دأب الجزائريون منذ بداية الحراك الشعبي في بلادهم منتصف شهر فبراير/شباط الماضي، على رفع شعارات مندّدة بنظام عبد العزيز بوتفليقة ومطالبة برحيل كلّ رموزه، فضلًا عن رفع لافتات تندّد بدور بعض الدول في بلادهم، على رأسها فرنسا “القوة الاستعمارية السابقة”، التي يرى العديد من الجزائريين أنها السبب في ما وصلت إليه البلاد من أزمات متعدّدة الجوانب.
شعارات مناوئة لفرنسا
في إحدى المظاهرات التي عرفتها العاصمة الجزائر قبل أيام، رفع جزائري لافتة فيها صورة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يحمل هاتفًا كأنه بصدد إجراء اتصال، وكتب على اللافتة إلى جانب صورة الرئيس، “ألو.. ماكرون ؛ وي شكون معايا.. (نعم من معي)، معك الشعب الجزائري.. اسمع ، وجد لحطب (أعد الحطب) ،العام هذا مكانش الغاز (هذا العام ، لن يكون هناك غاز).
هذا الشاب الجزائري، أراد من خلال اللافتة التي رفعها أن يشير إلى “نهب” فرنسي للغاز الجزائري، حيث انتشرت في الفترة الأخيرة على مواقع التواصل الاجتماعي أخبارًا مفادها تصدير الجزائر الغاز إلى فرنسا مجانًا.
في مظاهرات ثانية، يلتفت الجميع إلى مجموعة من الشباب، وهم بصدد الغناء في انسجام تام “نهينة الخامسة مازلت فرنسا” (لقد أزلنا ولاية بوتيفليقة الخامسة، تبقى فرنسا)، في إشارة منهم أن الطريق ما زال أمامهم لإسقاط فرنسا ورحيلها بعد رحيل بوتفليقة.
غير بعيد عن هؤلاء، رفع متظاهرون آخرون لافتة ضخمة حيث نرى إيمانويل ماكرون وهو يبتسم وهو يحلب بقرة بألوان علم الجزائر، في إشارة لتواصل النهب الفرنسي لثروات الجزائر، فهذه الأخيرة بالنسبة لباريس عبارة عن بقرة حلوب، لا ينضب حليبها.
وفي تيزي وزو، أثناء المظاهرة الطلابية التي جرت في 5 مارس/آذار ، كان هناك شاب قد وضع علامة على شكل خطأ: “سيدتي فرنسا الجزائر تطلب الطلاق. ويعتقد ذلك الشاب وآخرون يعتقد آخرون أن فرنسا تواصل “الثراء” على ظهور الجزائريين من خلال الاستفادة من العقود المربحة -كما في المواد الهيدروكربونية- الموقعة مع النظام.
شعارات مناهضة لماكرون
في مشهد مليء بالسخرية، تداول جزائريون رقم هاتف قصر الرئاسة الفرنسي على مواقع التواصل الاجتماعي ، وأوضحوا أن المكالمات مجانية، وطلبوا من الجزائريين “شنّ هجوم على الإليزيه مثلما فعلوا مع المستشفى السويسري”.
ونشر على مواقع التواصل الاجتماعي فيديوهات لجزائريين اتصلوا بقصر الإليزيه، وطلبوا من موظفيها إبلاغ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعدم التدخُّل في الشأن الجزائري، والكفّ عن مساندة بوتفليقة وعصابته والتوقف عن التدخل في شؤون الجزائريين.
يرى العديد من الجزائريين أن فرنسا لم تتخلى عن عبد العزيز بوتفليقة ولم تعلن تأييدها مطالب الشعب إلا في مؤخرا أي عند تيقنها من انتهاء مرحلة بوتفليقة
استُهدفت فرنسا منذ بداية الحراك الجزائري في 22 فبراير بشعارات مندّدة بسياستها تجاه الجزائر، خلال المسيرات المختلفة. ويرى الجزائريون الذين خرجوا إلى الشوارع ضدّ نظام بوتفليقة أن فرنسا ورئيسها ماكرون هم الذين يدعمون النظام الجزائري “الفاسد” دون هوادة.
ويستنكر هؤلاء المحتجين، تغاضي النظام الفرنسي عن عشرات السياسيين الجزائريين الذين اختلسوا مبالغ ضخمة من المال العام، وحوّلوها إلى باريس واشتروا بها هناك شققًا وفيلات وسيارات واستثمارات كبرى.
قايد صالح يلمح للتدخل الفرنسي في شؤون الجزائر
التنديد بالسياسة الفرنسية، لم يكن من قبل الجزائريين المحتجين في الشوارع فقط، بل جاء من قيادة الجيش أيضًا، حيث اتهم قائد أركان الجيش الجزائري الفريق أحمد قايد صالح، في آخر خطاب له أطرافًا أجنبية بمحاولة ضرب استقرار البلاد، ملمحًا إلى فرنسا دون أن يذكرها بالاسم.
قال قايد صالح في خطاب شديد، “مع انطلاق هذه المرحلة الجديدة واستمرار المسيرات، سجلنا للأسف، ظهور محاولات لبعض الأطراف الأجنبية، انطلاقًا من خلفياتها التاريخية مع بلادنا، لدفع بعض الأشخاص إلى واجهة المشهد الحالي”.
الخطاب الذي ألقاه في مقر الناحية العسكرية الثانية بوهران مساء الأربعاء، أراد من خلاله قائد أركان الجيش الجزائري التحذير من التدخّل الفرنسي، وإن كان لم يلفظ اسمها مباشرة، في شؤون الجزائر بالاستعانة مع جزائريين يطلق عليه في البلاد “أبناء فرنسا”.
موقف “ضعيف” من الحراك الشعبي
يرى العديد من الجزائريين أن فرنسا لم تتخلى عن عبد العزيز بوتفليقة ولم تعلن تأييدها مطالب الشعب إلا مؤخرًا، أي عند تيقنها من انتهاء مرحلة بوتفليقة، وهو ما زاد من درجة سخطهم عليها. وكان أول تعليق رسمي للجمهورية الفرنسية على ما تعرفه الجزائر من تطورات، قد تمثّل في دعوتها إلى انتخابات شفافة.
وقال بنجامين جريفو المتحدث باسم الحكومة الفرنسية، حينها، “تابعنا قرار بوتفليقة الترشح في الانتخابات الرئاسية المقبلة في 18 أبريل. نريد إجراء هذه الانتخابات في أفضل ظروف ممكنة وبشفافية كاملة في الحملات الانتخابية”. وتزامن هذا التصريح مع خروج الآلاف من الجزائريين للشوارع مندّدين بالعهدة الخامسة.
بعد أيام قليلة، قرّر بوتفليقة عدم الترشّح، فخرج ماكرون مباشرة مرحبًا، وداعيًا إلى فترة انتقالية لمدة معقولة في الجزائر، حسب وصفه، في تماهٍ كامل مع ما دعى له بوتفليقة حينها. ونوّه ماكرون بمهنية قوات الأمن، وبالشعب الجزائري ولا سيما الشباب الذي قال عنه إنه “عبّر بكرامة عن تطلعاته ورغبته في التغيير”.
وأعرب ماكرون عن أمله في عقد الندوة الوطنية الجزائرية خلال “الأسابيع والأشهر المقبلة” لكي تفضي إلى “مرحلة انتقالية ضمن مهلة معقولة” للسلطة. وقال “أعتقد أنها دلالة على النضج وسنفعل ما بوسعنا لمواكبة الجزائر في هذا الانتقال بروح من الصداقة والاحترام”.
بالتزامن مع ذلك، أشاد المتحدث باسم الحكومة الفرنسية بنجامين غريفو بـ”الهدوء والكرامة وضبط النفس” الذي يتحلى به المتظاهرون في الجزائر، موضحًا أنه يعود للشعب الجزائري أمر اختيار قادته ومستقبله. وصرّح غريفو إثر اجتماع مجلس الوزراء بباريس صباح أمس “نتابع بكثير من الإعجاب هدوء المتظاهرين”، مؤكدًا على الكرامة وضبط النفس لدى مئات آلاف المتظاهرين في شوراع الجزائر العاصمة.
وأضاف غريفو أنه إزاء هذه الأزمة “لم يتغير الموقف الفرنسي وهو يقوم على ثلاثة مبادىء ثابتة أولها أن الجزائر بلد يتمتع بالسيادة، ويعود للشعب الجزائري وحده أمر اختيار قادته ومستقبله، ما من شأنه أن يؤدي إلى شفافية المسار وحريته”، وتابع: “المبدآن الآخران هما واقع أن الجزائر بلد صديق لفرنسا وبلد محوري في إفريقيا ومنطقة المتوسط (…) لذا، فإن استقرار الجزائر وأمنها وتنميتها أمور أساسية”.
ونهاية مارس/آذار، أعلن لودريان أن انتقال السلطة بات ضروريًا في الجزائر، وهو ما كان يعني بوضوح أن فرنسا تخلت عن بوتفليقة، بعد تيقنها من قوة الحراك الشعبي وصعوبة المراهنة على بوتفليقة وجماعته في هذا الوقت.
حتى مع رحيل بوتفليقة، لم تكفّ فرنسا عن التدخّل في شؤون هذا البلد النفطي، فهي تخشى من تأزم الأوضاع في الجزائر وخروجها عن السيطرة في ظل التطورات الأخيرة، ما يمثّل خطرًا على مستقبلها هناك والامتيازات التي تتمتع بها.
تملك فرنسا امتيازات عديدة في الجزائر في شتى المجالات الاقتصادية والتجارية، من ذلك ما تملكه شركات سيارات بيجو ورينو من امتيازات خاصة لا مثيل لها في السوق
كشفت بعض وسائل الإعلام الفرنسية، نقلاً عن مقربين من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ظاهرة ملفتة للنظر مفادها أن الموضوع الذي كان دائمًا يؤرقه وهو يدير شؤون فرنسا من قصر الإليزيه ليس تداعيات حركة السترات الصفراء ولا انعكاسات البريكسيت ولا إمكانية اندلاع حرب دولية ضد ايران، بل الكابوس الذي يشغل اهتمامه هو تطورات الأزمة الجزائرية في حال تعثرت جهود فريق الرئيس بوتفليقة في عملية “بيع سلمي” للعهدة الخامسة.
ودليلاً عن هذا القلق الفرنسي الكبير، سارع الرئيس ماكرون بطلب سفيره في الجزائر كسافيي دريانكور المجيء إلى باريس مع بداية الحراك، ونصحه بالتعامل بكل حذر فيما يخص البيانات الصادرة عن الرئاسة الجزائرية لغموض الوضع في قصر المرادية.
نهب متواصل لثروات الجزائر
موقف الجزائريين المناهض للنظام الجزائري، لم يكن وليد اللحظة، فهو نتاج تراكمات كبرى. إذ يرى هؤلاء أن فرنسا رغم خروجها من البلاد سنة 1962 فإنها لم تتركها لحالها، بل واصلت نهب ثرواتها، ما أدّى إلى تفقير الشعب وارتهان البلاد لسلطتها.
تحاول فرنسا جاهدة استنزاف ثروات الجزائر بأي شكل من الأشكال، حتى باتفاقيات شكلية لا ترجع بالخير على الشعب الجزائري، فهي توقع الاتفاقيات الاستنزافية مع الحكومات الجزائرية المتعاقبة، وكل حكومة منها تحاول أن تنافس سابقتها في التقرب أكثر من مستعمر الأمس الذي تفنن في التلاعب بها كما يشاء.
وتملك فرنسا امتيازات عديدة في الجزائر في شتى المجالات الاقتصادية والتجارية، مثل ما تملكه شركات سيارات بيجو ورينو من امتيازات خاصة لا مثيل لها في السوق، فقد حافظت هذه الشركات على أرقام أعمالها العالية والممتازة بفضل المستهلك الجزائري.
تواصل الحراك الشعبي في الجزائر
لم تلتزم هذه الشركات بفتح مصانع لصناعة أو تركيب سياراتها في الجزائر، كما نصّت الاتفاقيات بين البلدين، بل بقيت تستنزف المليارات من العملة الصعبة التي تستحقها الجزائر في هذه الظرفية الاقتصادية الصعبة التي تعرفها.
وزادت نقمة الجزائريين على الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظامه، التقييد الشديد لإصدار التأشيرات للشباب الجزائري، وزيادة رسوم التسجيل في الجامعات الفرنسية التي أثرت على الجزائريين بدرجة كبيرة.
تجد فرنسا قوتها في الجزائر، بفضل مسؤولين جزائريين ولاءهم الوحيد لفرنسا وليس للبلاد، لذلك تبقى الجزائر مجرّد سوق استهلاكية تبيع فيها فرنسا بضائعها دون أن يكون لذلك أي أثر إيجابي على البلاد، عكس ما تروّج له باريس بأن الجزائر بمثابة السوق الاستثمارية لها.