شهد العقد الثامن والتاسع من القرن العشرين صدامًا فكريًا بين النظام المصري والإسلام الراديكالي، أدى إلى مواجهة مسلحة راح ضحيتها المئات من الطرفين، إذ برز نجم الجماعة الإسلامية آنذاك، فهي واحدة من أقوى الجماعات التي كَمِنَ مفهومها في التغيير والوصول للحكم في القوة المسلحة عن طريق الاغتيالات التي طالت رئيس الدولة، في هذه الدراسة نتناول نشأة الجماعة الإسلامية ومرجعياتها الفكرية والشرعية وهياكلها التنظيمية وأبرز قادتها وإستراتيجيتها في التغيير، وأهم الأحداث التي مرت بها ونظرتها إلى الجماعات المصرية الأخرى، ومراجعاتها الفكرية والشرعية وأين وصلت تلك الجماعة الآن؟
النشأة الفكرية والتنظيمية
وقف العنف، رؤية واقعية ونظرة شرعية، وحُرمة الغلو في الدين وتكفير المسلمين، هكذا بدأت الجماعة الإسلامية في أواخر التسعينيات مراجعاتها بأسماء تلك الكتب والمراجع التي حثت بها أعضاء الجماعة كافة بالداخل والخارج على وقف العنف، فما الأسس الفكرية والمرجعيات الشرعية التي بدأت بها الجماعة في أول نشأتها؟
تعارض شباب الجماعة مع قرارات وزارة الأوقاف بشأن الأمور الدينية التي كانت تجعل من الدين كهنوتًا تعبديًا يتعارض مع الحياة الثقافية
تأسست الجماعة الإسلامية في بداية السبعينيات، حيث كان النشاط الطلابي أبرز هياكلها بقيادة عبد المنعم أبو الفتوح معه أبو العلا ماضي وعاصم عبد الماجد وأسامة حافظ وكان اسمها آنذاك لجنة التوعية الدينية كفرعٍ من أنشطة اتحاد الطلبة بجامعة القاهرة حتى بدا اسمها ينجلي بالجماعة الإسلامية عام 1973 تأثرًا بجماعة المودودي في باكستان تقديرًا لمجهوداته وكتاباته التي كان لها أثر كبير في منهج الجماعة الفكري.
وعلى حسب عضو الجماعة علي الديناري فإن الجماعة نشأت وسط بيئة شيوعية يسارية مُتحررة من القيم بشكل كبير داخل أسوار الجامعات، فبدأ يزدهر نشاط الجماعة الطلابي من مظهرٍ إسلامي كاللحية للطلاب والحجاب للطالبات، حتى برزت المشاحنات بين الفكر الطلابي المنقسم بين الشيوعي والإسلامي كل منهما يستقطب الآخر.
كما تعارض شباب الجماعة مع قرارات وزارة الأوقاف بشأن الأمور الدينية التي كانت تجعل من الدين كهنوتًا تعبديًا يتعارض مع الحياة الثقافية، ووجه شباب الجماعة دعواتهم إلى الشيخ المحلاوي والغزالي وعبد الحميد كشك وصلاح أبو إسماعيل وغيرهم من رجال الدين المعارضين للسلطة وسياساتها، ونشرت الجماعة كتب العقيدة في مقدمتها كتاب “معارج القبول” للشيخ حافظ حكمي ردًا على عقيدة التكفير التي وجدت لها أنصارًا من بعض الشباب، وكذلك كتب تفسير القرآن الكريم مثل تفسير ابن كثير، وانتشر كتاب “في ظلال القرآن” للأستاذ سيد قطب رحمه الله وبعض من كتاباته قبل أن تصدر الحكومة قرارًا بمنع نشرها وتداولها، وكتب الحديث مثل رياض الصالحين والأربعين النووية وجامع العلوم والحكم وكتب الآداب العامة والأخلاق مثل منهاج المسلم وكتب الأستاذ أبو الأعلى المودودى مما بدأت تتشكل روح الجهاد عند أكثر الطلاب المتعطشين لحياة منهاج الإسلام.
ظل النشاط الدعوي ينبت رويدًا رويدًا، إنشاء المعسكرات الإسلامية، دروس الفقه والعقيدة والجهاد، الجدالات بين الشيوعيين والإسلاميين تزداد حدة، حتى أواخر السبعينيات تحول المشهد بأكمله بين صراع الجماعة والنظام عندما وقَعَ السادات اتفاقية كامب ديفيد
من حيث المنهج والأفكار لم تختلف الجماعة كثيرا عن جماعة الجهاد الإسلامي، بل تعاونت معها على المستوى التنظيمي فيما بعد، الجهاد في سبيل الله فرض عين على المسلم عندما يُداهم العدو بيته ويهتك عرضه ويسرق ماله ويطغى بقوته على عقله، سواء أكان عدو كافر خارجي أم عدو داخلي يختبئ خلف لباس موالاة الكافر، ومن حيث العقيدة، ومن لا يكفر الكافر فهو كافر، والكافر هنا الذي أذاع كفره علنًا أمام الناس، ومن حيث التنظيم قسمت الجامعات على شكل هياكل، كل جامعة يتولاها أمير، وانتُخب أمير لجامعات مصر كافة حلمي الجزار.
النشاط الدعوي والحركي
ظل النشاط الدعوي ينبت رويدًا رويدًا، إنشاء المعسكرات الإسلامية، دروس الفقه والعقيدة والجهاد، الجدالات بين الشيوعيين والإسلاميين تزداد حدة، حتى أواخر السبعينيات تحول المشهد بأكمله بين صراع الجماعة والنظام عندما وقَعَ السادات اتفاقية كامب ديفيد مع الحكومة الإسرائيلية المحتلة للأراضي الفلسطينية.
اتفاقية كامب ديفيد
حينئذٍ احتشد ما يقرب من 30 ألف من أعضاء الجماعة الإسلامية في ميدان ناصر بمحافظة أسيوط اعتراضًا على استقبال السادات شاه إيران، وعلا صدى صوت الهتاف ضد السادات بوصفه عميلًا للأمريكان واندلعت اشتباكات أثارت عنفها دم أول قتيلٍ للجماعة الإسلامية على يد النظام الساداتي واسمه عنتر كمال، وبدأت تدُق طبول المواجهة بين النظام والجماعة لاسيمًا بعد التضييق الأمني الذي وجهه النظام لها على مستوى الأنشطة الطلابية وغيرها.
حينها كان الإخوان يلمّلمُون أشلاءهم بعد بوابة عبد الناصر المظلمة في تاريخهم، فَاستقطبت حينها بعض ناشطي الجماعة الإسلامية كعبد المنعم أبو الفتوح وعصام العريان وأبو العلا ماضي وغيرهم من كوادر الجماعة الإسلامية مما تسبب بعد ذلك في فصلهم من الجماعة الإسلامية، واتجه أعضاء منشقون من الجماعة الإسلامية إلى العمل السلفي الدعوي بين أركان المساجد مثال أسامة عبد العظيم ومحمد الدبيسي وعبد الله سعد وأحمد فريد وياسر برهامي.
وبدأت الجماعة تأخذ خُطى من سبقوها من مجموعات الجهاد كمجموعة الفنية العسكرية، وقد زاد حماس الجماعة في اتخاذ منهاج العنف عندما اجتمع محمد عبد السلام فرج مؤلف كتاب “الفريضة الغائبة” الذي يُعتبر ارتكازًا وخطة إستراتيجية لاغتيال السادات، حيث تناول فيه فتاوى للإمام أبو حنيفة والشيخ ابن تيمية في تحول دار الإسلام إلى دار كفر عندما توافر بها عدة شروط هي:
– أن تعلوها أحكام الكفر.
– أن تكون غير آمنة للمسلمين، فبذلك تتحول ديار الإسلام إلى ديار كفر يجب عودتها إلى الإسلام، ثم توجه بعد ذلك إلى حاكم تلك الديار فَشبه الوضع المصري بوضع المسلمين أيام حُكم التتار فهم مسلمون ولكن يحكمون بغير ما أنزل الله، واستند بآية “ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون” ووصف حكام العصر بأن أبواب الكفر التي خرجوا منها من ملة الإسلام تعددت ويجب قتالهم.
في مطلع سبتمبر/أيلول من عام 1981، اعتقل السادات ما يزيد على 1500 فرد من الجماعة الإسلامية، وشدد خطاباته على أفراد الجماعة متوعدًا لهم ولشيُوخهم وعلمائهم بعدم الرحمة
وعلى الرغم من اتفاق الجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد بالتعاون في تبني العمل المسلح، فإن الجماعة الإسلامية كانت بدايتها دعوية إصلاحية خالصة، اقتصرت على انتشار المظاهر الإسلامية التعبدية، والجِدلات الفكرية بينها وبين واليسار المصري إلى أن تدرج الأمر شيئًا فشيئًا، فحادثة الفنية العسكرية التي تعد أول محاولة انقلاب مسلح فعليّ على حكم السادات، أثارت نفوس شباب الجماعة الإسلامية نحو التغيير بالقوة.
وشكلت أفكار قطب والمودودي النظرة الفكرية للمسلم إلى المجتمع من حوله، وكانت نظرة جديدة تحث على اغتراب الإنسان المسلم عن المجتمع الذي يسوده مظاهر الجاهلية، ورسائل الإيمان لصالح سرية التي كفرت الحاكم ومن والاه كانت بمثابة نقلة فكرية للعقل المسلم وخطة إستراتيجية في التغيير، والعنف الذي انتهجه نظام السادات بحق الإسلاميين بعد اتفاقية “كامب ديفيد” وإهانته لأكبر الرموز الإسلامية حينذاك، تلك المتغيرات أدت إلى الوصول بالجماعة الإسلامية لإنشاء جناح مسلح يتصادم مع النظام، أما كتاب الفريضة الغائبة كان بمثابة الخطة الفكرية لاغتيال السادات.
اغتيال السادات
في مطلع سبتمبر/أيلول من عام 1981، اعتقل السادات ما يزيد على 1500 فرد من الجماعة الإسلامية، وشدد خطاباته على أفراد الجماعة متوعدًا لهم ولشيُوخهم وعلمائهم بعدم الرحمة إثر اندلاع موجات عنف حدثت من الجماعة في نجع حمادي بالأقصر بينهم وبين عائلات من النصارى أفتى لهم الشيخ عمر عبد الرحمن باستحلال أموالهم، وتوجهت سواعد الجماعة للنيل من رأس السادات نفسه، حيث رأوه يستهين بالدعاة والشيوخ ومظاهر الإسلام وأحكامه، وضعت الخطة بقيادة خالد الإسلامبولي وعبد السلام فرج باغتيال السادات في أثناء عرض طابور عسكري بالقاهرة، وكانت مجموعات مكلفة بالاستيلاء على مبنى الإذاعة والتليفزيون لبث بيان يشابه بيان صالح سرية في وقت سابق يحث المصريين على النزول إلى الميادين لتقوم ثورة إسلامية يقودها أفراد الجماعة في جميع المحافظات، جاء يوم العرض الـ6 من أكتوبر/تشرين الأول بعد الترتيبات الأمنية التي وضعها منفذو العملية.
نجح الإسلامبولي ومن معه في إتمام نصف الخطة المرجوة بعد الاقتناع التام أن إستراتيجية قتال العدو القريب أولى من قتال البعيد
وفي أثناء العرض أطلق القناص حسين عباس دفعة من الطلقات أصابت السادات، ونزل خالد الإسلامبولي من سيارة كان يستقلها وألقى قنبلة ثم أخذ رشاش سبق أن وضع به الذخيرة التي فُرغ كاملها في صدر السادات، وألقى عطا حايل قنبلة أخرى وتم القبض بعد المطاردة على الثلاثة خالد الإسلامبولي وعطا طايل وعبد الحميد عبد السلام وهرب حسين عباس وقبض عليه لاحقًا، وقد نُفذ حكم الإعدام في الأربعة وحُكمَ بالمؤبد وأحكام أخرى على قادة أخرى من قيادات الجماعة.
أما الجزء الثاني من الخطة المُتموضع في محافظة أسيوط لثقل تكتل الجماعة هناك استطاع أفراد الجماعة اقتحام مديرية أمن أسيوط واستولوا على سلاح وذخيرة قسم ثاني أسيوط، ولكن سرعان ما تجمعت قوات أمن النظام واحُتدم الاشتباك ممّا أوقع بسبعة قتلى من أفراد الجماعة وما يزيد على 60 من قوات الأمن، وتم القبض على معظم أفراد الجماعة وكان منهم عاصم عبد الماجد وقيادات أخرى وانتهى اليوم بالفشل الجزئي المتمثل في عدم نجاح الثورة واغتيال السادات كان الحدث الأهم.
نجح الإسلامبولي ومن معه في إتمام نصف الخطة المرجوة بعد الاقتناع التام أن إستراتيجية قتال العدو القريب أولى من قتال البعيد، مبرهنًا أن الحاكم الداخلي هو الذي يأتمر بقوانين الخارجي، بل يحميه ويعاهده ويقتل أبناء شعبه ممن يخالف موالاة الكافر وتشريعاته، كان مقتل السادات نصب أعين الجماعة في أولوياتهم وقد نالوه، ولكن فشلت بقية الخطة المتمثلة في إعلان الثورة الإسلامية تحت غطاء شعبي يتدفق من المحافظات الأخرى تحديدًا “جنوب مصر” إلى القاهرة تحت حماية الجناح المسلح للجماعة، فتستسلم كل مؤسسات الدولة للنظام الجديد تحت إمرتهِم، ونالت الجماعة فشلاً ذريعًا فيما رجت ويرجع ذلك إلى ضعف خطة الجماعة التنظيمية من حيث العدة.
فسواعد أفراد الجماعة لا تحمل إلا سلاح خفيف يكفي للاستيلاء على محلات ذهب وليس دولة وجيش بحجم الدولة المصرية ومؤسساتها، لذلك أخفقت مواجهات الجماعة في أسيوط، ولم تتدفق المظاهرات إلى القاهرة مما دل على خسران الجماعة الغطاء العاطفي والفكري لدى الشعب المصري تجاهها، ولكن أيقن شباب الجماعة أن أفكاره أصابت كما أخطأت وأنهم مهما كان عددهم وعدتهم ضعيفة فلا يستهان بها، فقد نالت من الرأس الكبرى للدولة المصرية، لذلك بدأ الفكر الجهادي يتعمق داخل معتنقيه فدخلت الجماعة ومن والاها في صراع مسلح مع النظام المصري المباركي الجديد.
المواجهة
أثيرت الخلافات داخل السجون بين قيادات الجهاد الإسلامي والجماعة الإسلامية بشأن تولي عمر عبد الرحمن الإمارة من عدمها، فأدى ذلك إلى الانفصال وعادت الجماعة الإسلامية لتعمل بشكل هيكلي جديد وإستراتيجي يتفادى أخطاء ما حدث في أحداث سبتمبر/أيلول عام 1981، واحتضنت الجماعة العائدين إليها مثل عبود الزمر وابن عمه طارق الزمر.
عمر عبدالرحمن خلال إحدى جلسات محاكمته “أرشيفية”
عادت الجماعة من جديد وبدأ ارتصاص صفوفها مرة أخرى بعد خروج بعض القيادات من الصف الثاني والثالث في منتصف الثمانينيات من السجن ليحملوا إستراتيجية ومنهاجًا جديدًا للجماعة يرجع إلى ميثاق العمل الإسلامي الذي أصدرته الجماعة للرد على الشبهات الضالة في نظرها، ولتكوين مرجعية فكرية ومنهجية سياسية للتعامل مع أفرادها والجماعات الأخرى ونظام مبارك المعادي لها كسابقه، إستراتيجية لا تستبعد الجهاد والعمل المسلح بل تنظمه، والدعوة إلى الله تعالى والجهاد في سبيل الله، لا يمكن فصلهما عن بعضهما البعض، طالما ظل أهل الباطل يصارعون أهل الحق، وفي هذا الإطار تحققت العديد من المكاسب، صعد نفوذ الجماعة مرة أخرى وعاد الصدام المسلح.
بدأ الصراع يزداد عنقوده في التعقد دون وساطة حتى أتى النظام المصري بأشد وطأته في عهد وزير الداخلية المصري حسن الألفي حتى أعدم ما يقرب من 16 فردًا في عدة قضايا متباينة خلال شهور قليلة
نفذت الجماعة حادثة اغتيال وزير الداخلية المصري زكي بدر ولكنها فشلت في استهدافه لتعطل مُفجر زُرعَ بسيارةٍ مفخخة أسفل كوبري الفردوس بالقاهرة في منتصف ديسمبر/كانون الأول من عام 1989، ثم أُقيل زكي بدر وعين مكانه الوزير الأكثر سوءًا عبد الحليم موسى الذي قتل في الشهور الأولى من توليته عشرات الأفراد من الجماعة الإسلامية، كما أشعل فتيل الأزمة عندما اغتيلت قواته المتحدث الإعلامي باسم الجماعة الإسلامية علاء محي الدين.
فجاء رد الجماعة بعد ما يقرب من عام واحد باغتيال رئيس مجلس الشعب رفعت المحجوب وسط القاهرة في أثناء مرور موكبه، فقد استطاع أربعة مُسلحون القضاء عليه وعلى سائقه ومعظم الشخصيات الأمنية التي تتولى حراسته واتهم في اندلاع الحادث رئيس الجناح العسكري في الجماعة ممدوح علي يوسف وتم القبض عليه وألقي في السجن هو وعدد من المتهمين على خلفية الحادث وعلى رأسهم صفوت عبد الغني.
وبدأ الصراع يزداد عنقوده في التعقد دون وساطة حتى أتى النظام المصري بأشد وطأته في عهد وزير الداخلية المصري حسن الألفي حتى أعدم ما يقرب من 16 فردًا في عدة قضايا متباينة خلال شهور قليلة، لتكتمل حصيلة إعدامات مبارك لأعضاء الجماعة الإسلامية إلى 88 عضوًا وزادت وتيرة العنف في محافظة أسيوط حيث سكن الجماعة هناك وقُتل عشرات الأفراد على يد قوات الأمن المصرية في سابقةٍ عنفٍ لم تتكرر في العقود السابقة لحكم السادات وعبد الناصر، ثم تبع ذلك محاولة اغتيال مبارك في العاصمة الإثيوبية “أديس أبابا” عام 1995.
ثم من رئيس الدولة للمفكر والكاتب فرج فودة الذي اغتاله أعضاء الجماعة الإسلامية على خلفية مناظرة تمَّت في معرض الكتاب انتقد فيها الأخير بعض الجماعات الإسلامية الراديكالية، وانتقد العنف القائم من ورائها، وانتقد منهجيتهم في دولة الإسلام وبعض المفاهيم الإسلامية، ومن اغتيال فرج فودة إلى إصابة نجيب محفوظ إلى الوصول لصفوت الشريف، ونفذت الجماعة الإسلامية عشرات العمليات على السائحين القادمين إلى مصر مما أدى إلى مقتل ما يزيد على مئة سائح ومئات المصابين في حوادث الأقصر وغيرها من الأماكن، حتى وصل بالجماعة إصدار بيانات تحث فيها السياح على عدم القدوم إلى مصر حتى لا يكونوا عُرضةً للخطر.
وجهت الجماعة الإسلامية نظرة حادة للتيارات الإسلامية الأخرى الموجودة على الساحة، فعبرت في ميثاق عملها الإسلامي عن الحركة السلفية المقصورة بين أعمدة المساجد وأمور العبادات التي لا تزعج الحاكم
بدا المشوار مليئًا بالأشواك بين النظام المصري والجماعة الإسلامية، فلم تنجح الجماعة في إفشال النظام على قدر ما نجحت في إرهاقه، لم تنجح في إستراتيجيات المواجهة في انتهاج مبدأ حرب العصابات لعدم توافر الطبيعة الجغرافية التي تناسب ماهية تلك الحرب، وعدم وجود حاضنة شعبية تأوي أفرادها، بل نجحت داخلية النظام المصري في إستراتيجية النفس الأطول والبقاء للأقوى، وتصدير الصورة الإرهابية للجماعة للرأي العام الداخلي والخارجي، وأن الإسلام السياسي منطوي تحت راية الدولة المصرية بلا غلو، متمثلاً في الدعوة السلفية والإخوان المسلمين، فما نظرة الجماعة الإسلامية للجماعات الإسلامية الأخرى مثل الإخوان وغيرها؟ قبل أن تبدأ قادة الجماعة أواخر التسعينيات بالمراجعات الفكرية والمنهجية وطرح مبادرة وقف العنف من داخل السجون المصرية، فما الذي دفعهم لتلك المراجعات؟
الجماعة والجماعات الأخرى
وجهت الجماعة الإسلامية نظرة حادة للتيارات الإسلامية الأخرى الموجودة على الساحة، فعبرت في ميثاق عملها الإسلامي عن الحركة السلفية المقصورة بين أعمدة المساجد وأمور العبادات التي لا تزعج الحاكم بأنها حركات مغالطة للدين تأخذ منه ما يتماشى مع أمنها وتنسى منه ما يذكرها بالبلاء والجهاد في سبيل الله.
أما عن جماعة مثل الإخوان المسلمين التي فضلت العمل الحزبي والمشاركة النيابية في أركان حكم السادات ومبارك من جمعيات محلية ومجالس شعبية وشورية، فوجهت لها عدة رسائل منها رسالة “نحن والإخوان” التي حرمت فيها المشاركة مع النظام الكافر والوقوف بجانب العلمانيين والتخلي عن الجهاد لإزالة حكم الكفر من ديار الإسلام، أما عن جماعة الجهاد فكانت الأقرب للجماعة الإسلامية من حيث قرب المنهج والمشاركة التنظيمية المسلحة لا سيما في أحداث اغتيال السادات.
مئات القتلى، عشرات الإعدامات التي نفذت، الآلاف داخل السجون يتعرضون للتعذيب والتنكيل، هكذا وصل الحال بالجماعة عام 1997
ولكن اختلفت عنها في بعض الرؤى الشرعية داخل السجن في أثناء تولية الإمارة للشيخ الضرير من عدمه، وخارج السجن ذاقت الجماعة مُرَّ انتقادات قيادات الجهاد بعد طرح مبادرة وقف العنف، إلى حد كبير وَقف التراشق الشرعي بين تلك الجماعات بعد اندماج الجهاد بالقاعدة تحت إمرة بن لادن، وخرج أغلب أعضاء الجماعة الإسلامية من السجون بعد ثورة 25 من يناير/كانون الثاني وشاركت بجانب الإخوان المسلمين في الانتخابات والاستحقاقات الدستورية بذراعها السياسي حزب البناء والتنمية إلى أن انتهى الأمر بها إلى المطاردة والرجوع إلى السراديب السوداء والمنافٍ بعد عامين فقط من المشاركة وذلك بعد اندلاع أحداث 3 من يوليو/تموز عام 2013 ورجوع الجيش إلى سدة الحكم مرة أخرى.
المراجعات الفكرية للجماعة الإسلامية
مئات القتلى، عشرات الإعدامات التي نفذت، الآلاف داخل السجون يتعرضون للتعذيب والتنكيل، هكذا وصل الحال بالجماعة عام 1997 حتى أطلقت مبادرة وقف العنف في 5 من يوليو/تموز من نفس العام، التي نادى بها أعضاؤها في الداخل المصري والخارج إلى وقف العمليات المسلحة ضد النظام والمدنيين وذلك لمصلحة الإسلام والمسلمين.
استقبل أعضاء الجماعة وقياداتها بالخارج المبادرة بين الرفض والاستحسان، فرفض القيادي رفاعي طه تلك المبادرة وانتقد الجماعة وقياداتها ممَّا أدى إلى استقالته من الجماعة فيما بعد، إلى أن بدأت المواقف المتراجعة تترجم إلى صحف وكتب فكرية، فأصدرت الجماعة عام 2002 أربعة مؤلفات بعنوان – مبادرة وقف العنف: رؤية واقعية ونظرة شرعية – تسلط الأضواء على ما وقع في الجهاد من أخطاء – حرمة الغلو في الدين وتكفير المسلمين – النصح والتبيين في تصحيح مفاهيم المحتسبين، لتبدأ المصالحة الفعلية بينها وبين نظام مبارك فبدأت أوضاعهم في السجون تتحسن ناهيك عن الإفراجات التي نالها أعضاء الجماعة.
يتناول الباحث في شؤون الحركات الجهادية عمر عاشور مؤلف كتاب “ديراديكالية الجهاديين” أن المراجعات الفكرية للجماعة الإسلامية في مصر أتت بثمارها، حيث أنقذت الجماعة مئات الأفراد من الثبات على مبادئ الراديكالية في التعامل مع النظام المصري وغيره من الأنظمة الحاكمة.
لم تسع الجماعة الإسلامية منذ نشأتها إلى تأسيس جناح مسلح بداخلها يواجه النظام ويقلب نظام الحكم، بل كانت دعوية تنشر الإسلام ومظاهره بالفكر والجدال لا بقوة الساعد والسلاح
لا سيما في بداية الألفينيات وبروز نجم القاعدة بعد ضرب برجي التجارة العالمي في نيويورك في أحداث سبتمبر/أيلول الشهيرة، ونفي القيادي الإسلامي منتصر الزيات الأقاويل التي تزعم بأن مراجعات الجماعة الإسلامية جاءت عن طريق الإكراه، وأوضح أن المرء حينما يقع في الإكراه قد يُجبر على نطق قول تحت التعذيب أو التهديد، أما أن تصدر عنهم نشرات وكتب ومؤلفات وتجري معهم لقاءات تم تصويرها بالصوت والصورة يتم بثها وإذاعتها فذلك يدحض كل شبه الضغط أو الإكراه، واستمر رفض المبادرة من قيادات بالجماعة مثل رفاعي طه وعمر عبد الرحمن والحكايمة إلى أن استمرت المبادرة في سماع صوتها المتناغم مع النظام.
رفاعي طه
وعلى ما يبدو أن تلك المراجعات أتت بعد أمرين قد آمن بهما قيادات الجماعة وراء القضبان، أولهما أنها أيقنت وبعد ما يقرب من عقدين أنها لا تملك قوة المواجهة مع النظام الأمني المصري في الوقت الراهن وأنها تستنزف أعمارها وأنفسها بلا طائلة حقيقية على أرض الواقع، وثانيهما من الناحية الفكرية أنها غالت في القتل فوقع عشرات المدنيين من القتلى إثر عمليات الجماعة المسلحة مع النظام، فكان الاعتذار للشعب المصري من ضمن كلمات المراجعة، مما أرجع طمأنينة الشعب مرة أخرى في الجماعة.
أما على المستوى النظامي فقد بادر المراجعات بصمت ثم ترجم هذا الصمت إلى الإفراج عن مئات من أعضاء الجماعة ومؤيديها، وتقديم التسهيلات للمعتقلين وذويهم في الزيارات وغيرها من الإجراءات وتم فتح صفحة جديدة بيضاء تتذكر الماضي بين النظام المصري والجماعة الإسلامية بقلمها السلمي الذي يكتب الدساتير ويشارك في البرلمانات ومجالس الشورى ويرافق أخاه الإخواني في العمل الحزبي.
صعد اسم الجماعة وكوادرها في سماء الجهاد العالمي، لمشاركة أفراد منها في حروب أفغانستان والشيشان والبوسنة ومؤخرًا في سوريا مما جعل النظام العالمي وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية تستهدف قيادات الجماعة في كل مكان
لم تسع الجماعة الإسلامية منذ نشأتها إلى تأسيس جناح مسلح بداخلها يواجه النظام ويقلب نظام الحكم، بل كانت دعوية تنشر الإسلام ومظاهره بالفكر والجدال لا بقوة الساعد والسلاح، وقد نجحت في ذلك على المستوى الجامعي بين الطلاب، ولكنها مع إغلاق السادات في وجهها المجال خارج الجامعات، وتصادف أفكار طلابها مع أفكار وإستراتيجيات جماعة الجهاد فتحولت الجماعة في إستراتيجياتها إلى القوة ورد عدوان النظام المصري بقوة السلاح لا بخطط الإصلاح وقد دخلت في دوامة صعب عليها الخروج منها لعدم توافر لديها الخطط والإمكانات اللازمة لمواجهة القوة الأمنية المصرية رغم البداية الموفقة لها في اغتيال رأس الدولة.
كما صعد اسم الجماعة وكوادرها في سماء الجهاد العالمي، لمشاركة أفراد منها في حروب أفغانستان والشيشان والبوسنة ومؤخرًا في سوريا مما جعل النظام العالمي وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية تستهدف قيادات الجماعة في كل مكان وتسلمهم للنظام المصري مثل طلعت فؤاد قاسم الذي قبض عليه في كرواتيا عام 1995م وتم إرساله إلى مصر فاختفى.
على كل فالجماعة لها تاريخ دعوي بكل إستراتيجياته لا ينساه القارئ للتاريخ المصري الحديث.