تواجدها عند الآخرين من غير المصابين.
في المرحلة الثانية من التجربة، قام الباحثون بنقل عينات من الميكروبات المتواجدة في القناة الهضمية لمصابي الفصام إلى عددٍ من الفئران المختبرية، والتي بدأت لاحقًا بإظهار سلوكيّات مشابهة للفئران التي تمت هندستها مسبقًا لتكون مصابة بحالة مشابهة بمرض فصام الشخصية. ما يعني أنّ الباحثين تمكّنوا من نقل أعراض الفصام إلى الفئران فقط باستخدام بكتيريا الأمعاء المأخوذة من المرضى المصابين بالاضطراب.
تطلّعات مستقبلية.. المعدة كوسيلة لعلاج الفصام
يخبرنا هذا البحث وغيره من الأبحاث السابقة عن وجود علاقةٍ ما بين المعدة والدماغ، لكنّها لا تستطيع أنْ تجزم لنا فيما إذا كان أصل الاضطرابات العقلية كالاكتئاب والفصام يرجع إلى الأحشاء والجهاز الهضمي أم أنّهما مجرّد عوامل مساعدة في ظهور تلك الاضطرابات. فلا يمكن الإجابة على هذه الأسئلة إلا من خلال إجراء مزيدٍ من الأبحاث والدراسات. لكن مع ذلك، فإنّ الدراسات الحالية تمثل اتجاهًا مثيرًا للاستكشاف قد يلعب دورًا مهمًّا في المستقبل في العلاج وإيجاد الأدوية.
إذ أنّ البكتيريا والميكروبات الموجودة في الأمعاء تعمل على التأثير على المستقبلات العصبية والمواد الكيميائية في الدماغ، منها المستقبل NMDA، المهمّ في تنظيم اللدونة العصبية والقدرة على التكيّف والذاكرة وغيرها من الوظائف. ومن الممكن أن يؤدي وجود عدم توازن في بكتيريا الأمعاء إلى نقص في مستقبلات NMDA واختلافها، الأمر الذي قد يساهم في ظهور أعراض الفصام.
بالإضافة إلى ذلك، وجدت بعض الأبحاث أنّ الجهاز الهضمي للمرضى المصابين بالفصام يعمل على تطوير أجسام مضادة لخلايا الدماغ في الحصيّن واللوزة الدماغية والقشرة أمام الجبهيّة، وهي الأجزاء التي تشارك في وظائف الذاكرة والعاطفة والدافع والحافز واتخاذ القرار، والتي من الممكن أنْ تكون جميعها ضعيفة أو غير سليمة عند المصابين بالفصام.
وبالتالي، قد يكون من الممكن في المستقبل العثور على طريقةٍ تخفّف عن طريقها أو تعالَج بشكلٍ كلّي أعراض الفصام الصعبة من خلال الاهتمام بالمعدة والأمعاء وما يحدث فيهما من تفاعلات، عوضًا عن إمكانية تدخّل بعض الأنظمة الغذائية المحدّدة في العلاج، لا سيّما تلك التي تؤثّر على البكتيريا المعوية بشكلٍ مباشر.