عاصفة من الهجوم الكاسح شنه عدد من الصحفيين السودانيين المقربين من النظام الحاكم في الخرطوم على دولة قطر وقناة الجزيرة خلال الأيام الماضية، إثر نقل القناة تقريرًا استقصائيًا نشره موقع “ميدل إيست آي” البريطاني ذكر فيه أن مدير جهاز الأمن والمخابرات السوداني صلاح عبدالله “قوش” بحث مع رئيس الموساد يوسي كوهين، على هامش مؤتمر ميونيخ للأمن في ألمانيا، قبل أسبوعين خطط تصعيد قوش إلى سدة الرئاسة، بعد إسقاط الرئيس عمر البشير الذي يواجه تظاهرات شعبية مستمرة تطالب برحيله منذ 3 أشهر.
ومع أن مصدر التقرير كان موقع ميدل إيست، فإن اللوم والهجوم انصب على قناة الجزيرة وحدها رغم أنها تعاملت بمهنية ونشرت محتوى بيان النفي الصادر عن جهاز المخابرات السوداني في اللحظة ذاتها، في حين لم تهتم الصحف السودانية بالمصدر الأساسي وهو الموقع الإخباري الذي يديره الصحفي البريطاني المخضرم ديفيد هيرست، ويمكن تفسير هذه الخطوة للموثوقية والانتشار الذي تحظى بها قناة الجزيرة، رغم أن ذلك لا ينفي فداحة الخطأ الذي وقع فيها جهاز المخابرات السوداني عندما ألقى بكل اللوم على قناة الجزيرة.
فهل تشير الهجمة الشرسة لأقلام صحفية معروفة بولائها للبشير إلى توتر وشيك وصيف ساخن ستشهده العلاقات السودانية القطرية؟ وهل سنشهد تحولًا كاملًا في السياسة الخارجية المضطربة للحكومة السودانية؟ سنحاول الإجابة عن هذين السؤالين في هذا التقرير.
غضب من تغطية الجزيرة للتظاهرات
مع بداية اندلاع المظاهرات في الـ19 من ديسمبر/كانون الثاني الماضي تلقّى الرئيس عمر البشير اتصالًا هاتفيًا من أمير قطر الشيخ تميم بن حمد اطمأن فيه الأخير على الأوضاع في البلاد، معلنًا خلال الاتصال جاهزية الدوحة لتقديم كل ما هو مطلوب لمساعدة السودان على تجاوز هذه المحنة.
الحزب الحاكم في السودان لم يُضيٍّع فرصة المحادثة الهاتفية فسرّب معلومة اتضح كذبها لاحقًا، تقول إن قطر قدمت للحكومة وديعة قدرها مليار دولار لحل الأزمة الاقتصادية
لا يخفى على أحد أن هذا الاتصال بين الأمير والبشير تسبب في انزعاجٍ شديدٍ للشباب السوداني الذي يقود الحراك الثوري ضد البشير ونظامه، وهم لم يكونوا راضين عن التغطية الإعلامية لقناة الجزيرة التي تبث من العاصمة القطرية الدوحة، ووجهوا لها انتقادات شديدة عبرت عن عدم رضاهم لمستوى تغطية القناة لأحداث الشارع السوداني، وزيادة على ذلك اعتبر الناشطون أن توقيت المحادثة الهاتفية أعطى البشير مناورة وإحساسًا بأن المشكلة توشك على الانتهاء.
ولكن كان من الواضح أن الرؤية لم تكن واضحة تمامًا لدى المقربين من صانع القرار القطري في البداية خاصة أن الاتصال جرى بعد 3 أيام فقط من بداية الثورة إذ كان يُعتقد لديهم أن القضية اقتصادية بحتة، وأن مطالب المتظاهرين لا تتجاوز توفير الخبز والوقود والدواء وخفض أسعارها.
الحزب الحاكم في السودان لم يُضيّع فرصة المحادثة الهاتفية فسرب معلومة اتضح كذبها لاحقًا، تقول إن قطر قدمت للحكومة وديعة قدرها مليار دولار لحل الأزمة الاقتصادية، وتحقيق انفراج في الوقود ومدخلات الإنتاج والسيولة، إلا أن محافظ البنك المركزي محمد خير الزبير أقر بعد أيام قليلة بعدم تسلم أي ودائع مصرفية خارجية لا من قطر ولا من غيرها.
التحول في موقف الإعلاميين المقربين من البشير لم يبدأ من بث الجزيرة تقرير ميدل إيست آي، ففي الـ25 من فبراير/شباط الماضي انقلب الطيب مصطفى “خال” الرئيس البشير على كل مواقفه السابقة التي كان يدعم فيها قطر
في أعقاب ذلك، قام الرئيس البشير بزيارة إلى العاصمة القطرية الدوحة في يناير/كانون الثاني الماضي بمبادرة شخصية منه، ولكن يبدو أنه قد عاد خالي الوفاض، ظهر ذلك جليًّا في عدم الإعلان عن مساعدات للخرطوم من جانب الدوحة على عكس ما كان يتوقع الحزب الحاكم في السودان، وبعد عودته بأيام قليلة من زيارة قطر قام البشير بتوجيه الشكر إلى عدة دول في لقاء جماهيري، قائلًا إنها قدمت الدعم للحكومة السودانية في أزمتها، ذكر منها الصين وروسيا والإمارات، وتوقف عند الكويت، غير أن وزير العمل السابق بحر إدريس أبوقردة تدخل ليُذكّره مرتين قائلًا “وقطر.. قطر” فاضطر البشير لذكر قطر مرغمًا.
التحول في موقف الإعلاميين المقربين من البشير لم يبدأ من بث الجزيرة تقرير ميدل إيست آي، ففي الـ25 من فبراير/شباط الماضي انقلب الطيب مصطفى “خال” الرئيس البشير على كل مواقفه السابقة التي كان يدعم فيها قطر، حيث دعا في مقاله إلى الاقتداء بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قائلًا، إن السعودية والإمارات ساندته بعشرات المليارات من الدولارات الأمر الذي مكّنه من تثبيت سعر العملة الحرة في مقابل الجنيه المصري.
وبرر خال البشير الذي كان يدعو حتى وقتٍ قريب إلى الوقوف الصريح مع قطر كنوعٍ من رد الجميل لمواقفها السابقة الداعمة للسودان طيلة 20 عامًا ورعايتها اتفاق سلام دارفور، بأن “الانحياز لأي من المعسكرين (قطر، الإمارات) لا يقارن بسقوط السودان في مستنقع الفتنة وانهيار الدولة السودانية”، وفي إسقاط غريب أضاف في مقاله “في الفقه الإسلامي سعة تجيز أكل الميتة عند الضرورة”.
هجوم متزامن على قطر من 10 صحفيين سودانيين
بعد نشر قناة الجزيرة خبر لقاء قوش مع رئيس الموساد الإسرائيلي يوسي كوهين، انتفض معظم الصحفيين والكتاب البارزين المقربين من البشير والحزب الحاكم للهجوم على القناة ودولة قطر، منهم الصادق الرزيقي رئيس اتحاد الصحفيين، ومحمد حامد جمعة مدير المركز السوداني للخدمات الصحفية “وكالة تتبع لجهاز الأمن”، ويوسف عبد المنان وأم وضاح ومحمد عبد القادر ومحمد لطيف وأبّشر الصائم وخالد لقمان والهندي عز الدين، هذا إلى جانب الطيب مصطفى الذي تحدثنا عن مقاله.
ما يعضد فرضية كون الأقلام المذكورة موجهة، أنها جزمت جميعًا بأن الخبر المذكور مفبرك أو كاذب، وأن قوش لم يلتقِ مطلقًا برئيس الموساد، ولا ندري على ماذا بنوا تأكيداتهم
تنوعت حدة الهجوم بين الصحفيين المذكورين وغيرهم، من لغة سوقية ساقطة تشبه “الردح” كما في مقالات الهندي عز الدين، إلى انتقادٍ وعتاب مثل ما خطه قلم محمد عبد القادر، لكن بصورة عامة من الواضح أن الكتابات المذكورة نالت موافقة من جهاز الأمن السوداني الذي يفرض قيودًا مشددة على المواد الصحفية المرتبطة بالسياسة الخارجية وعلاقات البلاد بالدول الأخرى، هذا إن لم يكن منسوبو الجهاز تدخلوا وأوعزوا إلى البعض بالكتابة عن الموضوع كما يحدث في دول مجاورة للسودان.
ما يعضد فرضية كون الأقلام المذكورة موجهة، أنها جزمت جميعًا بأن الخبر المذكور مفبرك أو كاذب، وأن قوش لم يلتقِ مطلقًا برئيس الموساد، ولا ندري على ماذا بنوا تأكيداتهم، فكان يمكن على الأقل الوقوف على مسافة واحدة وأن يظهروا وجهة نظر الطرفين “ميدل إيست والجزيرة من جانب وجهاز الأمن السوداني من الجانب الآخر”، ففي ظل عدم وجود نفي إسرائيلي رسمي للخبر محل الجدل لا يمكن الجزم بعدم صدقيته، هذا بخلاف اكتفاء المخابرات السودانية بنفي صحة التسريب وعدم اتخاذها خطوات قانونية في مواجهة ناشري الخبر.
لكن أصواتًا معتدلة مقربة من الحكومة مثل أسامة عبد الماجد الذي كتب قائلًا: “لا يمكن تلطيخ سمعة السودان الخارجية بالتحريض للرد على قطر حتى إن كان هناك ما لا نعلمه عن فتور في العلاقة بين الخرطوم والدوحة، إلا أننا عندما نتحدث عن قطر يجب ألا يكون الهجوم عليها مناصرة لدولة أخرى وعندما ننظر للدوحة لا يمكن أن نغفل سلام دارفور الذي جرى على يديها ولا دعمها للإنقاذ لسنوات طويلة”، ويتابع في رده على الأقلام التي انحدرت في الإساءة لقطر قائلًا: “علاقات الدول لا يتم تناولها بالعواطف ولا الهياج و(الهتافية)، ولا تقاس بمساحة الدولة، بل باقتصادها وتأثيرها وحضورها الإقليمي والعالمي”.
هل أدركت قطر أن المراهنة على حكومة البشير أصبحت خاسرة؟
يصعب التنبؤ بمستقبل العلاقات بين الخرطوم والدوحة رغم التوتر الحاليّ، ولا نتوقع أن تعتذر قناة الجزيرة عن نقل خبر نشره موقع إخباري كما لمّح لذلك الكتاب والصحفيون المقربون من الرئيس البشير كشرط لبقاء العلاقات طبيعية بين الجانبين، فالجزيرة نشرت تقريرًا محددًا عن وسيلة إعلامية مختلفة وعندما صدر نفي رسمي من جهاز المخابرات السودانية قامت ببث النفي فأين يكمن الخلل هنا؟
ربما أدركت قطر أخيرًا أن المراهنة على الحكومة السودانية أصبحت خاسرة كما نستنتج من كل التطورات الأخيرة، خاصة في الرفض الشعبي الداخلي المستمر والفشل في إدارة الدولة
الخاسر الأكبر من توتر العلاقات مع قطر هو نظام البشير الذي يعاني من عزلة ورفض داخلي يظهر في المظاهرات والحركة الاحتجاجية الواضحة التي تشهدها البلاد منذ ما يقارب الـ3 أشهر، كما يوشك أن يدخل في عزلة إقليمية أخرى فهو النظام الوحيد الذي يغرد خارج السرب في منطقة القرن الإفريقي في ظل الترتيبات الجديدة التي يشهدها الإقليم، ويتجلّى ذلك في إلغاء رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد في اللحظات الأخيرة زيارةً كانت مقررة للبلاد أول من أمس الإثنين، مفضلًا الذهاب إلى جوبا للمشاركة في قمة ثلاثية جمعته مع سلفاكير ميارديت رئيس جنوب السودان، والرئيس الإريتري أسياس أفورقي، علمًا أن الأخير قاوم كل الوساطات التي قادها آبي أحمد لتلطيف الأجواء بين أفورقي والبشير.
ربما أدركت قطر أخيرًا أن المراهنة على الحكومة السودانية أصبحت خاسرة كما نستنتج من كل التطورات الأخيرة، خاصة في الرفض الشعبي الداخلي المستمر والفشل في إدارة الدولة، إلى جانب تقلب مواقف الخرطوم وعدم ثباتها على مبدأ واضح يؤسس لشراكة ولعلاقة إستراتيجية متكاملة، وربما يتجه البشير إلى مفارقة المحور القطري التركي إلى نقيضه “السعودي الإماراتي”، ولكن في حال تمت الخطوة، هل ستتعامل معه الرياض وأبو ظبي كحليفٍ موثوق؟ لا سيما أن السعودية نشرت كشف حساب فاجأت به الجميع ذكرت فيه أنها قدمت أكثر من ملياري دولار للسودان خلال الـ4 سنوات الماضية، ولا يدري أحد أين ذهبت هذه الأموال.