ربما تودع مصر الصحافة القومية خلال السنوات القادمة، تحت هذا العنوان أعرب آلاف العاملين في المؤسسات الإعلامية المملوكة للدولة عن تخوفهم حيال الغموض الذي يواجه مستقبلهم، فالصحف التي كانت بالأمس الضمانة الوحيدة للبقاء والاستمرارية في مقابل الوسائل المستقلة الأخرى باتت اليوم قاب قوسين أو أدنى من التصفية.
خطة تلوح في الأفق نحو الإطاحة بإمبراطوريات الصحف القومية في مصر بعد عقود طويلة ظلت فيها المنابر الإعلامية الشامخة في الوطن العربي والشرق الأوسط وذلك بعدما تجاوزت خسائرها 19 مليار جنيه (1.2 مليار دولار)، إثر مناقشات طويلة خلال الفترة الماضية مع “الهيئة الوطنية للصحافة” التي يترأسها الصحافي المقرب من السلطة كرم جبر.
الصحف التي أنشئت لتكون بوق الأنظمة وحائط الصد الأول ضد أي انتقادات توجه لها، وذراعها الأقوى نحو تمرير وشرعنة إستراتيجياتها، تدخل اليوم نفقًا مظلمًا في خطوة صادمة للآلاف الصحفيين الذين كرسوا حياتهم في خدمة تلك المؤسسات.. فما الدافع لمثل هذه الخطوة في هذا التوقيت؟
19 مليار جنيه خسائر وديون
بلغت قيمة العجز في المؤسسات الصحفية القومية قرابة 19 مليار جنيه ما بين ديون وخسائر، بحسب رئيس الهيئة الوطنية للصحافة، الذي أوضح خلال فحصه نسب الخسارة والمكسب أن الدين لا يتعدى ثلث المبلغ المذكور سابقًا، مضيفًا أن هناك العديد من الديون مختلف عليها، حيث تدخلت الدولة في مرحلة من المراحل ومنحت المؤسسات معونات كما منحت القطاعات الأخرى، من خلال صندوق “دعم مؤسسات الدولة”، لكن الحكومة سجلت هذا الدعم على أساس ديون.
الهدف الرئيسي من وراء تصفية الصحف القومية هو تسديد ديون تلك المؤسسات وتقليل خسائرها قدر الإمكان وبحث تخفيض الدعم الحكومي المقدم لها وذلك عن طريق عدد من الإستراتيجيات التي تذهب في هذا الاتجاه
جبر أضاف “هناك ديون غريبة لا محل لها من الإعراب، فإحدى المؤسسات أنشأت شركة للاستيراد والتصدير منذ سنة 1968، ورغم إفلاس الشركة وإغلاقها، فإن الدين استمر في التضخم حتى وصل إلى ملايين الجنيهات، لأن البنوك تتعامل مع المؤسسات القومية بمبدأ (الساعة بخمسة جنيه والحسابة بتحسب)”.
وتابع “بعض الديون على المؤسسات القومية بها خلاف مع الحكومة، بسبب تسجيلها لدى المؤسسات باعتبارها دعم، في الوقت الذي اعتبرتها الحكومة ديون”، موضحًا أنه بسبب الفوائد المتراكمة للبنوك وصلت ديون إحدى المؤسسات من 50 مليون جنيه إلى ما يقرب من المليار، مطالبًا بتقسيم وتوظيف هذه الديون حتى تستطيع المؤسسات الصحفية الالتزام بها.
كرم جبر رئيس الهيئة الوطنية للصحافة
من جانبه أرجع عبد المحسن سلامة نقيب الصحفيين ورئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام الخسائر التي منيت بها مؤسسته إلى تعيين 2500 شخص بها عقب ثورة 25 يناير دفعة واحدة – حسب قوله – مضيفًا أن الأزمة التي تواجه الصحافة المصرية بدأت منذ عام 2011، عقب الثورة فقط، موضحًا :”قبل الثورة كان لدينا في الأهرام 525 مليون جنيه فائض صافي ودائع دون أي التزامات، لا تأمينات ولا صندوق عاملين ولا أي مستحقات أخرى”.
أما الكاتب الصحفي ياسر رزق رئيس مجلس إدارة مؤسسة الأخبار والصحفي المقرب من السلطات المصرية فكشف أن هناك عدة أسباب ساهمت في زيادة خسائر الصحف القومية، أولها الوضع الاقتصادي في البلاد، حيث تسبب في نزول سعر صفحة الجورنال، كما قلت الإعلانات.
وأضاف “أما الآن فقد بلغ سعر العدد الواحد جنيهين، نحصل منها على جنيه ونصف الجنيه، و50 قرشًا يحصل عليها المتعهد والبائع، وكان العدد الواحد يتكلف 6.5 جنيه حتى قبل 3 أشهر، بينما الآن صار العدد يتكلف 7.5 جنيه، ندعم النسخة الواحدة بـ6 جنيهات، ولو دعمنا 200 ألف نسخة بـ5 جنيهات فهذا معناه أننا ننفق مليون جنيه على الدعم يوميًا وهو ما لا يحدث في رغيف الخبز، حيث يذهب الدعم لمستحقيه”.
بين الدمج والبيع
الهدف الرئيسي من وراء تصفية الصحف القومية هو تسديد ديون تلك المؤسسات وتقليل خسائرها قدر الإمكان وبحث تخفيض الدعم الحكومي المقدم لها وذلك عن طريق عدد من الإستراتيجيات التي تذهب في هذا الاتجاه.
الإستراتيجية الأولى تتمثل في غلق بعض الصحف التي تتكبد خسائر كبيرة ولا تحقق جدوى من وراء استمرارها، هذا الغلق يساعد الحكومة في استغلال الأراض والمباني الخاصة بتلك الصحف وبيعها لتسديد الديون والاستفادة من العائد المالي جراء هذا البيع خاصة أن معظم تلك الصحف تقع في مناطق إستراتيجية ذات قيمة عالية نسبة كبيرة منها في منطقة وسط البلد بالقاهرة.
فكرة الدمج لم تقتصر على الصحف فحسب، فهناك اتجاه لدمج العشرات من القنوات الفضائية المصرية في بعضها البعض، بسبب الأزمات المالية وقلة الإعلانات
تلك الإستراتيجية اعتمدت عليها الحكومة في كثير من النزاعات المالية المتراكمة لشركات مختلفة، كانت الخطة حينها التنازل عن الأراضي والعقارات في مقابل تسوية المديونيات وتعويض العاملين في تلك المؤسسات بمبالغ ليست بالقيمة، الأمر الذي ساهم في تصعيد موجة الاحتجاجات مؤخرًا في بعض تلك الكيانات.
ومن المؤسسات التي دُرِسَت حالتها بنحو مستفيض، “دار المعارف” التي تمتلك مبنى كبيرًا على كورنيش النيل، إذ استُقرَّ على تصفيتها وتوزيع العاملين فيها على مؤسسات أخرى، مع هدم مبناها المجاور لمبنى التليفزيون، ليكون جزءًا من مشروع تطوير مثلث ماسبيرو، على أن يجري التعامل مع إصداراتها عبر المؤسسات الأخرى.
أما الإستراتيجية الثانية فتعتمد على الدمج، حيث يتم دمج عدد من الإصدارات الخاصة بكل مؤسسة في إصدار واحد أو إصدارين على أقصى تقدير، في محاولة لتوفير النفقات، الأمر الذي ربما يحدث تكدس واضح في تلك الإصدارات جراء توزيع مئات العاملين عليها، وهو ما قد يقود في النهاية إلى الإطاحة بنسبة ليست بالقليلة من العمالة.
فكرة الدمج لم تقتصر على الصحف فحسب، فهناك اتجاه لدمج العشرات من القنوات الفضائية المصرية في بعضها البعض، بسبب الأزمات المالية وقلة الإعلانات، وتم بالفعل دمج قناتي “سي بي سي” و”النهار”، كما يطالب وزير الإعلام الأسبق ورئيس لجنة الإعلام والثقافة بمجلس النواب أسامة هيكل، بهيكلة مبنى “الإذاعة والتليفزيون” ودمج عدد من القنوات المصرية الحكومية، وإلغاء عدد من البرامج والقنوات الإذاعية التابعة للإذاعة.
يذكر أن مؤسسة “الأهرام”، بها أكثر من 30 إصدارًا، من بينها الأهرام اليومي والأهرام المسائي ومجلة الأهرام الاقتصادي ومجلة السياسة الدولية ومجلة الشباب والأهرام الرياضي ونصف الدنيا وعلاء الدين، وغيرها من الإصدارات، أما جريدة الأخبار المصرية يتبعها أكثر من 10 إصدارات، أهمها جريدة أخبار اليوم ومجلة آخر ساعة وجريدة أخبار الرياضة ومجلة أخبار النجوم وأخبار الأدب وأخبار الحوادث وأخبار السيارات والمسائية، وجريدة الجمهورية بها أكثر من 7 إصدارات من بينها جريدة المساء والإجيبشيان غازيت وعقيدتي وحريتي والكورة والملاعب.
فيما تتمثل الإستراتيجية الثالثة في تحويل بعض الإصدارات إلى إصدارات إلكترونية فحسب، بهدف تقليص الخسائر التي تتكبّدها المطبوعات المختلفة، واستيعاب عمالتها، إلى جانب توفير نفقات معينة، مع مراعاة استغلال المساحات الشاسعة التي تمتلكها بعض الصحف استثماريًا، يما يمكّنها من تحمّل الإنفاق على ذاتها من العائد الإيجاري لأدوار كاملة أو مبانٍ غير مستغلة.
مع اقتراب موعد انتخابات نقابة الصحفيين التي أوجلت لـ15 من مارس الحاليّ بدلاً من الأول من نفس الشهر لعدم اكتمال النصاب القانوني، تحيا الأسرة الصحفية في مصر على صفيح ساخن
رفض وتنديد
حالة من السخط والتنديد خيمت على أرجاء المشهد الصحفي بعد تسريب خطة الحكومة لتصفية الصحف القومية، إذ عبر عضو مجلس نقابة الصحافيين ورئيس التحرير السابق لصحيفة الجمهورية جمال عبد الرحيم، عن رفضه القاطع لدمج الصحف القومية أو إلغاء بعضها، موضحًا أن تلك الصحف صروح قوية ينبغي المحافظة عليها وعدم السماح بأن يتملكها أحد.
عبد الرحيم أضاف أن المؤسسات الصحافية القومية تضم قوى بشرية كبرى وكوادر وخبرات لا يستهان بها، كما أنها تقوم بدور في خدمة الصحف المستقلة والحزبية بما تملكه من إمكانات ومطابع، مرجعًا الخسائر التي تتكبدها إلى الخلل في الهياكل التمويلية وعدم الاهتمام ببناء الكوادر وانخفاض معدلات توزيع الصحف، مشيرًا إلى أنه من غير المقبول أن نترك تلك المؤسسات تنهار، ولا بد من دراسة أوضاع المؤسسات الصحافية المتعثرة ومساعدتها للتخلص من ديونها وحماية حقوق العاملين بها.
فيما أشار حازم حسني الصحفي بمؤسسة الأخبار والمرشح لعضوية نقابة الصحفيين إلى ضرورة مقاومة مخطط الحكومة والتصدي لقانون الهيئة الوطنية الذي وصفه بـ”اللعين”، محذرًا مما أسماه “تقنين الدولة للدمج وإلغاء إصدارات ومؤسسات”.
حسني على صفحته الرسمية على “فيسبوك” كشف عن تحذيره الدائم من هذا المخطط وضرورة التصدي له بقوة وذلك خلال لقاءاته الانتخابية المكثفة في عدد من الصحف، مضيفًا “لسنا مسؤولين عن مديونيات الصحف القومية حتى تدمجوها وتلغوا بعضًا من إصداراتها، فاسقطوا هذه الديون، أهملت السلطة تحصيل الضرائب والمستحقات مجاملة لرؤساء مجالس الإدارات في الماضي ولضمان سيطرة الدولة على الصحافة، والآن أصدرت السلطة قوانين اغتيال المهنة فانتهى بنا المطاف إلى عجز عن الدفاع عن مؤسساتنا وإصداراتنا، فلا نامت أعين المتخاذلين”.
أما الصحفية محاسن السنوسي المرشحة لعضوية النقابة، فأشارت إلى أن الدمج دون أسباب واضحة مضيعة للوقت، مؤكدة أنه لن يحقق أي نتائج ملموسة على أرض الواقع، دون رؤية حقيقية لتطوير تلك المؤسسات والحد من خسائرها، كاشفة أن القرار في مضمونه يتعامل مع المؤسسات الصحفية كأنها شركات تهدف إلى الربح وليس نشر المعرفة والوعي في بلد تنتشر فيه الشائعات بصورة مخيفة.
فيما تساءل بشير العدل مقرر لجنة الدفاع عن استقلال الصحافة: لماذا ارتفعت ديون المؤسسات إلى 19 مليار جنيه، وهذا الرقم الذي سبق وأن أعلنه جبر قبل شهور؟ ولماذا لم تنجح الهيئة في خطة الإصلاح التي سبق أن أعلنتها؟ وإذا كانت أصول المؤسسات ليست ملكًا للحكومة، فمن له حق التصرف فيها؟
ومع اقتراب موعد انتخابات نقابة الصحفيين التي أوجلت لـ15 من مارس الحاليّ بدلاً من الأول من نفس الشهر لعدم اكتمال النصاب القانوني، تحيا الأسرة الصحفية في مصر على صفيح ساخن، لا سيما العاملين بالصحف القومية لما ينتظرهم من مصير مجهول، مؤملين على مجلس النقابة الجديد التصدي لتلك المحاولات.. فهل ينجح؟