شهدت السنوات الأخيرة انتشار ظاهرة دخيلة على المجتمع العراقي، هي الانتحار، إذ لم يسجل العراق طيلة تاريخه إلا حالات نادرة من الإقبال على الموت العمد من مواطنين في مختلف المحافظات، ومع تزايد أعداد المنتحرين أو حالات الانتحار، دقت السلطات ناقوس الخطر من انتشار هذه الظاهرة.
تزايد معدلات الانتحار
تزايد مطرد لحالات الانتحار، ذلك الذي تسجله المؤسسات الإنسانية في العراق، إذ كشفت مفوضية حقوق الإنسان في الأيام الماضية تسجيل 132 حالة ومحاولة انتحار في المحافظات العراقية خلال الربع الأول من العام الحاليّ.
سجلت مفوضية حقوق الإنسان العراقية رقمًا قياسيًا عام 2013، حيث كان الأعلى على الإطلاق، إذ وصل عدد المنتحرين في ذلك العام إلى 500 حالة انتحار، كان لمحافظة ذي قار النصيب الأكبر
وبحسب بيان صادر عن المفوضية اطلع عليه “نون بوست”، فإن إحصائية لحالات الانتحار في محافظات العراق للربع الأول من العام الحاليّ، وبحسب رصد مفوضية حقوق الإنسان بالتنسيق مع دوائر الصحة في المحافظات وقيادات الشرطة، قد سجلت 5 حالات انتحار في بابل و5 في واسط و9 حالات انتحار في ديالى تم إنقاذ 3 منهم.
وأضافت المفوضية في بيانها: “تم تسجيل 12 حالة انتحار في الديوانية (8 ذكور و4 إناث) و14 حالة في ذي قار و6 حالات في المثنى وحالتين في الأنبار و20 حالة في كربلاء (ذكر واحد و19 أنثى) و14 حالة في ميسان، و15 حالة في كركوك، و19 حالة في البصرة و11 حالة في النجف”.
وسجلت مفوضية حقوق الإنسان العراقية رقمًا قياسيًا عام 2013، حيث كان الأعلى على الإطلاق، إذ وصل عدد المنتحرين في ذلك العام إلى 500 حالة انتحار، كان لمحافظة ذي قار النصيب الأكبر، لينخفض العدد إلى 251 حالة في 2016، كان فيها للنساء حصة الأسد.
وأشارت تقارير نشرتها منظمات حقوق الإنسان في العراق إلى أن عدد حالات الانتحار بين عامي 2015 و2017 بلغ 2000 حالة انتحار، وهو رقم يشير إلى ارتفاع كبير في معدلات الانتحار في البلاد، يذكر أنه لا تتوافر إحصائية رسمية دقيقة عن أعداد حالات الانتحار الكلية في البلاد منذ عام 2003 وحتى الآن.
يقول رئيس قسم الاجتماع في كلية الآداب بجامعة ذي قار عدي شبيب: “الانتحار يعبر في جزء أساسي منه عن احتجاج عنيف على الواقع المعقد الذي يعيشه الشباب اليوم في ذي قار وسواها من المحافظات”
وتشير الإحصاءات الرسمية إلى أن محافظة ذي قار دائمًا ما تتصدر قائمة المحافظات الأعلى في معدلات الانتحار، فقد سجلت المحافظة عام 2018 عددًا كبيرًا في حالات الانتحار وصل إلى 59 حالة تباينت وسائلها بين الرصاص والشنق والحرق والغرق وغيرها.
يقول رئيس قسم الاجتماع في كلية الآداب بجامعة ذي قار عدي شبيب: “الانتحار يعبر في جزء أساسي منه عن احتجاج عنيف على الواقع المعقد الذي يعيشه الشباب اليوم في ذي قار وسواها من المحافظات”، وأضاف: أن هناك تحولات كبرى حدثت وفرضت ضغوطًا هائلة على الشباب العراقي، ومنها التضارب بين قيم الريف والمدينة والعادات والتقاليد والأعراف والمحتوى العنيف والحاد الذي تفرزه مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة والألعاب الإلكترونية.
يرى العديد من الخبراء والمراقبين أن أسبابًا عديدة تؤدي بالشخص إلى الإقدام على الانتحار، وأهمها الأوضاع الأمنية والسياسية والاقتصادية
واعتبر شبيب أن تصدر محافظة ذي قار لائحة المحافظات بالنسبة لحالات الانتحار لا يعد مستغربًا، إذ يؤكد أنها تصدرت لائحة المحافظات التي فقدت العدد الأكبر من شبابها في الحرب ضد “داعش”، مبينًا أن الشباب لم يذهبوا إلى الحرب لأسباب تتعلق بالعقيدة فقط، وإنما ذهبوا لأسباب أخرى تتعلق باليأس من الأوضاع في مدنهم.
ما الأسباب التي تؤدي إلى الإقدام على الانتحار؟
يرى العديد من الخبراء والمراقبين أن أسبابًا عديدة تؤدي بالشخص إلى الإقدام على الانتحار وأهمها الأوضاع الأمنية والسياسية والاقتصادية، يقول عضو مفوضية حقوق الإنسان فاضل الغراوي: “انتشر الانتحار بشكل لافت في العراق في السنوات الأخيرة وتعددت طرقه وأساليبه”، كاشفًا أن من أبرزها تناول الأدوية التالفة والقفز من أماكن شاهقة الارتفاع، فضلاً عن تناول مواد سامة وإطلاق الرصاص.
وعن دوافع الانتحار وأسباب إقدام المنتحرين على إنهاء حياتهم، كشف الغراوي أن ما توصلت إليه المفوضية خلال تحقيقاتها مع ناجين من عمليات انتحار ومن خلال الدراسات الأمنية، أن الفقر العامل الأبرز الذي يدفع الشباب إلى الانتحار، ويندرج في إطار عدم توافر فرص العمل والبطالة المستشرية في البلاد، فضلاً عن غياب القدرة على تأمين متطلبات المعيشة اليومية، خصوصًا في أطراف المدن.
قال الخبير في علم النفس التربوي مهند صالح في حديثه لـ”نون بوست” إن أسبابًا عديدة تؤدي إلى إقدام العراقيين على الانتحار، ولا يمكن بأي حالة من الأحوال دراسة تلك الأسباب بصورة منفردة
من جهتها تقول الناشطة الحقوقية رواء الموسوي إن من بين أهم الأسباب التي تفاقم من أعداد حالات الانتحار التفكك الأسري والشعور بالفشل، فضلاً عن عدم اهتمام الجهات الحكومية بتوفير مراكز لمعالجة من لديهم ميول انتحارية.
وتشير الموسوي إلى أن القانون العراقي لا يعاقب من يحاول الإقدام على الانتحار على اعتبار أنه حر في خياراته، لكنها تؤكد أن القوانين العراقية تنص على معاقبة من يساعد المنتحر، فإذا كان المساعد على الانتحار دون الـ18 عامًا، يسجن سبع سنوات، أما إذا كان فوق سن الرشد فيعامل معاملة مرتكب جريمة القتل العمد.
يقول الخبير في علم النفس التربوي مهند صالح في حديثه لـ”نون بوست” إن أسبابًا عديدة تؤدي إلى إقدام العراقيين على الانتحار، ولا يمكن بأي حالة من الأحوال دراسة تلك الأسباب بصورة منفردة، إذ إنها مترابطة تمام الترابط.
ويؤكد صالح أن التدهور الأمني والاقتصادي والتفكك الأسري وتعاطي المخدرات والكحول عوامل ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالانتحار، إذ يشير إلى أنه وبحسب تقديرات البنك الدولي، فإن معدل الفقر في البلاد وفقًا للخط المحدد بـ3.2 دولار في اليوم يصل إلى 17.9% فيما ترتفع النسبة باحتساب 5.5 دولار كدخل اقتصادي في اليوم إلى 57.3%، فيما يظهر خط الفقر الوطني نسبة 22.5% وهي نسبة وسيطة.
أسباب عديدة تؤدي إلى إقدام الشباب العراقي على الانتحار، إلا أنه وعلى الرغم من التزايد المطرد في أعداد المقبلين على الانتحار، لم تتخذ الحكومة أي خطوة جادة للحد من هذه الظاهرة
ويشير كثير من المراقبين إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي والألعاب الإلكترونية العنيفة باتت من الأسباب التي تؤدي في بعض الحالات إلى الانتحار، ويؤكد ذلك صالح بقوله: “بعد الانتشار الكبير لخدمة الإنترنت في البيوت وإدمان كثير من الآباء والأمهات على شبكات التواصل الاجتماعي، تراجعت مراقبة الآباء لأولادهم إلى الحد الذي باتت فيه كثير من الفتيات يقعن ضحية للاستغلال والترهيب، فضلاً عن ابتعاد الوالدين عن مراقبة أبنائهم”.
ويضيف صالح أن كل تلك الأسباب تؤدي مجتمعة إلى الاكتئاب، خاصة في فئة الشباب الذي لا يتعدون الـ28 من العمر، مشيرًا إلى أنه في حال عدم معالجة مرض الاكتئاب، قد يؤدي إلى إقدام المكتئب على الانتحار.
أسباب عديدة تؤدي إلى إقدام الشباب العراقي على الانتحار، إلا أنه وعلى الرغم من التزايد المطرد في أعداد المقبلين على الانتحار، لم تتخذ الحكومة أي خطوة جادة للحد من هذه الظاهرة أو المساهمة في علاج أسبابها على أقل تقدير.
ومن آخر الإجراءات التي اتخذتها العاصمة بغداد للحد من حالات الانتحار، قرار مجلس محافظة العاصمة نصب حواجز أمنية على جسور العاصمة لمنع المنتحرين من إلقاء أنفسهم من الارتفاعات الشاهقة، وأدى قرار مجلس المحافظة هذا إلى موجة سخط شعبي كبير على وسائل التواصل الاجتماعي، متساءلين عن جدوى هذه القرارات “الترقيعية” التي لا تلامس أسباب الظاهرة الخطيرة، ولا تضع حلولاً تعالجها.