بداية لا يمكن أن تمر صفقة القرن دون موافقة الفاعلين الأساسيين وهم الفلسطينيون، لذلك في حال رفض معطيات الصفقة من المحتمل أن تعود الأمور إلى ما قبل السلطة ويبدو أن هذا الخيار صعب لكافة الأطراف أمريكا في المقدمة والاحتلال الإسرائيلي والعرب، وقد تحاول أمريكا ضخ المزيد من المال والاغراءات للطرف الضاغط “العرب” لمقايضة السلطة، لكن خطاب القمة الإسلامية الأخير يظهر التخوف العربي الرسمي من اتخاذ أي إجراءات دون موافقة الفلسطينيين الذين يظهرون للمرة الأولى بموقف واحد ضد عملية التسوية القادمة.
وللمرة الأولى تسود مصطلحات “الكرامة، السيادة، المال المسيس، الابتزاز السياسي، أوهام المليارات، الحل السياسي أولاً…” على الخطاب الرسمي للسلطة الفلسطينية حيث صرح الرئيس الفلسطيني محمود عباس قائلاً: ” إن من يريد حل القضية الفلسطينية عليه أن يبدأ بالقضية السياسية، وليس ببيع أوهام المليارات التي لا نعلق عليها آمالاً ولا نقبل بها لأن قضيتنا سياسية بامتياز”.
في ظروف قد لا تجعله ناجحاً، تلقت السلطة منذ نشأتها أكثر من 35.4 مليار دولار، دون القدرة على النفاذ للتنمية الاقتصادية الحقيقية
وفي سياق متصل أكد رئيس الحكومة الفلسطينية محمد اشتيه أن “السلطة ترفض مقايضة الموقف الوطني بالمال… الأزمة المالية التي تعيشها السلطة نتيجة حرب مالية هدفها الابتزاز… السلطة الفلسطينية لا تتحدثان عن شروط تحسين حياة تحت الاحتلال الإسرائيلي”.
هناك تجربة سابقة للفلسطينيين مع تدفق المال دفعة واحدة وبكميات كبيرة من المانحين تحت إطار إقامة اقتصاد فلسطيني وتنمية سياسية عقب اتفاق أوسلو 1993، لكن هذه المساعدات فشلت فشلاً ذريعاً ليس لمشروطيتها السياسية باستمرار تدفقها مع استمرار مسار عملية التسوية السياسية وحالة الأمن بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي فحسب، بل لأنها جاءت على أرضية انعدمت فيها السيادة الفلسطينية، وهو ما استدعى متأخراً الخطاب الجديد للسلطة الفلسطينية لكن في ظروف قد لا تجعله ناجحاً، فقد تلقت السلطة منذ نشأتها أكثر من 35.4 مليار دولار، دون قدرة السلطة على النفاذ للتنمية الاقتصادية الحقيقية بسبب انعدام سيادتها على المعابر والحدود (الصادرات والواردات) ورهنها بإيرادات المقاصة.
يقصد هنا أن المعالجة الاقتصادية أو تدفق المساعدات الدولية بكميات كبيرة على شاكلة اتفاق أوسلو سابقاً سيفشل تماماً حتى وإن جاء بضمانات عربية، فقد اقترحت السعودية مبادرة السلام العربية والتي قبل بها الاحتلال الإسرائيلي والمجتمع الدولي وفشلت نتيجة عدم تطبيق بنود السيادة الفلسطينية من قبل الاحتلال، وبشكل أسرع من السابق لتنامي الاستيطان وسيطرة الاحتلال الإسرائيلي على كافة المعابر الداخلية والخارجية، وفصل غزة عن الضفة بشكل كامل، ما يعني أن المعالجة الاقتصادية التي تطرحها الإدارة الأمريكية مؤقتة دون وصولها إلى حل دائم.
فور توقف إيرادات المقاصة بسبب الأزمة الحالية، ظهر العجز الكبير في موازنة السلطة
ومن الضروري استحضار آلية إيرادات السلطة المالية لمعرفة أسلوب الضغط الذي تتبعه أمريكا ومن خلفها الاحتلال الإسرائيلي على السلطة، النظر لتقرير مالية السلطة الفلسطينية لعام 2018 الصادر عن سلطة النقد الفلسطينية، فإن السلطة تعتمد في إيراداتها المالية على ثلاثة أشكال وهي “الإيرادات المحلية، وإيرادات المقاصة، والمساعدات الدولية” لكن توازناً مالياً تحقق في ميزانية السلطة نتيجة الفارق بين الإيرادات والإنفاق العام، ونسبة اعتماد الموازنة على المساعدات والمنح الخارجية، فقد بلغ مجموع صافي الإيرادات العامة والمنح قرابة 4.127 مليار دولار لعام 2018، في حين بلغ صافي النفقات العامة والاقراض 3.65مليار دولار بإقراض من القطاع الخاص وخارجي وصل إلى 268 مليون دولار سببه تأخر إيرادات المقاصة وتعطيلها، وبلغ حجم إيرادات المقاصة لنفس العام 2.255 مليار دولار، في حين بلغ إجمالي المساعدات والمنح 664 مليون دولار بنسبة 16% من تمويل الموازنة راح 506 مليون دولار لدعم الموازنة مباشرة في حين كان 158 مليون دولار منح لدعم المشاريع التطويرية، بتعديل كبير عن حال موزانة السلطة منذ نشأتها، ويكشف الشكل القادم حالة الإيرادات العامة للسلطة الفلسطينية وفق سلطة النقد الفلسطينية، وفور توقف إيرادات المقاصة بسبب الأزمة الحالية، ظهر العجز الكبير في موازنة السلطة.
ومع تفاقم أزمة المقاصة حذّر اشتيه في 6-6-2019 من “انهيار السلطة الفلسطينية وإعلان إفلاسها مالياً خلال شهرين أو ثلاثة، مشيراً أن ذلك سيجلب المخاطر لإسرائيل والمنطقة برمتها” وتستعيض السلطة بالقروض من البنوك المحلية كحل اجباري لتجاوز أزمتها المالية على أمل توفير الأموال العربية كأمان مالي.
ولو صارت الأمور بتحقيق السيادة للسلطة على الأرض بما يتضمن سيطرة جيدة على الحدود، وتحكم في إيرادات المقاصة دون مشروطية الاحتلال السياسية، لقامت السلطة الفلسطينية بنفسها، لكن الهدف من المساعدات إبقاء السلطة بحاجة لما هو اقتصادي ونزعه من مفهومه السياسي، وقد دفع تغير الخطاب الجديد السلطة للمطالبة بتوفير شبكة شبكة ضمان مالي عربية لتعويض المنح القادمة من أمريكا وابتزاز الاحتلال الإسرائيلي عبر إيرادات المقاصة، ولعلها خطوة استباقية من السلطة الفلسطينية للدول العربية بالمبادرة بشكبة الضمان المالي بدل الانصياع لتوفيرها عبر صفقة القرن، وهو ما تتخوف منه السلطة.
أما بخصوص سياسة فرض البرامج التنموية أو التشغيلية سابقاً وآثارها مستقبلاً يكشف “جريمي وايلدمان” في دراسة مهمة له صدرت في ديسمبر 2018 بعنوان “فعالية مساعدات المانحين وسياسة عدم إلحاق الضرر في الأراضي الفلسطينية المحتلة” في إشارة لشكل التمويل الدولي المرسوم مساره، أن الكنديين على سبيل المثال خلال الأعوام 2008-2010 كتبت وكالة التنمية الدولية الكندية برنامجاً لمدة خمس سنوات لتحديد ما الذي سيمولونه للفلسطينيين بناء على الخطة الفلسطينية للإصلاح والتنمية التي لم يقم الفلسطينيون بصياغتها، ولم يسمح للفلسطينيين الاطلاع على هذا البرنامج. وفي الوقت الذي طلبت فيه وزارة المالية الفلسطينية من الكنديين معرفة البيانات المالية للتمويل غضب الكنديون ورفضوا تسليم البيانات، لتشكل هذه حلقة مغلقة من نظام المساعدات يتواصل من خلالها المانحون بمعزل عن الفلسطينيين لتحديد شكل الدولة والمجتمع الفلسطيني نيابة علن الفلسطينيين، وهو ما تسعى إلى اعتماده الولايات المتحدة خلال صفقة القرن.
طرح المثال السابق يتضمن الحديث عن الورشة الاقتصادية التي تعقد في البحرين، هل من الممكن أن تنجح في حال غياب صاحب الفعل الأول وهم الفلسطينيون؟ وهل الاختلاف على حجم التمويل وشكله أم على السياق الذي سيأتي به التمويل على الأرض؟
إن الفاعل الأساسي هم الفلسطينيون وحدهم ويعني عدم قبول الفلسطينيين بالصفقة ومجرياتها العودة للمربع الأول قبل أوسلو والتي سيتمخض عنه حل السلطة والرجوع لحالة المقاومة الشاملة، فقد كشفت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية عن تسجيل مسرب لوزير الخارجية الأمريكية “مايك بومبيو” يتوقع فيه الفشل الكبير لصفقة القرن، بعد اجتماعه بقيادات يهودية عالمية، مشيراً أن الصفقة لا تصلح للعمل لأن بها جانبين جيدين وتسعة جوانب سيئة.
هذا الضغط المالي جزء من حرب مالية تشنها علينا إسرائيل من أجل دفعنا للقبول بصفقة القرن…”
لكن أمريكا تحاول الضغط على السلطة الفلسطينية مالياً، عبر عرقلة شبكة الأمان المالي إلا من خلال صفقة القرن التي ترتكز على تغطية موازنة السلطة أولاً، وتعزيز المشاريع الاستثمارية، فقد قال رئيس الحكومة الفلسطينية محمد اشتيه أن “الرئيس أبو مازن توجه إلى القمة العربية والقمة الإسلامية طالباً منهم تفعيل شبكة الأمان المالي والعربي آملين أن يستجيب العرب وتوجهنا للمجتمع الدولي لنضع إسرائيل أمام مسؤوليتها لمخالفتها اتفاق باريس -فيما يتعلق بإيرادات المقاصة- … هذا الضغط المالي جزء من حرب مالية تشنها علينا إسرائيل من أجل دفعنا للقبول بصفقة القرن…”
خلاصة القول أمام الرفض الفلسطيني الرسمي والفصائلي لصفقة القرن والورشة الاقتصادية المزمع عقدها هذا الشهر في البحرين لبحث آلية الخطة الأمريكية للاستثمار وتنمية الاقتصاد الفلسطيني وبأموال ستكون غالبيتها عربية، يعني استحضار القوة للتخلص من السلطة الفلسطينية، أو الانقلاب داخلياً لقيادة فلسطينية جديدة تقبل بما تطرحه أمريكا وإلا سيبقى الأمر معلقاً دون حلول مع زيادة الضغط المالي على السلطة الفلسطينية لتعلن افلاسها وتحل نفسها، فهل يتدخل العرب لإنقاذ السلطة الفلسطينية بعيداّ عن الاملاءات الأمريكية؟