يعاني النظام السوري من أسوأ أزمة اقتصادية منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، فقد أدَّى النقص الحاد في الوقود والغاز والكهرباء إلى حالة من الإحباط بين السوريين حتى الموالين بشدة لرئيس النظام السوري بشار الأسد طوال السنوات الثمانية الماضية من الحرب وجعلهم يعبِّرون الآن بشكل متزايد عن استيائهم من الحكومة السورية مع استمرار تدهور مستويات المعيشة في البلاد حتى مع الحديث عن انتهاء الصراع.
الظروف قاسية بالنسبة لمعظم السوريين البالغ عددهم 19 مليون الذين يعيشون في جميع أنحاء البلد الممزق، بما في ذلك ما يقرب من الثلث الذي لا يزال خارج سيطرة الحكومة، فقد تم تهجير وتدمير بلدات وقرى بأكملها، ويُقَّدر أن 89% من السكان يعيشون في فقر ويعتمدون على المساعدات الغذائية الدولية، وفقًا للأمم المتحدة.
لكن لأول مرة، يعاني أولئك الذين يعيشون في المناطق الموالية للحكومة التي نجت من أسوأ أعمال العنف، من بعض أقسى أشكال الحرمان المعيشي، بما في ذلك في العاصمة دمشق التي يقول السكان فيها بحسب ما نقلت صحيفة “واشنطن بوست” إن الحياة أصبحت أكثر صعوبة في الأشهر الأخيرة مما كانت عليه في أي وقت مضى، ما حملهم على الاعتقاد بأنه لن يكون هناك تعاف سريع من الأضرار الهائلة التي ألحقتها الحرب بالاقتصاد السوري والنسيج الاجتماعي والمكانة الدولية.
ومن المفارقات أن هذا يأتي في الوقت الذي يدَّعي فيه النظام ومؤيدوه “النصر” على مقاتلي المعارضة في سوريا في محاولة لتحسين مكانة الأسد على الساحة الإقليمية والدولية وإقناع المجتمع الدولي بالبدء في السير على طريق تمويل إعادة إعمار سوريا، حتى أصبح الأمر أشبه بمسرحية لحملة علاقات عامة يؤديها من دمر البلاد.
الاقتصاد في زمن الحرب.. نحو تمكين روسيا في سوريا
ساهمت عدد من العوامل الداخلية في تفاقم الأزمة، ولكن في الآونة الأخيرة، كان لحملة “الضغط القصوى” التي قامت بها واشنطن ضد طهران قبل عام تأثيرًا كبيرًا أيضًا من خلال تقليل تدفقات الطاقة والأموال الإيرانية إلى دمشق، وهو ما أضعف أيضًا النفوذ الإيراني على النظام السوري، وسمح لموسكو بتحقيق مكاسب كبيرة على حساب طهران بعد تناغم استمر سنوات بينهما في دعم نظام الأسد، فكل منهما حليف عسكري رئيسي وأحد أهم عوامل التمكين للنظام السوري.
من أجل مساعدة النظام السوري على تلبية احتياجاته من الطاقة، كانت إيران تشحن ما بين مليون و3 ملايين برميل شهريًا إلى سوريا
يبدو أن حملة الضغط الأمريكية – التي تئن منها سوريا – على طهران ستستمر إلى أن “يتخلى النظام عن طموحاته المزعزعة للاستقرار”، كما قالت وزارة الخارجية الأمريكية خلال استعراض نتائج عام من العقوبات التي فرضتها واشنطن بالتدريج على النظام الإيراني، لكنها أبدت في الوقت نفسه استعدادها للتفاوض مع إيران “إذا أخذت شروطها الـ12 على محمل الجد”، ومنها سحب القوات الإيرانية من سوريا، الأمر الذي قد يفتح المجال أمام زيادة النفوذ الروسي في سوريا مقابل تراجع دور إيران.
يمكن قراءة مؤشرات هذا التراجع بالنظر إلى مراحل تفاوت حجم الدعم الإيراني للنظام السوري خلال السنوات القليلة الأخيرة، فمنذ عام 2013 إلى عام 2016، تمكَّن الأسد من الاستمرار في إدارة المناطق الخاضعة لسيطرته بشكل أساسي بفضل الدعم الذي حصل عليه من إيران وروسيا، وهو ما حدا بممثل المرشد الإيراني علي سعيدي إلى القول في نوفمبر/تشرين الثاني 2015: “لولا تدخل بلاده لدعم نظام دمشق لكانت ضاعت إيران والعراق ولبنان وسوريا”.
ونظرًا لتوسع نظام الأسد في المنطقة الخاضعة لسيطرته على مدار العامين الماضيين، فقد واجه تحديات متزايدة في توفير السلع والخدمات الأساسية لعامة السكان، ونتيجة لذلك، أصبح أكثر اعتمادًا على مناصريه الأجانب الذي قدموا له الدعم المالي والسياسي والدبلوماسي مقابل رهن مقدرات السوريين وثرواتهم ومنحهم امتيازات اقتصادية كبيرة، تحت مسميات عدّة.
منذ اندلاع الثورة السورية في مارس/آذار 2011، أنفقت إيران نحو 15 مليار دولار سنويًا لإبقاء الأسد في السلطة على حساب الشعب الإيراني، بحسب ما ذكرت مؤسسة “ناشونال سيكيوريتي ستاديز”، منها مساعدات مباشرة لبشار الأسد تُقَّدر بـ6 مليارات دولار على الأقل سنويًا، ومساعدات عبر المبادلات التجارية بلغت مليار و300 مليون دولار سنويًا، بحسب تقرير لمنظمة “مجاهدي خلق” المعارضة للنظام الإيراني، في حين كان دعم قطاع الطاقة السوري أحد الركائز الرئيسية لدعمه الاقتصادي.
وفي الوقت الحاليّ، تشير بعض التقديرات إلى أن استهلاك النفط في المناطق التي يسيطر عليها النظام بنحو 136 ألف برميل في اليوم، والإنتاج عند 24 ألف برميل في اليوم، وهذا يعني أن على دمشق التي تعاني من ضائقة مالية تستورد ما يقارب 80% من احتياجاتها من الطاقة من الخارج بقيمة تزيد على 2.3 مليار دولار سنويًا، ومن أجل مساعدة النظام السوري على تلبية احتياجاته من الطاقة، كانت إيران تشحن ما بين مليون و3 ملايين برميل شهريًا إلى سوريا.
جهود إنفاذ العقوبات تخدم غرضًا مزدوجًا
روسيا أنفقت أيضًا مثل إيران أموالاً ضخمة منذ سبتمبر/أيلول 2015 عندما بدأت تدخلها العسكري في سوريا، وركز الإنفاق الروسي في معظمه على المجهود الحربي الذي كلف ما يُقَّدر بنحو 4 ملايين دولار في اليوم، أي ما يزيد على 5.3 مليار دولار على مدى السنوات الثلاثة ونصف الماضية، في حين يبقى كم من الأموال الإضافية المخصصة للنظام السوري بأشكال مختلفة غير واضح، لكن شحنات النفط الروسية إلى دمشق، حتى وقت قريب، بدا أن إيران دفعت ثمنها.
سياسة “الضغط الأقصى” التي طبقتها الولايات المتحدة منذ أكثر من عام تمنح روسيا ميزة إضافية مقابل إيران
مع افتقار الحكومة السورية إلى الموارد المالية لدفع حلفائها إلى الخلف، سلَّم الأسد لموسكو وطهران البنية التحتية والموارد الإستراتيجية للبلاد، مثل الموانئ والمطارات وحقول النفط ومناجم الفوسفات وغيرها، وقد زاد هذا من حدة المنافسة الشرسة بالفعل بين روسيا وإيران، فكلاهما يرى تأمين المزيد من الموارد والفرص الاقتصادية ليس فقط كشكل من أشكال التعويض عن إبقاء الأسد في السلطة، ولكن أيضًا كوسيلة لمزيد من السيطرة على الأسد ونظامه والاحتفاظ بوجودهما الإستراتيجي في سوريا.
في هذا السياق، فإن سياسة “الضغط الأقصى” التي طبقتها الولايات المتحدة منذ أكثر من عام تمنح روسيا ميزة إضافية مقابل إيران، فمنذ فرض العقوبات على إيران في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، تمكنت الولايات المتحدة من خفض صادرات طهران من النفط من 2.8 مليون إلى أقل من 500 ألف برميل في اليوم.
يسارع الناس إلى الوقوف في طابور لاستلام عبوات الغاز في حي صلاح الدين بحلب في فبراير/شباط الماضي
ووفقًا للمبعوث الأمريكي لإيران بريان هوك، خسرت الحكومة الإيرانية نتيجة للجولة الأولى من العقوبات أكثر من 10 مليارات دولار من عائدات النفط، وهذا بدوره قلَّص بشكل كبير حجم الأموال التي يمكن أن تنفقها طهران للحفاظ على مواقعها ومناطق نفوذها في سوريا.
في الوقت نفسه، أدَّت العقوبات الأمريكية تقريبًا إلى وقف إمدادات النفط الإيراني الذي ساعد في بقاء نظام الأسد خلال سنوات من الحرب الأهلية، وخلال الأشهر الست الماضية، لم يتلق سوى شحنة نفط مؤكدة واحدة من إيران، يأتي ذلك مقارنة بإمدادات وصلت في المتوسط إلى 66 ألف برميل يوميًا على مدار الأشهر الثلاث الأخيرة من العام الماضي، وأدى النقص الحاد في الوقود والغاز والكهرباء، بالإضافة إلى تدهور الوضع الاقتصادي، إلى غضب متزايد بين الناس الذين يعيشون في المناطق التي يسيطر عليها النظام، وفق تقرير سابق لـ”نون بوست“، وأثار سيلاً غير مسبوق من الشكاوى على وسائل التواصل الاجتماعي من الموالين للأسد الذين احتشدوا طوال سنوات الثورة وراء نظامه.
الضغوط الأمريكية تجني ثمارها روسيا بسخاء
نظرًا لعدم قدرة إيران على إرسال النفط والمال كما كانت تفعل، فإن أمام النظام السوري خيارين: إما شن الحرب على المناطق التي تسيطر عليها المجموعات الكردية المدعومة من الولايات المتحدة لاستعادة آبار النفط في الجزء الشرقي من البلاد، أو طلب المساعدة من روسيا لتلبية احتياجاته من الطاقة بالاعتماد على الغاز المعبأ، وهو مصدر يخضع أيضًا لضغوط من جراء عقوبات، وفي حين أن الخيار لأول يكاد يكون من المستحيل القيام به في الوقت الحاليّ بالنظر إلى الوجود الأمريكي المستمر في شمال شرق سوريا، فإن الخيار الثاني يبدو ممكنًا، ولكن قد يأتي بتكلفة سياسية كبيرة.
سياسة “الضغط الأقصى” للولايات المتحدة تساعد موسكو أيضًا على تقويض نفوذ إيران وميليشياتها الشيعية وتعزيز مواقعها على الأرض
على الرغم من كونها في وضع جيد للقيام بتعويض النظام السوري عن نقص إمدادات النفط من إيران، بررت روسيا تخليها عن الأسد في أزمته النفطية بعدم وجود بنية تحتية برية وإمكانات تقنية وتجارية للقيام بذلك، وأن النقل البحري سوف يجعل تكلفة الوقود تتضاعف بنحو 20 مرة، ويبدو من ذلك أن روسيا ليست في عجلة من أمرها لتخفيف الأزمة الاقتصادية، وربما يكون سبب تقاعس موسكو عن رغبتها في رؤية النظام يعاني أكثر من ذلك قبل أن يتدخل ويأتي لإنقاذ الأسد بقائمة طويلة من المطالب التي لن يستطيع رفضها.
أحد هذه المطالب كشفته زيارة نائب رئيس الوزراء الروسي يوري بوريسوف إلى دمشق مؤخرًا، حيث ذكرت مصادر روسية مطلعة أن موسكو وجدت الفرصة سانحة لطلب استئجار مرفأ طرطوس لمدة 49 سنة مقابل التعهد بالتدخل سريعًا لحل مشكلة الوقود التي خلَّفها توقف إمدادات النفط الإيراني.
تقع معظم حقول النفط في مناطق سيطرة الأكراد
وفي إطار مساعي تعزيز المصالح الروسية في سوريا، وتوسيع خط المنافسة مع إيران على الفوز بعقود مجزية، يرى الخبير الاقتصادي يونس الكريم، في تصريحات لموقع “تليفزيون سوريا“، أن روسيا ترفض دعم الأسد بالمحروقات، ريثما يلغي الأخير التفاهم مع إيران، الذي يتضمن مد سكة حديد من طهران إلى بغداد وصولاً الى دمشق ومن ثم إلى البحر المتوسط، ومن ثم يتيح لها الوصول الى البحر المتوسط عبر ميناء اللاذقية.
وفي الوقت نفسه، فإن سياسة “الضغط الأقصى” للولايات المتحدة تساعد موسكو أيضًا على تقويض نفوذ إيران وميليشياتها الشيعية وتعزيز مواقعها على الأرض، وفي هذا الصدد، تشير صحيفة “نيويورك تايمز” إلى أن الوضع الاقتصادي المتدهور في إيران أثر سلبًا على الحلفاء والوكلاء الذين تدفع إيران رواتبهم في المنطقة، بما في ذلك حزب الله، الجماعة اللبنانية التي عملت لفترة طويلة كأقرب حليف لإيران، ووصل الحد إلى مطالبة نظام الأسد بسداد الديون المترتبة عليه.
روسيا وإيران.. صراع النفوذ
كانت روسيا تحاول الحد من نفوذ الجماعات الشيعية دون مواجهة مباشرة معها لبعض الوقت، فخلال الأشهر الست الماضية، كانت هناك اشتباكات متكررة بين القوات السورية المؤيدة لروسيا والقوات الموالية لإيران، وخاصة بين الفيلق الخامس و”قوات النمر” بقيادة سهيل الحسن، من جانب، وميليشيا الدفاع الوطني والفرقة الرابعة بقيادة ماهر الأسد شقيق بشار من جهة أخرى.
تصنيف الحرس الثوري الإيراني كمنظمة إرهابية حوَّل القوة شبه العسكرية إلى هدف مشروع في سوريا
في الآونة الأخيرة، اشتدت هذه المواجهة، ففي أبريل/نيسان، وقعت اشتباكات متعددة في حلب ودير الزور بين القوات الروسية والشرطة العسكرية الروسية وكتيبة القدس من جهة، وميليشيا الدفاع الوطني والفرقة الرابعة ولواء الباقر من جهة أخرى، وفي وقت سابق من هذا الشهر، تمكنت موسكو من طرد الميليشيات الشيعية من المناطق المحيطة بمطاري دمشق وحلب الدوليين، مما أدى إلى السيطرة الكاملة على مراكز النقل الإستراتيجية هذه.
علاوة على ذلك، فإن تصنيف الحرس الثوري الإيراني كمنظمة إرهابية حوَّل القوة شبه العسكرية إلى هدف مشروع في سوريا، ففي الماضي، كانت موسكو تغض الطرف عن استهداف “إسرائيل” المنهجي لقوات الحرس الثوري الإيراني وميليشياتها وقواعدها لأنها كانت تساعدها في تقويض نفوذ إيران على نظام الأسد ومؤسساته الأمنية، أمَّا الآن فسيكون لديها المزيد من الحوافز للقيام بذلك.
الأسد يلتقي بوتين في قاعدة حميميم العسكرية
كما كان نجاح روسيا في تهميش الميليشيات التي تدعمها إيران واضحًا أيضًا في الهجوم الأخير على إدلب، فقد قادت القوات الروسية وقوات النظام السوري الذين يحظون بدعم روسي العمليات العسكرية هناك، دون تدخل كبير من الميليشيات الإيرانية أو الموالية لإيران، ومن خلال تهميش إيران في سوريا، فإن روسيا قادرة على كبح الأسد ووضع نفسها في صورة “المنقذ” الوحيد لنظامه، في حين يبدو أن الأخير لم يعد قادرًا على اللعب بموسكو ضد طهران للحفاظ على النفوذ السياسي.
ما يعنيه هذا بالنسبة لمستقبل سوريا يبقى غير معلوم حتى الآن، فقد يقلل من تأثير النفوذ الطائفي الإيراني ويقلل من الجانب الطائفي للصراع، ويمكن أن يؤثر أيضًا على فرص السلام أو أن تستخدم روسيا موقفها القوي لإجبار الأسد على قبول تسوية سياسية من خلال مفاوضات أستانة، وذاك سيناريو متفائل، لكن الأمر الأكثر واقعية بحسب المحلل والباحث السياسي على بكير أن روسيا تمضي قدمًا في هجومها على شمال سوريا للقضاء على المعارضة وتعزيز سيطرتها على سوريا وتحويلها إلى “دولة دمية”.