“اليوم أعلن أنني سأستقيل من زعامة حزب المحافظين في الـ7 من يونيو/حزيران المقبل لانتخاب زعيم جديد، وقد اتفقت مع رئيس الحزب أن تبدأ مرحلة التحضير لقيادة جديدة بعد أسبوع من ذلك، وأبلغت جلالة الملكة برغبتي، وسأستمر في عملي لحين الانتهاء من عملية الاستبدال”.
من أمام البوابة رقم 10 الشهيرة لمقر رئاسة الوزراء في شارع دواننغ ستريت وسط لندن، خنقت هذه الكلمات رئيسة الوزراء البريطانية فكادت تذرف الدموع وهي تعلن رحيلها قريبًا على طريقة سلفها ديفيد كاميرون، تحت ضغط الفشل في إقناع مجلس العموم البريطاني بآخر خططها لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي التي يسمونها اختصارًا “بريكست”.
إنها تريزا ماي التي تبوأت المنصب في أواسط عام 2016 خلفًا لكاميرون، ولهدف أساسيّ أقرت بإخفاقها في إنجازه، وهو تنظيم عملية الخروج التي اتضح مع مرور الوقت طوال الأعوام الثلاث الماضية أن دونها عقبات اقتصادية وسياسية معقدة يصعب التوافق على كيفية اجتيازها، ليس في المفاوضات مع الأوروبيين فحسب، بل في الجدل بين البريطانيين أنفسهم أيضًا.
ماي تقضي أيامها الأخيرة في منصبها
بعد جولات مضنية راوحت فيها على طول الطريق الممتدة بين مجلس العموم البريطاني في لندن ومقر الاتحاد الأوروبي في بروكسل مضافًا إليه في بعض الأحيان كبريات عواصم القارة مثل برلين وباريس، قررت تريزا ماي أخيرًا أو لعلها أُكرهت بمعنى آخر على رفع الراية البيضاء أمام المشرّعين البريطانيين.
تغادر ماي قريبًا تاركةً كرسيها في رئاسة الحكومة كما في قيادة حزب المحافظين لزعيم آخر ترتسم الآن ملامحه في الأفق، وربما تخرج نهائيًا من معترك السياسة.
لم يكن رحيل ماي عن سدة الحكم مفاجئًا، فبينما كانت الأشهر والأيام تلتهم الزمن، كان اتفاق البريكست الذي اقترن باسمها يراوح نفس المكان
لحظات مؤثرة للغاية مسحت صورة الشدة والحزم التي طالما اتسمت بها الزعيمة المحافظة التي اكتسبت لقب “الروبوت”، بسبب رباطة جأشها وقوة شخصيتها والفتور الذي تبديه في تصريحاتها، لكن رغم أنها ستغادر منصبها دون أي مجد خاص، فإنها عبَّرت عن فخرها لكونها ثاني رئيسة وزراء لبريطانيا، وحتمًا لن تكون الأخيرة كما قالت.
ماي أو “المرأة الحديدية” كما لقبها كثير من مناصريها تولت منصب حقيبة الداخلية عام 2010 لـ6 سنوات كاملة، وفي عام 2016 دعمت رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون للبقاء في التكتل الأوروبي، لكن نتائج الاستفتاء لصالح الخروج أدَّت إلى استقالة كاميرون لتتولى ماي المنصب كثاني امرأة في تاريخ المملكة المتحدة بعد مارغريت تاتشر.
في البداية، تعهّدت ماي أمام أعضاء حزب المحافظين الذي تزعمته بالعمل على احترام نتيجة الاستفتاء، فخاضت مفاوضات ماراثونية مع الاتحاد الأوروبي بينما واجهت بضراوة تارة وبالرقص تارة أخرى انقسامات عميقة في الداخل البريطاني، وخسرت أكثر من مرة اقتراعات تحت قبة البرلمان من أجل تمرير خطتها المثيرة للجدل.
وعلى ضوء إخفاقها في التوصل إلى اتفاق مع الاتحاد الأوروبي يحظى بموافقة مجلس العموم، لم يكن رحيل ماي عن سدة الحكم مفاجئًا، فبينما كانت الأشهر والأيام تلتهم الزمن، كان اتفاق البريكست الذي اقترن باسمها يراوح نفس المكان.
ماي اضطرت لتقديم استقالتها بعد فشلها 3 مرات في إقناع مجلس العموم بخططها لبريكست
أيام صعبة مرت على ماي التي خذلها الحلفاء قبل الأعداء، وكما تعرضت لانتقادات واسعة من المعارضة العمالية بسبب إصرارها على خطة البريكست واجهت أيضًا عاصفة من المعارضة في حزبها، حيث اتهمها مؤيدو البريكست من المحافظين بالعجز عن تنفيذ نتائج الاستفتاء الذي صوَّت خلاله أكثر من نصف البريطانيين على الخروج من الاتحاد الأوروبي.
وكان من أبرز النقاط الخلافية التي حالت دون نجاح ماي في إقناع البرلمان بخططها المتكررة للخروج من الاتحاد الأوروبي هي التدابير الخاصة بالاتحاد الجمركي مع شركاء الأمس ومستقبل العلاقة الحدودية بين أيرلندا وأيرلندا الشمالية.
جاءت بعد ذلك التعديلات الأخيرة التي اقترحتها رئيسة الوزراء المستقيلة، التي تحدثت عن منح النواب فرصة التصويت على إمكانية إعادة الاستفتاء الذي أُجرى عام 2016 لتغضب مزيدًا من نواب حزب المحافظين.
مصير البريكست بعد ماي
يبدو أن البريكست تحولت إلى غول يبتلع رؤساء الوزراء البريطانيين الواحد تلو الآخر، فمهمة تفكيك روابط مع الاتحاد الأوروبي عمرها أكثر من 40 عامًا ليست بالأمر السهل.
وعلى مدى 3 أعوام، شكلت قضية البريكست البند الوحيد في أجندة تريزا ماي لترسم بلا شك أيضًا مسار خلفها، لكن المؤكد أن رحيلها لن يحل الأزمة في ساحة يغيب فيها الشريك القوي الذي يفرض مشروع الانفصال ويمضي بسفينة قُدمًا نحو إلى بر الأمان.
استقالة وإن طال انتظارها فإنها لا تمثل اختراقًا للجمود السياسي في بريطانيا بشأن بريكست بقدر ما قد تعمق الأزمة الحاليّة، ولن يؤدي خروج ماي من المشهد إلا إلى مزيد من التعقيد في مشهد معقد أصلاً.
ليس من المتوقع على ضوء ردود الفعل الأوروبية الأولية التي أعقبت استقالة ماي أن يحظي خليفها المنتظر بفرصة التوصل إلى اتفاق أفضل من الذي توصلت إليه
وثمة ضبابية كبيرة وعدم يقين كبير داخل السياسة البريطانية منذ وقت طويل، حيث يعجز الساسة في بريطانيا عن الاتفاق على الصيغة المستقبلية للتعاطي مع القارة الأوروبية التي يرغبون في الانفصال عنها ولا يعرفون لذلك الانفصال طريقًا على الأقل حتى الآن.
وليس من المتوقع على ضوء ردود الفعل الأوروبية الأولية التي أعقبت استقالة ماي أن يحظي خليفها المنتظر بفرصة التوصل إلى اتفاق أفضل من الذي توصلت إليه هي ورفضه البرلمان مرارًا وتكرارًا، فقد قالها الأوروبيون بوضوح في أول رد فعل على الاستقالة “لا شيء تغير، وموقفنا سيبقى كما هو”.
انطلاق سباق الترشح.. من سيخلف ماي؟
ثمة حديث يدور الآن في أروقة حزب المحافظين عن خلفٍ لماي، ففي بيان مشترك صدر عن رئيس الحزب راندون ليوس ونائبي رئيس لجنة 1922 التنفيذية في الحزب شيريل جيلان وتشارلز ووكر، حدد الحزب مسار عملية اختيار مَنْ سيخلفها بحلول منتصف يوليو/تموز المقبل قبل عطلة البرلمان الصيفية، لكن زعيم حزب العمال المعارض جيرمي كوربين يطالب بانتخابات عامة.
ويرى كوربين الذي أعلن ترشحه لمنصب زعيم حزب المحافظين أن تعيين زعيم جديد لحزب المحافظين لن يحل المشكلة، لكن من شأن ذلك أيضًا أن يكون خطوة تنطوي على مخاطر، مع توقع تحقيق حزب بريكست الحديث العهد انتصارًا في الانتخابات الأوروبية عندما تتضح نتيجة الاقتراع الاثنين.
الطامحون إلى رئاسة الحكومة البريطانية خلفًا لماي: بوريس جونسون (يسار) ثم جيريمي هانت ودومينيك راب ومايكل غوف
ويستعد المرشحون لخلافة ماي لإطلاق حملاتهم السبت في منافسة ستستمر شهرين على رئاسة الحزب، وثمة أسماء عديدة رُشحت لخلافة ماي بين شخصيات متشددة كانت فيما مضى عرَّابة الخروج وأخرى لينة ترى مساحة أمل لاتفاق مع الشركاء الأوربيين.
يأتي على رأس النوعية الأولى عمدة لندن السابق بوريس جونسون، وهو الأكثر حظًا لخلافة ماي وصاحب الشعبية الواسعة بحسب استطلاع رأي أجرته شبكة “يو جوف”، وأبرز مهندسي حملة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ضمن حزب المحافظين.
بعد استفتاء عام 2016 رفض جونسون أن يخلف ديفيد كاميرون في وقت كان المحافظون يسعون فيه لرص الصفوف، وعاد جونسون ليكون وزيرًا للخارجية في عهد تريزا ماي، وانتقد بشدة المفاوضات مع بروكسل قبل أن يستقيل في يونيو/حزيران 2018.
ويراهن البعض على شخصية مثل دومينيك راب صاحب التوجه الليبرالي، وهو مؤيد قوي لخروج بلاده من الاتحاد الأوروبي، وكان وزير بريكست لعدة أشهر في 2018 ثم قرر “القفز من السفينة”، مؤكدًا أنه لا يستطيع دعم بنود “خطة ماي السيئة”، ولم يعلن حتى الآن استعداده لخوض السباق الجمعة، لكن من المتوقع أن يعلن ترشحه.
أيًا كانت تلك الشخصية فإنها ستواجه الصعوبات نفسها التي واجهتها تيريزا ماي، وعلى رأسها نفس الغالبية الضئيلة في البرلمان
هذا كان أيضًا رأي الوزير الذي سبقه في المنصب، وهو ديفيد ديفس، أحد الشخصيات المرشحة أيضًا لخلافة ماي، هذا إلى جانب أندريا ليدسوم، المطروح اسمها أيضًا لرئاسة الوزراء، واستقالت أخيرًا من منصب وزيرة شؤون البرلمان، منضمة بذلك إلى رَكب الوزراء الرافضين لأسلوب ماي في إدارة ملف بريكست.
وثمة شخصية أكثر توافقية تبرز أيضًا في هذا السباق، وهو وزير الداخلية الحاليّ ساجد جويد المؤيد القوي “للتاتشرية” والسوق الحرة الذي تمكن من فرض أسلوبه وكسب احترام المحافظين، لكن هذا المشكك بأوروبا سبق أن صوَّت في الاستفتاء ضد الخروج.
Nobody could have worked harder or had a greater sense of public duty than the Prime Minister. Her dedication in taking our country forward has been monumental. She has served her country with fortitude and we are grateful to her for it.
— Sajid Javid (@sajidjavid) May 24, 2019
إلى جانب هؤلاء، تشير مكاتب الرهانات إلى أن وجود وزير البيئة مايكل غوف ووزير الخارجية جيريمي هانت على رأس المتنافسين، ويليهم وزير التنمية الدولية روري ستيورات ووزير الدفاع بيني موردونت والمستشار الاقتصادس ماثيو هانكوك، وحتى الآن لم يعلن سوى جونسون وستيوارت ووزيرة المتقاعدين أستير ماكفي نيتهم الترشح.
وأيًا كانت تلك الشخصية فإنها ستواجه الصعوبات نفسها التي واجهتها تيريزا ماي، وعلى رأسها نفس الغالبية الضئيلة في البرلمان، وفي حال كانت هذه الشخصية من جناح المتشددين ستزداد احتمالات الخروج دون اتفاق مع الاتحاد الأوروبي، وهو الذي لا يعتزم تغيير عرض الخروج الذي رفضه النواب البريطانيون 3 مرات، إضافة إلى مؤيدين ومعارضين لبريكست لن يقدموا تنازلات.
3 سيناريوهات أحلاها مر
السؤال الذي يُطرح اليوم هو: ما الذي يمكن أن تقدمه الشخصية التي ستسكن شارع دواننغ ستريت لمسار بريكست؟ يقول البعض إن مسار الخروج من التكتل الأوروبي الذي انضّمت بريطانيا إليه قبل خمسة عقود يعتمد بشكل أساسي على من سيخلفها.
ورغم صعوية التكهن بما بعد ماي، فإن السيناريوهات تبقى مفتوحة على كل الاحتمالات، إذ يمكن للمملكة المتحدة أن تطلب من الاتحاد الأوروبي تأجيلاً جديدًا، وهي الخطوة التي كان من المقرر تنفيذها في 29 من مارس/آذار الماضي، غير أنه تم إرجاء الموعد إلى 31 من أكتوبر/تشرين الأول المقبل.
يحذر المحلل السياسي لصحيفة “التايمز” أوليفر رايت من إجبار بريطانيا على الخروج دون اتفاق، عن طريق رفض تمديد “المادة 50” التي تنظم عملية انسحاب أي عضو بالاتحاد الأوروبي إلى ما بعد أكتوبر/تشرين الأول المقبل
السيناريو الثاني يتمثل في الخروج بلا اتفاق، وهو ما تخشاه الأوساط الاقتصادية، ويراه البعض “الخيار الأسوأ”، ويعني خروجًا يفتقر إلى مرحلة انتقالية، على أن تخضع في هذه الحال العلاقات بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى قواعد منظمة التجارة العالمية نظرًا لخروج لندن من السوق الموحدة والاتحاد الجمركي.
في هذا الشأن، يحذر المحلل السياسي لصحيفة “التايمز” أوليفر رايت من إجبار بريطانيا على الخروج دون اتفاق، عن طريق رفض تمديد “المادة 50” التي تنظم عملية انسحاب أي عضو بالاتحاد الأوروبي إلى ما بعد أكتوبر/تشرين الأول المقبل، وهذا ربما وارد بقوة جراء وجود أصوات متشددة داخل الاتحاد، مثل فرنسا التي أشاد رئيسها إيمانويل ماكرون بـ”العمل الشجاع” الذي قامت به تيريزا ماي، لكنّه دعا إلى “توضيح سريع” لملف بريكسيت.
بعض مؤيدي بريكست في حزب المحافظين
ويمكن للسيناريو الثالث أن يتحقق في حال إجراء استفتاء جديد تكون نتائجه معاكسة للاستفتاء الأول، وهذا يعني رفض البريكست وقطع بريطانيا المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي ببساطة، لكن احتمال حدوث ذلك ضعيف جدًا، فقد سبق للنواب أن رفضوا هذا الخيار خلال سلسلة عمليات تصويت في البرلمان في منتصف مارس/آذار الماضي.
وإن كان قادة حزب المحافظين يلتفون بمعظمهم حول خيار الخروج، فإن المعارضة العمالية تفضل خيار البقاء لإجراء استفتاء ثانٍ عن الخروج من الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي يعمِّق الانقسام على المستويين السياسي والشعبي.
ترحل تريزا ماي إذًا وتبقى الانقسامات التي أطاحت بها في انتظار رئيس الوزراء الجديد الذي سيكون غالبًا من المتشددين الموصوفين بـ”وزراء بريكست”، ومن المقرر أن يواجه ما واجهت ماي في لندن كما في بروكسل، لكن أحدًا لن يقارنه بالمرأة الحديدية مارغريت تاتشر مثلما ظل كثيرون يفعلون كلما كانوا يناقشون مواقف هذه السيدة التي سجلها التاريخ بوصفها ثاني امرأة تحكم بريطانيا.