تستثمر الكثير من الدول الإسلامية في بناء المساجد ودور العبادة في عديد الدول والأقاليم في قارات العالم الخمسة، لتعزيز نفوذها فيها، ما جعل بناء الجوامع بمثابة القوة الناعمة التي تحرص هذه الدول على حسن إدارتها وتسييرها.
في هذا التقرير لـ “نون بوست” سنتعرف سويًا على هذه الدبلوماسية الجديدة التي باتت تعرف باسم “دبلوماسية المساجد”، والتي انتشرت مؤخرًا بصفة كبيرة بين الدول التي تتخذ الإسلام دينًا لها.
تركيا والحنين إلى “العثمانية”
لم تكن تركيا قبل استلام حزب العدالة والتنمية، بقيادة أردوغان، الحكم، تهتم ببناء المساجد داخل البلاد فما بالك بخارجها، لكن تصدّر هذا الحزب ذو المرجعية الإسلامية قلب المعادلة، وانطلقت الرحلة.
بدأت الدولة التركية، بوصفها وريثة الإمبراطورية العثمانية، بمعاضدة منظمات المجتمع المدني المضطلعة بالشأن الديني، ببناء وترميم المساجد في العديد من الدول من أمريكا اللاتينية إلى إفريقيا مرورًا بأسيا. وتستغل تركيا في ذلك، مؤسسة ديانات، التي تعمل تحت مديرية الشؤون الدينية، إضافة لوكالة “التعاون والتنسيق التركية”، المسؤولة عن ترميم التراث العثماني حول العالم، بما فيه عشرات المعالم الأثرية في البلقان.
تقول السلطات التركية إن هدفها من بناء المساجد خارج أرضها دعم الإسلام السني المعتدل
في سبتمبر/أيلول 2018، افتتح أردوغان أكبر مساجد أوروبا في المدينة الألمانية كولونيا، موطن أكبر تجمع للجالية التركية، وقد تم الانتهاء في 2017 من بناء هذا المسجد الضخم الذي موّله “الاتحاد الإسلامي التركي للشؤون الدينية” المقرب من السلطات التركية الحاكمة.
في نفس الشهر دشّن أردوغان جامع الإمام السرخسي في العاصمة القرغيزية بيشكيك، الذي يعد أكبر مسجد في قيرغيزستان وآسيا الوسطى. أقيم هذا المسجد الذي يشبه مشهد قوجه تبه الذي بناه الوقف في أنقرة، على أرض تبلغ مساحتها 35 دونمًا، وبمساحة مغلقة تبلغ 7 آلاف و500 متر مربع، ويتسع لـ30 ألف مُصلٍ.
كما افتتح أكبر مسجد على الطراز العثماني في شرق إفريقيا بالعاصمة جيبوتي، في شهر فبراير/شباط الماضي، بعد انتهاء أعماله المستمرة منذ عام 2017. صمّم هذا المسجد على طراز العمارة الكلاسيكية العثمانية، ويشيد على رقعة مساحتها 10 آلاف متر مربع، ويطلّ على شواطئ المحيط الهندي بالقرب من القصر الرئاسي في جيبوتي.
وفي روسيا البيضاء، شيدت تركيا مسجد “مينسك”، وكان هذا المسجد قد هُدِم قبل 54 سنة من الاتحاد السوفيتي، وتصل مساحته الإجمالية إلى نحو 2800 متر مربع، فيما بلغت تكاليف البناء والتجهيز سبعة ملايين دولار.
وفي الفلبين، أنفقت تركيا ممثلة في وقف الديانة التركي ما يقارب المليون دولار لصيانة وإصلاح المساجد هناك، بما في ذلك ثلاثة مساجد في مدينة أورموك شرقي البلاد، إضافة إلى المركز الإسلامي ومسجد تاكلوبان الذي تبلغ مساحته 400 متر مربع ويتسع لـ350 شخصًا.
في سنة 2016، افتتح أردوغان مركز “ديانيت في أميركا”، وهو مسجد ومركز ثقافي في ماريلاند يروج لنفسه باعتباره أكبر مجمع إسلامي في النصف الغربي من الكرة الأرضية. وفي عام 2015 أيضًا افتتح مسجد آخر في تيرانا، عاصمة ألبانيا، إضافة لترميم عديد المساجد العثمانية في مناطق مختلفة. فيما يجري التخطيط لبناء مساجد في كوبا، ورومانيا، وفنزويلا.
تقول السلطات التركية إن الغاية من بناء المساجد في شرق الأرض ومغاربها، نشر الإسلام السني، ومقاومة الحركات المتطرفة، إلا أن الغاية الأبرز وفق العديد من المراقبين هي تعميق التأثير التركي في الجاليات المسلمة في تلك الدول وأيضًا مدّ نفوذها إلى خارج رقعتها الجغرافية وكسب الحلفاء عبر تعميق الصلات مع المجتمعات المسلمة حول العالم، في محاولة لاستعادة روح الامبراطورية العثمانية.
أشرف أردوغان على تدشين عديد المساجد في أوروبا وإفريقيا وآسيا
بفضل هذه الدبلوماسية، تمكّن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من توسعة نفوذه في أوساط الشتات التركي في أرجاء أوروبا، فخطب الجمعة الأسبوعية هي ذاتها التي تُلقى في المساجد التركية، والدروس الدينية أيضًا هي نفسها.
“الوهابية” خدمة لملوك السعودية
تركيا ليست القوة الإقليمية الوحيدة التي تستعين بالإسلام لتعميق نفوذها، إذ تقوم السعودية أيضًا بنشر نسخة الإسلام الوهابي الخاص بها عبر تمويل المنظمات والمساجد، حث تنفق ما بين مليارين و3 مليارات دولار سنويًا على بناء المساجد وصيانتها في أوروبا، ومناطق أخرى.
من كوسوفو إلى جاكارتا عاصمة إندونيسيا، إلى المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، كان هناك انتشار للوهابية من قبل المدارس والجامعات السعودية، وحملة مكثفة لتدريس الأئمة والخطباء، وتعليمهم اللغة العربية ومعها المذهب الوهابي، وتزويدهم بالكتب المطبوعة في المملكة في حملة هي الأكبر من نوعها لتوفير التعليم المجاني المدعوم من آل سعود.
قامت السعودية ببناء العديد من المساجد في إفريقيا أيضًا، منها مسجد أحمد سيكو توري، الذي موّله الملك فهد عاهل المملكة العربية السعودية، وافتتح في 1982، وهو المسجد الأكبر الرابع في إفريقيا والأكبر في إفريقيا جنوب الصحراء.
بدأ الدعم المالي والثقافي في الثمانينيات من القرن الماضي، ليتحوّل المنهج السلفي من منهج هامشي في قرى إفريقيا الفقيرة على سبيل المثال، إلى كونه التيار المنتشر في المجتمعات الإسلامية كلها، ولا ضرر منه ما دام يوفّر التعليم والثقافة في قرى لم يُوفر فيها شيء على الإطلاق.
إلى جانب ذلك، تساهلت عديد الدول الأوروبية منذ السبعينات مع مشاريع الرياض التي بنت مساجد كثيرة في القارة، وفي المقابل عملت على نشر الفكر الوهابي الذي كلف القارة الأوروبية والعالم أجمع كثيرًا.
غير أن هذا التساهل الأوروبي، بدأ في التراجع وبدأت معه السعودية في التخلي تدريجيًا عن سياسة بناء المساجد والإشراف عليها في اوروبا. فمؤخرًا تخلت المملكة عن إدارة أكبر مساجد بلجيكا، الذي تسلمته منذ سنة 1969، مما أتاح لأئمة تدعمهم الرياض، التواصل مع الجالية المسلمة.
سهرت السعودية على نشر الوهابية
ويأتي القرار السعودي، في ظل الاتهامات بترويج أئمة المسجد لخطاب الكراهية والتطرف، مما دفع بلجيكا إلى إبداء رغبتها في إبعاد “شيوخ الرياض” عن المسجد، الذي يقع قرب مقر الاتحاد الأوروبي في بروكسل. وتسعى السعودية في ظل حكم بن سلمان إلى إنهاء دعم المساجد والمدارس الدينية في الخارج والتي توجه إليها اتهامات بنشر الأفكار المتشددة.
كما تتّهم الأوساط السياسية والأمنية في أوروبا، السعودية بنشر الفكر الجهادي في العالم عبر تمويلها حركات جهادية في مناطق مختلفة، ويتم استثمار جزء من هذه الأموال في استقطاب شباب مسلم من أوروبا ومناطق أخرى، وتجنيدهم في صفوف تنظيم “الدولة”.
كما هو الحال في إفريقيا وأوروبا، احتلت السعودية المرتبة الأولى في دعم المراكز الإسلامية الآسيوية، متقدمة على الدعم التركي والقطري للعديد من تلك المراكز أيضًا، لتتفوق السعودية على جماعات الإسلام المعتدل أو الجماعات الصوفية في نشرها للوهابية في آسيا.
الإمارات تلتحق بالركب
نهاية سنة 2010، شهدت مدينة روتردام الهولندية افتتاح أكبر مسجد في أوروبا الغربية، حينها. مسجد يضم مئذنتين بطول 50 مترًا ويتسع لـ 3000 شخص في وقت واحد. تم تمويل بناء المسجد الذي لم تحدد كلفته من طرف مؤسسة آل مكتوم التابعة لوزير المالية في الإمارات العربية المتحدة الشيخ حمدان بن راشد آل مكتوم.
المسجد الكبير بروتردام
بعد أربع سنوات، أكملت دولة الإمارات تشييد ثاني أكبر مسجد في فلسطين بعد المسجد الأقصى، يحمل اسم رئيس الإمارات الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، وذلك في منطقة العيزرية في الضاحية الشرقية للقدس.
هذه المسألة ليست دينية فحسب بقدر ما تكون سياسية كذلك، فحكام الإمارات يسعون إلى بسط نفوذهم في مناطق عدة من العالم، والترويج لدولتهم التي استطاعت في ظرف وجيز التحكم في عديد الدول بفضل أموالها الطائلة.
قطر.. تواصل المنافسة
سنة 2016، أعلنت إيطاليا أن بناء المساجد وصيانتها وتمويلها في البلاد، تتحمل أغلبه دولة قطر التي خصصت في ذلك العام فقط، مبلغ 25 مليون يورو أنفقت لبناء 43 مسجدا، بشكل رئيسي في جزيرة صقلية، وشمال البلاد في مدن “سارونو” في بياتشينزا، مروراً بـ”بريشيا” والساندريا.
كما تبنت قطر، مشاريع لإعادة تأهيل وتجديد 14 مركزًا إسلاميًا في إيطاليا، وأنشأت عددًا من المراكز الإسلامية الكبرى فيها بتكلفة وصلت لعشرات ملايين الدولارات، كما تحدثت تقارير صحفية أن إسبانيا سمحت لقطر ببناء 150 مسجًدا حتى عام 2020 مقابل تحمّلها تكاليف صيانة وتحديث مسجد قرطبة.
كما قامت قطر عبر مؤسسة قطر الخيرية غير الحكومية، بضخ ما يزيد عن 4 ملايين فرنك، بين عامي 2011 و2014، في خمس مشاريع تابعة لمنظمات إسلامية في كل من بريّيي (كانتون فو) وبيل/بيان (كانتون برن) ولا شو – دو- فون (كانتون نوشاتيل) ولوغانو (كانتون تيتشينو) السويسرية.
عملت قطر في السنوات الأخيرة على بناء العشرات من المساجد في مناطق مختلفة من العالم
وتشرف مؤسستا “قطر الخيرية” و”راف”، على بناء العديد من المساجد في مالي وتنزانيا والفليبين والهند وفلسطين، ودول كثيرة أخرى في مناطق مختلفة من العالم، خدمة للدبلوماسية القطرية المتعددة المجالات.
هذه الدولة الصغيرة من حيث المساحة وعدد السكان، استطاعت بفضل دبلوماسيتها الدينية المرنة وأساليب أخرى، أن تتحول خلال العقد الأخير من بلد يسعى إلى تثبيت أقدامه على الساحة الدولية، إلى بلد يقوم بدور ريادي غير مسبوق على الصعيدين الإقليمي والدولي.
إيران وتصدير تجربة ولاية الفقيه
إيران أيضًا تنشط بجدّ في هذا المجال، فهي تستخدم الدين والطائفة والتاريخ المشترك كاستراتيجية لتسهيل تعميق نفوذها في الشرق الأوسط وإفريقيا كذلك. تسعى إيران إلى تصدير الثورة، والترويج لنظام ولاية الفقيه، فضلًا عن المحافظة على مصالحها الاقتصادية والسياسية في تلك المجتمعات والدول، واستخدام المساجد والحسينيات كحيّز لحشد الناس حول الأجندة الإيرانية. يظهر ذلك جليًا في العراق و سوريا ولبنان والبحرين واليمن.
استعملت المغرب الصوفية لتدعيم حضورها في إفريقيا
الأمر في إفريقيا لا يختلف كثيرا، ففي غانا مثلًا، لم يكن هناك وجود للشيعة لكن اليوم نجد أكثر من مليون شيعي هناك، وهم في ازدياد. وقد تدعّم ذلك مع بداية هجرة اللاجئين اللبنانيين في بداية الثمانينات، حيث تزايد نشاط الدعوة الشيعية، وبدأت منظمات كمنظمة الكوثر في بناء المساجد وتنظيم الاحتفالات الدينية الشيعية كالاحتفال بيوم القدس وعاشوراء وغيرها.
الصوفية في خدمة المغرب
يشرف المغرب على المئات من المساجد الصغيرة والكبيرة في أوروبا وإفريقيا، ما جعله يتغلغل في أوساط الجاليات المسلمة في تلك المناطق، حد السيطرة على بعضها خدمة لأجندة الرباط.
وتظهر هذه الدبلوماسية الدينية أكثر في إفريقيا، فقد حرص العاهل المغربي محمد السادس بصفته “أمير للمؤمنين”، على دعم هذه الدبلوماسية ببناء المساجد والزوايا في عديد الدول الإفريقية.
استعمال المغرب للبعد الديني والدبلوماسية الروحية ليس وليد اللحظة، فمنذ الثمانينات، بعد خروجه من منظمة الوحدة الإفريقية، حاول المغرب توظيف الورقة الدينية لحماية مصالحه، فأنشأ مع السنغال رابطة علماء المغرب والسنغال عام 1985، وكانت رغبة البلدين أن تكون الرابطة بينهما بداية انخراط بلدان أفريقية أخرى.
يتوفر المغرب على حركة صوفية قوية تعتبر جزءًا من الآليات التي تحافظ بها المملكة على هويتها الدينية، وقد استغلت المملكة هذه الطرق الصوفية في دبلوماسيتها الدينية لارتباطها الوثيق بمجموعة من الدول الإفريقية، والمكانة الهامة التي تمتلكها داخل هذه الدول.
ويؤكّد عديد المتابعين، أن استثمار المغرب للدبلوماسية الروحية والدينية بإفريقيا كان نتيجة حتميات تاريخية فرضها ارتباط المملكة ببعض البلدان الإفريقية، زد على ذلك التحديات الأمنية التي تشهدها القارة وعلى رأسها الإرهاب وتزايد الصراعات بالدول الإفريقية كما هو الحال بالنسبة لنيجيريا وإفريقيا الوسطى، وانتشار الجماعات المسلحة في المنطقة.
صعود الصوفية في المغرب، جاء عقب هجمات 16 مايو 2003 الإرهابية بالدار البيضاء، فهذه الأحداث أدت إلى هذا الصعود اللافت للتصوّف الطرائقي، وذلك بعد وضع خطة إعادة هيكلة الحقل الديني التي اتخذت من التصوف السني أحد معالمها الأساسية في ضمان الأمن الروحي للمملكة.
حضورها المحلّي القوي، ساهم في انتشارها في عديد الدول الإفريقية لتشكّل بذلك بمعية الطرق والزوايا الصوفية المنتشرة في دول القارة السمراء، لوبي ضاغط لفائدة المغرب في القضايا السياسية الكبرى، لا سيما قضية الصحراء، فكلما تغير موقف من المواقف لدى بعض الدول الأفريقية من هذه القضية لفائدة الجزائر أو جبهة البوليساريو كانت الجماعات الصوفية تضغط على حكوماتها لمراجعة موقفها ومناصرة المغرب.