قبيل أيام من حادث نيوزيلندا الإرهابي نشر منفذ الهجوم بيانًا على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” تحت عنوان “الاستبدال الكبير”، ويتكون البيان من 87 صفحة تتناول توضيحًا عن الهجوم وعبارات كراهية ضد المهاجرين والمسلمين دون أن تحمل توقيعًا.
لاقى البيان فور نشره تعليقات من أنصار اليمين المتطرف مشجعين إياه بالمضي قدمًا نحو التنفيذ، تلاه نشر مقطع فيديو باستخدام خاصية البث المباشر مدته 17 دقيقة يظهر فيه عملية إطلاق نار على مسجدين بمدينة كرايست تشيرش، راح ضحيته أكثر من 50 مسلمًا وعدد آخر من المصابين.
الأصول الفكرية للاستبدال الكبير
يشير الكاتب السوري محمد نمر المدني في كتابه “عقدة الأندلس وأسلمة أوروبا” إلى بدايات طرح أفكار تتعلق بإيقاف المد الإسلامي في أوروبا، ففي رواية نشرت في بداية السبعينيات باسم “مخيم القديسين” للكاتب الفرنسي جان راسبيل صور فيها أوروبا وهي تعج بالمهاجرين من شبه القارة الهندية ورأى في ذلك استبدال الحضارة الأوروبية إلى حضارة أخرى بطرق سلمية لم يسبق لها مثيل.
ويقترح راسبيل في روايته عدة إجراءات لوقف هذا الاستبدال مثل تشجيع الإيمان المسيحي وزيادة نسبة الولادات وصهر المهاجرين الجدد، كما يدعو إلى عصرنة المجتمعات المسلمة بتثقيف المرأة لخفض معدلات الولادة وإقناعها بالإجهاض عند الضروره، ودعا راسبيل أيضًا إلى استقبال مهاجرين من بلدان أخرى مسيحية ما قد يسمح لأوروبا بالحفاظ على هويتها الدينية.
أما أوريانا فلاتشي فترى في كتابها “قوة المنطق” أن عدد المسيحيين الملتزمين يتناقص مقابل تزايد عمار المساجد، ففي بريطانيا على سبيل المثال عدد رواد المساجد أكبر بكثير ممن يذهبون إلى الكنيسة الإنجيلية.
تخوفات من التغير الديمغرافي لأوروبا
“أوروبا ستصبح يومًا بعد يومٍ إقليمًا من أقاليم الإسلام أو مستعمرة إسلامية“
دانيا بابيس
في السنوات الأخيرة تغيرت ملامح أوروبا كثيرًا، فرغم تضييق الخناق على المسلمين فإن الإسلام ظل يتمدد بمفرده وأصبح الأوروبيون يقبلون عليه حتى دون أن يدعوهم إليه أحد، ومن هنا ترى المؤرخة بات يي أور أن أوروبا على وشك أن تصبح مستعمرة إسلامية أطلقت عليها اسم “أورابيا” وذلك من دمج كلمتي “أورو – عرب”.
كما يرى بعض الباحثين الغربين كمارك شتاين أن أوروبا مرغمة على الأسلمة ويتنبأ في كتابه “أوروبا العربية” أن أوروبا سوف تصبح مستعمرة إسلامية، وذهب غيره إلى اقتراحات من شأنها أن تقلل خطر التمدد الإسلامي في أوروبا.
جان رونود كامو وتطوير النظرية
مع صعود اليمين المتطرف وتزايد شعبيته اتجه العديد من الباحثين الغربيين لكتابات الماضي التي تحذر من تجريف الحضارة الأوروبية وتزايد أعداد المهاجرين في مقابل تناقص أعداد مواطني أوروبا الأصليين، ففي عام 2011 صدر كتاب بعنوان “الاستبدال الكبير” أو “الإحلال الغفير” لكاتب يميني يدعى جان رونود كامو أعاد فيه صياغة أفكار راسبيل وفلاتشي، إلا أن تم اعتباره منشئ نظرية مؤامرة الاستبدال الكبير التي يحذر فيها من خطر استعمار فرنسا من المهاجرين المسلمين من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
وعلى عكس المدافعين عن هوية أوروبا المسيحية فـ”كامو” لا يخشى إلا على سقف الحرية التي تعيشه أوروبا، رافضًا أي قيود دينية على حرية الفرد، فعلى جانب آخر جان كامو يعد من أشهر المدافعين عن المثلية الجنسية في فرنسا ويعلن مثليته بشكل علني.
محطات من حياة كامو
عام 1994 اضطر كامو إلى سحب كتاب له بعنوان “ريف فرنسا” بعد أن لوحق بتهمة معاداة السامية بسبب عبارة ندد فيها بهيمنة الصوت اليهودي والإفراط في تمثيل اليهود على برنامج تبثّه إذاعة “فرنسا الثقافية” حيث قال: “يقلقني ويحزنني أن أرى وأسمع هذه التجربة الفرنسية ثقافة وحضارة، وقد أصبح الناطقون الرسميون باسمها ومعهم وسائل الاعلام في الكثير من الحالات في أيدي غالبية يهودية”.
دافع كامو عن نفسه بالقول إنه لم يدع إلى العنف وأنه يعبر عن موقفه السياسي، لم تكن الغرامات المادية رادعًا لكامو فظل ينشر نظريته داخل الأوساط اليمينة حتى استعملت أفكاره على نحو دموي وتأثر بها مهاجم نيوزيلندا وأطلق اسمها على بيانه
تعرض كامو لهجوم حاد في الصحافة الفرنسية وشبّهته إحدى الصحف بهتلر ونسبت إليه تهمة معاداة السامية التي لا مجال للرجوع عنها أو الشفاء منها، حاول جاهدًا أن يرسل دفاعاته لكثير من الصحف لكن كلها قوبلت بالرفض، وضح الكاتب موقفه فيما بعد بالقول: “المقاطع التي كتبها وتمّ تجريمها تعكس مزاجي يوم كتبتُها، وأنا لا أنكرها بأي حال من الأحوال”، بعد هذه الإدانات الواسعة أدرك الكاتب مدى صعوبة استعمال كلمة “يهود” لما تنطوي عليه في فرنسا – والغرب عمومًا – من مدلولات مأسوية، لكنه عاد من جديد عام 2018 بكتاب بعنوان “لن تحلوا محلنا” في إشارة إلى هتاف نادى به متظاهرون يمينيون في ولاية فيرجينيا عام 2017 “لن يحل اليهود محلنا”.
عقوبات غير رادعة
واجه الكاتب عقوبات بتهمة التحريض على الكراهية والعنف وتم تغريمه مبالغ مالية من القضاء الفرنسي عدة مرات تعويضًا لصالح حركة مناهضة العنصرية والصداقة بين الشعوب، واعتبرت المحكمة أن تصريحات الكاتب تصور المسلمين المهاجرين في فرنسا على أنهم غزاة مستعمرون يعملون من أجل فتح إسلامي جديد، وأنهم قدموا لتكدير حياة السكان الأصليين وإجبارهم إما على الفرار أو الخضوع.
دافع كامو عن نفسه بالقول إنه لم يدع إلى العنف وأنه يعبر عن موقفه السياسي، لم تكن الغرامات المادية رادعًا لكامو فظل ينشر نظريته داخل الأوساط اليمينة حتى استعملت أفكاره على نحو دموي وتأثر بها مهاجم نيوزيلندا وأطلق اسمها على بيانه.