عام 1949 نشر الأديب جورج أورويل روايته التاريخية المعروفة 1984 التي تقع أحداثها في إيرستريب (بريطانيا العظمى سابقًا)، الرواية تكشف تلاعب النظام الحاكم في تلك المقاطعة بالجماهير عبر السيطرة على أفكارهم ومعتقداتهم بأوهام الرقابة المزيفة والتحكم في منافذ الفكر والثقافة.
الرواية أصلت حينها لشعار جديد أطلق عليه “الأخ الأكبر يراقبك” وكان يهدف إلى أن كل سلوكيات المواطن وتصرفاته تحت المراقبة من سلطة ترى في نفسها الحاكم بأمر الله، لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، ومن ثم كرست نفسها حاميًا على ما يعرض على الناس وما يمنع من العرض، فوحدها القادرة على تحديد ما يضر وما يفيد.
ظل هذا المفهوم يراود الكثير من الأنظمة حتى وقتنا الراهن، فغلق كل منافذ الوعي إلا ما يخدم أهداف السلطات بات منهاجًا وشرعة لكثير من الحكومات، ورغم الطفرة الهائلة في مجال التكنولوجيا ووسائل الاتصالات لا تزال أنظمة بعينها تتوهم أن بمقدورها حجب الشمس بدعوى أنها حارقة بينما مواطنوها يموتون بردًا كل يوم.
في الـ11 من أبريل 2017 أصدر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قرارًا بتشكيل المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، بموجب المادة (211) من الدستور، وبحسب القانون رقم (92) لسنة 2016، بإصدار قانون التنظيم المؤسسي للصحافة والإعلام برئاسة الصحفي المقرب من النظام مكرم محمد أحمد.
السيسي منح المجلس حينها حزمة من الصلاحيات لم تمنح لأي جهة تنظيمية للإعلام في مصر عبر تاريخها، ومع ذلك وفي 27 من أغسطس 2018، فوجئ الجميع بإلغاء القانون (92) الذي على أساسه تم تشكيل المجلس، كذلك إلغاء القانون رقم 96 لسنة 1996 بشأن تنظيم الصحافة، ما يعني توسعة اختصاصات الأعلى لتنظيم الإعلام ليصبح اللاعب الوحيد على الساحة.
عامان مرا على تدشين هذا الكيان الذي كشف هويته مبكرًا وهو ما تشير إليه عشرات القرارات والإجراءات الصادرة عنه التي تذهب جميعها في اتجاه واحد فقط هو تقليم أظافر المعارضة وتكريس الصوت الواحد وإجهاض آخر ما تبقى من الحريات التي دخلت في ظل هذا المجلس غرفة الإنعاش.
شرعنة التضييق
لم يخف السيسي منذ توليه مقاليد الأمور حلمه في عودة إعلام الستينيات، ففي أكثر من مرة عبر الرجل عن هذا الحلم، عازفًا على وتر حسن حظ الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بأن الإعلام كان معه وبقبضة يده، يدعم قرارته ويدافع عنه، إلا أن تحقيق تلك الأمنية وقتها لم يكن بالأمر السهل في ظل ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصال التي يحياها العالم.
حزمة من الإجراءات اتخذتها الحكومة والسلطات الأمنية لتحقيق هذا الحلم رويدًا رويدًا، بدءًا بوقف بعض البرامج ومنع عدد من الإعلاميين من الظهور، بجانب غرامات تفرض على وسائل محددة لتجاوزها الخط المرسوم، هذا بخلاف اعتقال عشرات الصحفيين لأسباب تتعلق بأداء عملهم وحريتهم في التعبير عن رأيهم.
رغم التوبيخ اللاذع من المنظمات الحقوقية لوقف مجزرة حجب المواقع فإن السلطات المصرية تصر على السير في هذا الاتجاه، إذ تسببت محاولة لحجب موقع حملة “باطل” الداعية لمقاطعة التعديلات الدستورية المقترحة في حجب أكثر من 34 ألف موقع على مستوى العالم
إلا أن تلك الممارسات أثارت حفيظة الجميع، في الداخل والخارج، لا سيما أنها تفتقد للجانب التشريعي والقانوني، ما تسبب في تراجع ترتيب مصر في مؤشرات حرية الصحافة خلال الأعوام الأخيرة، هذا بخلاف الصداع الذي سببته المنظمات الحقوقية الإقليمية والدولية للحكومة المصرية، الأمر الذي دفعها إلى البحث عن غطاء تشريعي لتلك الممارسات.
وعليه جاء إنشاء هذا المجلس الذي قلم أظافر الكيانات النقابية الأخرى التي من المفترض أن تقوم بهذا الدور، على رأسها نقابة الصحفيين ولجنة الإعلام، ومن ثم تم تفريغ الساحة أمامه ليمارس دوره بأريحية بالغة، تساعده في تحقيق الهدف الذي لأجله تم تدشينه، حيث لا صوت يعلو فوق صوت المعركة.
مكرم محمد أحمد رئيس المجلس الأعلى للإعلام
حجب المواقع
منذ مايو 2017 شهدت مصر سيلاً من حجب المواقع الإلكترونية تجاوز الـ513 موقعًا، ما بين إعلامي وحقوقي، في سابقة هي الأولى من نوعها في العالم، وهو ما أثار حفيظة الكثيرين من أنصار الحريات الإعلامية، داخل مصر وخارجها، خاصة في ظل ضبابية المشهد وعدم وجود معلومات كافية عن أسباب الحجب.
حالة من الجدل أثارتها تلك الموجة آنذاك لا سيما أن الفاعل ظل دومًا مجهولاً في ظل تنصل الجميع من الواقعة، وهو ما زاد الطين بلة، فليس من المعقول أن يكون الحجب بلا فاعل، وهو ما ساهم في حملة الانتقادات الدولية التي تعرضت لها السلطات المصرية في هذا الشأن.
بينما ينشغل المهتمون بالإعلام بمناقشة قانون الصحافة الجديد، إذ بالمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، يصدر لائحة جزاءات وصفت بـ”الكارثية” وأقل ما يقال عنها إنها شهادة وفاة شرعية للصحافة
ورغم التوبيخ اللاذع من المنظمات الحقوقية لوقف مجزرة حجب المواقع، فإن السلطات المصرية تصر على السير في هذا الاتجاه، إذ تسببت محاولة لحجب موقع حملة “باطل” الداعية لمقاطعة التعديلات الدستورية المقترحة في حجب أكثر من 34 ألف موقع على مستوى العالم، بحسب تحليل شبكة “نيتبلوكس” NetBlocks المتخصصة في رصد حالات مراقبة الإنترنت.
الحجب نَشَطَ على شبكات المصرية للاتصالات وراية وفودافون وأورانج، واستهدف عنوان اﻹنترنت IP الخاص بخدمة Netlify لاستضافة المواقع، لحجب موقع الحملة، ما تسبب في حجب اﻵلاف من المواقع اﻷخرى، بحسب البيانات التي نشرتها الشبكة أول أمس.
وأشار تقرير الشبكة إلى لجوء السلطات المصرية لاتخاذ إجراءات بهدف التضييق على حملة جمع التوقيعات المناهضة للتعديلات الدستورية التي صوت عليها البرلمان أمس الثلاثاء، بشكل نهائي، وبحسب موقعها، تمكنت الحملة من جمع ما يزيد على 250 ألف توقيع حتى اﻵن، فيما تسببت إجراءات السلطات في أضرار جانبية كبيرة.
قرار بحجب موقع جريدة المشهد المصرية
لائحة جزاءات
وبينما ينشغل المهتمون بالإعلام بمناقشة قانون الصحافة الجديد، إذ بالمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، يصدر لائحة جزاءات، وصفت بـ”الكارثية” وأقل ما يقال عنها إنها شهادة وفاة شرعية للصحافة، ورغم تقدم المئات من الصحفيين بمذكرة رسمية لرفض مسودة تلك اللائحة التي تستهدف فرض حالة من الصمت وتكميم الأفواه على جميع وسائل الإعلام فإن أحدًا لم يسمع، بل وصل الأمر إلى وصف مكرم للأصوات المعترضة على اللائحة بأنها “جعجعة أونطة“.
اللائحة تضمنت نصوصًا غير مسبوقة في تاريخ الصحافة المصرية، جزاءات وعقوبات مغلظة، منها “معاقبة كل من استخدم أو سمح بألفاظ واضحة وصريحة، تشكل جريمة سب أو قذف، بأحد الجزاءات الآتية: إما معاقبة الوسيلة الإعلامية بغرامة لا تقل عن 25 ألف جنيه، ولا تزيد على 250 ألف جنيه، أو لفت النظر أو الإنذار، أو إحالة الصحافي أو الإعلامي للتحقيق بمعرفة النقابة، أو إلزام الوسيلة بتقديم اعتذار أو وقف بث البرامج المخالفة، أو حجب الموقع الإلكتروني لفترة مؤقتة، أو منع الصحافي أو الإعلامي من الكتابة”.
كما نصت على “يُعاقب كل من نشر أو بث شائعات، أو أخبارًا مجهولة المصدر، أو نقل عن مصادر إعلامية أخرى، أو استخدم منصات التواصل الاجتماعي كمصدر للمعلومات دون التحقق من صحتها من مصادرها الأصلية، إما بلفت النظر أو الإنذار، أو توقيع غرامة لا تقل عن 10 آلاف جنيه، ولا تزيد على 25 ألف جنيه، أو مضاعفة العقوبة، واتخاذ الإجراءات القانونية المناسبة، حال استخدام عبارات تشمل التخوين دون سند، ويجوز وقف بث البرامج، أو الباب أو الصفحة أو الموقع الإلكتروني لفترة مؤقتة، وتوقيع غرامة لا تقل عن 250 ألف جنيه، ولا تزيد على 500 ألف جنيه أو بإحدى العقوبتين”.
“لائحة المجلس الأعلى للإعلام ستقضي على ما تبقى من مهنة الصحافة” هكذا علق عضو مجلس نقابة الصحفيين المصرية عمرو بدر، مضيفًا “اللائحة المتعسفة تحاسب المؤسسات على النفس، وتحمل اتهامات فضفاضة من نوعية: التعصب والكراهية والفسق والفجور وإهانة مؤسسات الدولة وإهانة الأديان”.
وأضاف “اللائحة التي وصفتها بالمتعسفة مكتوبة بروح عدائية ضد الصحافة وحريتها، وتفرض غرامات تصل إلى 250 ألف جنيه، فضلًا عن إجازتها غلق المؤسسات الصحافية بشكل مؤقت أو دائم”، مستطردًا “إسقاط اللائحة واجب وفريضة، لأنها تجاهلت كل ملاحظات النقابة، وحالة الرفض الواسع من جانب الصحافيين”.
«"الشروق» تنشر نص لائحة جزاءات المجلس الأعلى للإعلام – بوابة الشروق – نسخة الموبايل". محاصرة اخر ما تبقى من العمل الصحفي والإعلامي في #مصر ولا عزاء للحقيقة. https://t.co/ePOgEqog6y
— liliane daoud ليليان (@liliandaoud) November 21, 2018
86 قرارًا عقابيًا في عامين
أصدر المجلس في الفترة من 11 من أبريل 2017 إلى الفترة 31 من مارس 2019 عدد 86 قرارًا عقابيًا على صحف وقنوات ومواقع إلكترونية وصحفيين وإعلاميين، وذلك وفق ما توصلت إليه ورقة بحثية أصدرها المرصد المصري لحرية الإعلام (منظمة مجتمع مدني مصرية).
احتل عام 2017 نصيب الأسد من تلك القرارات بإجمالي 18 قرارًا في الفترة من 11 من أبريل حتى 31 من ديسمبر 2017، بينما شهد عام 2018 عدد 58 قرارًا أصدرها المجلس، وشهدت السنة الحاليّة 2019 عدد 10 قرارات عقابية في الفترة من يناير 2019 حتى نهاية شهر مارس من العام نفسه.
المؤسسة رصدت 4 قرارات بحق رؤساء التحرير، كان أولها إحالة رئيس تحرير جريدة المقال، إبراهيم عيسى للتحقيق قضائيًا، تلاها إيقاف رئيس تحرير برنامج “إستاد النيل” الذي يعرض على قناة “النيل للرياضة” في 14 من يناير من عام 2018
الورقة كشفت أن قرارات الإيقاف سواء للبرامج أم المذيعين كانت النسبة الأكبر بواقع 29 قرارًا بنسبة تقارب 35% من إجمالي القرارات، وفي المرتبة الثانية جاءت الإحالات للتحقيق الإداري بواقع 18 قرار بنسبة تقارب 21% من إجمالي القرارات، تلاها قرارات لفتت النظر بإجمالي 14 قرارًا، وفي المرتبة الرابعة جاءت الغرامات المالية بواقع 10 قرارات بإجمالي 550 ألف جنية عوقبت بها عدد من الوسائل الإعلامية، وفي المرتبة الرابعة جاءت قرارات الإنذار بـ7 قرارات، تلاها 4 قرارات بالمنع من الظهور على وسائل الإعلام، وتبعها في الترتيب قراران بإلزام الصحف بنشر اعتذار، وفي المرتبة الأخيرة جاءت قرارات حجب المواقع الإلكترونية وقرارات الإحالة القضائية بواقع قرار وحيد لكل منهم، حيث قام رئيس المجلس بإرسال خطاب إلى النائب العام للتحقيق في نشر مقالات تثير “الفتنة الطائفية” بجريدة المقال في عددها الصادر 27 من مايو 2017، على حد تعبير المجلس، وكذلك حجب المجلس جريدة المشهد لمدة 6 أشهر بتاريخ 21 من مارس 2019.
كما احتلت قرارات منع البرامج التليفزيونية مركز الصدارة، حيث تم منع 28 برنامجًا تليفزيونيًا لمدد زمنية متفاوتة، بواقع 5 عام 2017، و16 في عام 2018، و6 في عام 2019، وفي المرتبة الثانية جاءت القرارات المتخذة ضد القنوات التليفزيونية بعدد 19 قرارًا ما بين لفت النظر والغرامات المالية انتهاءً بمنع بث قناة LTC لحين تقنين أوضاعها، منهم 7 قرارات في عام 2017، و12 قرارًا عام 2018.
وفي المرتبة الثالثة جاء منع مذيع بعدد 16 مذيعًا، 4 منهم في 2017 و12 في 2018، كما تم اتخاذ 9 قرارات ضد المواقع الإلكترونية، 8 منها في 2018 و1 في 2019، كذلك تم توقيع 6 عقوبات بحق الجرائد الورقية بواقع 4 قرارات عام 2018 وقرارين عام 2019.
المؤسسة رصدت 4 قرارات بحق رؤساء التحرير، كان أولها إحالة رئيس تحرير جريدة المقال، إبراهيم عيسى للتحقيق قضائيًا، تلاها إيقاف رئيس تحرير برنامج “إستاد النيل” الذي يعرض على قناة “النيل للرياضة” في 14 من يناير من عام 2018 على خلفية استضافة رئيس نادي الزمالك، وكان القرار الثالث من نصيب رئيس تحرير جريدة المصري اليوم، بإحالته للتحقيق على خلفية خبر تم نشره في جريدة المصري اليوم يتناول حشد الدولة للناخبين للتصويت في الانتخابات الرئاسية، وكان ذلك بتاريخ 1 من أبريل 2018، وأخيرًا أصدر المجلس قرارًا بإحالة رئيس تحرير جريدة المشهد إلى التحقيق الإداري دون تحديد أسباب واضحة.
وفي المجمل.. وبعد عامين على تأسيسه تناسى المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام دوره الأساسي في حماية حرية الرأي والفكر والتعبير وضمان استقلالية وسائل الإعلام، وبدأ يستخدم صلاحياته الواسعة في التضييق على وسائل الإعلام وفرض الصوت الواحد، حتى بات حلم “السيسي” بعودة إعلام عبد الناصر على مقربة من التحقق.