تتواصل في الجزائر الاعتقالات في صفوف أركان نظام الرئيس المستقيل عبد العزيز بوتفليقة، بمباركة وإشراف مباشر من قائد أركان الجيش الفريق قايد صالح الذي كان إلى وقت قريب أحد أبرز أعمدة هذا النظام الذي ثار عليه الشعب قبل نحو شهرين، سعيًا لاجتثاثه من البلاد.
اعتقالات، يقول العديد من الجزائريين إن الهدف منها تهيئة الساحة لقايد صالح وإفراغها من المنافسين الجديين الذين كان يعمل معهم سابقًا، تمهيدًا لبسط يده على البلاد وتطويعها له خدمة لمشروعه السياسي المستقبلي، رغم ادعائه دعم حراك الشعب ظاهريًا.
“حملة تطهير”
أول أمس الأحد، أمر قاضٍ عسكري جزائري بحبس الشقيق الأصغر للرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة والرئيسين السابقين لجهاز المخابرات والتحقيق معهم بتهمة “المساس بسلطة الجيش والمؤامرة ضد سلطة الدولة”.
وتم اعتقال الثلاثة، وهم سعيد بوتفليقة واللواء متقاعد عثمان طرطاق والفريق متقاعد محمد توفيق مدين السبت الماضي، لتتم إحالتهم بعد ذلك على أنظار النائب العام العسكري بالمحكمة العسكرية في البليدة جنوب الجزائر العاصمة للتحقيق.
وعمل سعيد بوتفليقة مستشارًا كبيرًا في الرئاسة لأكثر من عشر سنوات وكان الحاكم الفعلي للجزائر الذي يعمل في الظل، منذ أن تعرض شقيقه لجلطة عام 2013 أقعدته على كرسي متحرك.
مست حملة الاعتقالات رجال أعمال وعسكريين
يُعرف عن سعيد تأثيره اللافت للنظر على قرارات بوتفليقة الرئيس، خصوصًا بعد أن تدهورت الحالة الصحية للأخير، إذ كان الوسيط الذي ينقل إليه ومنه، وفيما يفشل الكثير من كبار المسؤولين في مقابلة الرئيس يبقى سعيد حلقة الوصل بينهم، يعين الوزراء ويقيلهم ويصدر الأوامر والقرارات ويعطلها، فله صلاحيات واسعة.
وقبل بداية حراك الجزائريين في فبراير/شباط الماضي، كان سعيد بوتفليقة الذي كان يُقدم على أنه الرجل الأقوى في النظام العليل، الخليفة المحتمل للرئيس المريض بوتفليقة الذي يحكم البلاد منذ عام 1999.
بدوره، ظلّ مدين مديرًا لجهاز المخابرات المعروف باسم دائرة الاستعلام والأمن لمدة 25 عامًا حتى أقاله بوتفليقة عام 2015 إرضاءً لقايد صالح، في تلك الفترة كان الجنرال توفيق الآمر الناهي في البلاد والمتحكم في دواليب الحكم.
من جهته، يعتبر الجنرال طرطاق أحد أهم حلفاء سعيد وأخوه، حيث كان يشغل منصب مدير المخابرات الجزائرية، خلفًا للجنرال توفيق، وتخرج طرطاق في السبعينيات من جامعة قسنطينة، بعد أن حصل على شهادة في الجغرافيا، ثم تلقى تدريبًا لدى أجهزة المخابرات السوفيتية، ليتولى مهمة تسيير عدة ولايات بالجزائر.
كما تم تعيينه في التسعينيات من القرن الماضي نائبًا لقائد غرفة عمليات فرق الموت، المتورطة في قتل المئات من الجزائريين خلال العشرية السوداء، وعين أيضًا على رأس إدارة مكافحة التجسس عام 2011.
اعتقالات سابقة
لم تكن هذه بداية الاعتقالات، فقد سبقتها اعتقالات أخرى مسّت رجال أعمال وعسكريين، حيث تم اعتقال أغنى رجل في البلاد وهو أسعد ربراب وإيداعه الحبس الاحتياطي، لتورّطه في تهم فساد.
ويشغل ربراب منصب المدير التنفيذي لشركة “سيفيتال” المملوكة لأسرته التي تستورد السكر الخام من البرازيل وتصدر السكر الأبيض إلى تونس وليبيا ودول أخرى في الشرق الأوسط (أكبر مجموعة خاصة في الجزائر).
كما طالت الاعتقالات أيضًا الأخوة كريم ونوح طارق ورضا كونيناف (رجال أعمال)، المقربين من عبد العزيز بوتفليقة، وتم وضعهم في الحبس الاحتياطي بتهمة “عدم الوفاء بالالتزامات التعاقدية عند إنجاز مشاريع عمومية وكذا استغلال نفوذ الموظفين العموميين للحصول على مزايا وتحويل عقارات وامتيازات عن مقصدها الامتيازي”.
حملة الاعتقالات التي وصفها بعض الجزائريين بـ”حملة التطهير”، يقودها الفريق قايد صالح الذي أضحى بمثابة مركز ثقل السياسة الجزائرية
إلى جانب هؤلاء، تم توقيف العشرات من رجال أعمال آخرين، بتهم تتعلق أغلبها بالفساد وتبديد المال العام واستغلال النفوذ، وفق ما أكدته تقارير لوسائل إعلام محلية، وتم إيداعهم السجن.
كما مثل كل من رئيس الحكومة الجزائري السابق أحمد أويحيى، ووزير المالية الحاليّ ورئيس بنك الجزائر سابقًا محمد لوكال أمام قاضي التحقيق للتحقيق معهما في تبديد المال العام ومنح امتيازات غير مشروعة.
فضلاً عن ذلك، تم إحالة ملفين خاصين بمتابعة وزير الطاقة الأسبق محمد شكيب خليل ومن معه إلى المحكمة العليا بسبب أفعال تتعلق بـ”مخالفة القانون الخاص بالصرف وحركة رؤوس الأموال من وإلى الخارج”، وفق الإذاعة الجزائرية.
إلى جانب ذلك، أمر قاضي التحقيق لمجلس الاستئناف العسكري في البليدة جنوب الجزائر العاصمة بإيداع القائد السابق للناحية العسكرية الثانية (تشمل غرب البلاد بما في ذلك المناطق الحدودية مع المغرب) اللواء باي سعيد الحبس المؤقت، كما أمر بالقبض على اللواء الحبيب شنتوف، القائد السابق للناحية العسكرية الجزائرية الأولى (تشمل العاصمة ومدن وسط البلاد)، بتهم تبديد أسلحة وذخيرة حربية ومخالفة التعليمات العامة العسكرية، جاء ذلك في بيان لمجلس الاستئناف العسكري بمدينة البليدة جنوب العاصمة نشرته وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية مساء الأحد.
تهيئة الطريق
حملة الاعتقالات التي وصفها بعض الجزائريين بـ”حملة التطهير”، يقودها الفريق قايد صالح، الذي أضحى بمثابة مركز ثقل السياسة الجزائرية، مستعينًا بإمساك المخابرات العسكرية التي يقودها بالعديد من الملفات القضائية الخطيرة.
يعمل قايد صالح، على إقصاء المناوئين له من الجنرالات ورجال الأعمال والسياسيين، استعدادًا للمرحلة القادمة التي تنتظر الجزائر بعد دفع بوتفليقة إلى الاستقالة، قبل ذلك، هيأ قايد صالح الأرضية لهذا الأمر، فقد قام منذ تعيينه رئيسًا لقيادة أركان الجيش الجزائري بترقية وجوه كثيرة وجميعهم من الغرب من تلمسان، فيما تم استبعاد البعض وإجبار البعض الآخر على المعاش المبكر.
ويعمل قائد أركان الجيش الذي كان عماد نظام بوتفليقة على إبعاد شبه الفساد عنه وعن مؤسسة الجيش التي يقودها، وسبق أن صنفت منظمة الشفافية الدولية الجيش الجزائري ضمن أكثر جيوش شمال إفريقيا والشرق الأوسط فسادًا، معتبرة أن الفساد والجريمة المنظمة اخترقت الجيش وأجهزة الأمن، ودفع الرشى متفش وشراء المعدات العسكرية أمر محاط بالسرية.
وتفيد تقارير إعلامية محلية وأخرى دولية، أن العديد من القيادات داخل الجيش الجزائري تحالفت مع اللوبي المالي في البلاد، وشكلوا مع بعض جماعات مصالح للسيطرة على القطاع الاقتصادي في الجزائر التي تعتبر من أغنى دول المنطقة.
رفع المحتجون المشاركون في مليونية الجمعة الماضية، شعار “الجيش ديالنا والقايد لالا”
يحاول قايد صالح، تبييض وجهه عبر تنظيف الواجهة الملوثة بفساد سياسي واقتصادي في البلاد، تحضيرًا للمرحلة القادمة، خاصة أن صورته شهدت رجات كبرى ساهمت في تدني شعبيته لدى مختلف الفئات الشعبية الجزائرية.
ورغم إنكاره المتكرر التدخل في الحياة السياسية للبلاد وتقيده بالدستور، يُتهم الجيش الجزائري بقيادة المشهد السياسي في الجزائر والتحكم فيه، والسيطرة على الحياة العامة في البلاد والتغلغل داخل مؤسسات الدولة وسحق إرادة الشعب، نظرًا لعمله خارج حدود وظيفته ووجوده كعامل رئيسي ومرجح في أي انتخابات بالبلاد.
الشعب ينادي.. يتنحاو قاع
فضلًا عن تصفية خصومه ومناوئيه، يعمل قايد صالح على استمالة الشعب له، إلا أن المهمة تبدو مستحيلة بعض الشيء، فحتى وإن أيد الشعب خطوات الجيش المتمثلة في “حماية الحراك” والقبض على “الفاسدين”، فإنه يرفض توليه الحكم ويصر على مدنية الدولة.
يدرك الجزائريون أن الفريق قايد صالح، كان جزءًا مهمًا من النظام الذي حكم البلاد طيلة عقود عدة، وساهم بدرجة كبيرة في تفقير البلد الذي يمتلك ثروات باطنية مهمة أبرزها الغاز والنفط.
ما يدل على رفض الجزائريين لتولي قايد صالح حكم البلاد في الفترة القادمة، رفعهم لشعارات مناهضة لما وصفوه “محاولات رئيس أركان الجيش ببلادهم بدعم السلطة القائمة”، مبدين رفضهم الكامل في أن يتحدث قايد صالح باسم الحراك.
يصر الجزائريون على رحيل كل أعمدة نظام بوتفليقة
شدد المحتجون على مطالبهم الرافضة لكل من كان له علاقة من قريب أو بعيد بنظام بوتفليقة الذي دام لعشرين سنة، مؤكدين تخوفهم مما سموه بـ”وصاية القايد على الحراك”، مؤكدين رفضهم لأي مسار قد يوصل البلاد لحكم رجل “عسكري”، مردّدين “جمهورية ماشي كازيرنة”، أي جمهورية وليست ثكنة.
رفع المحتجون المشاركون في مليونية الجمعة الماضية، شعار “الجيش ديالنا والقايد لالا”، أي الجيش لنا وقايد صالح لا، و”صالح ارحل”، في إشارة منهم لرفضهم تحركات قايد صالح للسيطرة على حراكهم.