أعادت أشلاء القتلى المتفحمة وأجساد الجرحى الدامية المتناثرة على حافتي الشوارع أمام مقر القيادة العامة للجيش السوداني، “بشاعة” عمل ميليشيا الجنجويد التي يستعملها نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي محمد حمدان دقلو المعروف بـ”حميدتي”، للتمكن من السلطة وحكم السودان بيد من حديد.
ميليشيا مسلحة عملت لسنوات طوال في دارفور، حيث روعت الأهالي هناك وقضت مضاجعهم وحولت حياتهم إلى كابوس يتمنون ساعة نهايته، وها هي الآن تتنقل إلى مكان عملها الجديد، الخرطوم، وإن كان في ثوب رسمي تحت اسم ” قوات الدعم السريع”.
فض اعتصام القيادة
فجر الإثنين الماضي، اقتحمت “قوات الدعم السريع” (الجنجويد) ساحة الاعتصام أمام مقر القيادة العامة في الخرطوم، لتنفذ مذبحة تضمنت قتل عشرات المعتصمين وإلقاء جثثهم في نهر النيل بعد التنكيل والتمثيل بهذه الجثث، فضلاً عن ارتكاب جرائم اغتصاب وترويع بحق النساء والأطفال ونهب ممتلكات المواطنين وأغراضهم، في تكرار لما فعلته وتفعله هذه الميليشيا في إقليم دارفور منذ عام 2003.
اقتحمت قوات الدعم السريع الاعتصام، وبدأت بقتل المعتصمين بدم بارد، وبضرب كل من يعترض طريقها بالعصي والذخيرة الحية، رغم هتافهم “سلمية سلمية”، وفق ما بينته مقاطع فيديو نشرت على مواقع التواصل الاجتماعي توثق عملية الاقتحام.
في بداية الحراك ضد النظام، استنجد عمر البشير بقوات الدعم السريع وقائدها حميدتي للوقوف جنبه ضد الثوار، إلا أن حميدتي التزم الصمت في البداية إلى أن أعلن انضمامه للثوار
لم تكتف ميليشيا الجنجويد بالاعتداء وقتل الموجودين في ساعة الاعتصام، بل لحقت أيضًا الأطباء والمصابين داخل المستشفيات أيضًا، قتلت بعضهم واغتصبت البعض الآخر دون شفقة ولا رحمة، عملاً بعاداتهم التي عرفوا بها منذ سنوات عدة.
عند انتهائهم من إبادة الجمع وتأكدهم من “المجزرة الوحشية” في حق المدنيين العزل، تركت هذه المليشيات بعض أسلحتها في الأحياء لحض الناس على العنف والفوضى وترك سلميتهم بما يخدم مصالح العسكر الطامح في دعم نفوذه بالسودان.
ميليشيا الجنجويد
هذه المجموعة المسلحة المتهمة بفض اعتصام القيادة، كانت في السابق تقاتل إلى جانب نظام عمر البشير في دارفور، قبل أن تتحول إلى قوات نظامية تحت مسمى “حرس الحدود” ثم “قوات الدعم السريع” ويمنح أعضاءها بطاقات بأنهم يتبعون الجيش السوداني، غير أن أسلوبها ظل نفسه “القتل والترويع”.
تشكلت ميليشيات الجنجويد في دارفور للتصدي للحركات المسلحة وعلى رأسها (الحركة الشعبية لتحرير السودان) التي كانت تحارب الحكومة المركزية السودانية، يشتق اسمها من كلمتين الأولى جن والثانية جواد أي الجن الذي يركب جوادًا بحسب اللهجة العامية لأهل دارفور، نظرًا لاعتماد تلك الميليشيا في بداية هجماتها على القرى الدارفورية على الخيول والجمال قبل أن تبدأ الدولة في إمدادهم بالمال والسلاح والسيارات لاحقًا.
ارتكبت “الجنجويد” مجازر كبرى في دارفور
تتبع ميليشيا الجنجويد القبائل العربية أو الأبالة وهي التي تمتهن تربية الإبل، وأيضًا القبائل العربية المعروفة بالبقارة أي التي يغلب عليها تربية البقر، وقد برز اسم الشيخ موسى هلال ناظر قبيلة المحاميد العربية بدارفور بوصفه زعيم الجنجويد لا سيما بعدما ساهم في فترة من الفترات في استنفار أهله للقتال مع الحركات المسلحة جنبًا إلى جنب مع الحكومة، باعتباره الزعيم القبلي والسياسي لهم ويدينون له بالولاء.
احتلت هذه القوات المشهد السياسي والأمني في السودان لسنوات طويلة خاصة بعد اندلاع الحرب في دارفور قبل 11 عامًا، كما ذاع صيتها إقليميًا ودوليًا، نتيجة تحميلها مسؤولية الانتهاكات التي حصلت في تلك الحرب.
واتهمت الميليشيات بارتكاب فظائع هائلة تجاه المدنيين في دارفور من قتل واغتصاب ومحو لقرى كاملة بأهلها من الوجود والتسبب في واحدة من أكبر عمليات النزوح الجماعي في القارة السمراء، إلا أن عناصرها لم يقدموا إلى المحاكمات.
حميدتي يتصدر المشهد
مع الوقت، حصل خلاف بين قائد هذه المليشيات موسى هلال والرئيس المقال عمر البشير، فتم استبعاد هلال والزج به في السجن، وتصعيد محمد حمدان دقلو المعروف بـ”حميدتي” ليتولى قيادة الميليشيا مكانه بعد أن كان يقود جانبًا منها.
تراوح حميدتي بين النظام والمعارضة، إلى أن تمكن النظام من إقناعه بالانضمام النهائي له والعمل تحت إمرته، بعدما وافق على طلباته وأعطاه تطمينات ووعده بالترقية والمال الوفير هو وميليشياته التي كان لها الفضل وفق النظام في “تأديب” المعارضة.
جيء بحميدتي من حرس الحدود، وهو من مواليد العام 1975 وينحدر من قبيلة عربية بدوية على الحدود بين تشاد والسودان تسمى “الرزيقات”، وقبل انضمامه إلى حرس الحدود كان تاجرًا في دارفور يبيع الجمال والأغنام في السودان وليبيا وتشاد ومالي، فضلاً عن حماية القوافل التجارية.
التخلي عن البشير والانضمام للثوار
منذ الإطاحة بالرئيس السوداني المخلوع عمر البشير في 11 من أبريل/نيسان الحاليّ، والمشهد السياسي لا يُحركه سوى هتافات المتظاهرين المعتصمين في الخارج أمام القيادة العامة للجيش، وقرارات الداخل التي جاءت جميعها حتى الآن في صالح قائد قوات الدعم السريع.
في بداية الحراك ضد النظام، استنجد عمر البشير بقوات الدعم السريع وقائدها “حميدتي” للوقوف جنبه ضد الثوار، إلا أن حميدتي التزم الصمت في البداية إلى أن أعلن انضمامه إلى الثوار وتغليب كفتهم ضد نظام عمر البشير.
ضرب الثورة يسعى من خلاله حميدتي إلى فسح المجال أمامه لإحكام سيطرته على البلاد بمساعدة دول عربية على رأسها المملكة العربية السعودية والإمارات ومصر
منذ ذلك القرار، أضحى محمد حمدان دقلو الرقم الصعب في المعادلة السودانية، فالرجل انتصر للثورة وفق قوله، وغلب مصلحة البلاد على مصلحة النظام، وزاد رفضه الانضمام للمجلس العسكري الذي أراد وزير الدفاع السوداني ونائب البشير الفريق عوض بن عوف تشكيله عقب الإطاحة بالبشير في الـ11 من أبريل/نيسان الماضي، من شعبيته في البلاد.
رفض حميدتي إضفاء الشرعية على الحرس القديم المتمثل في وزير الدفاع ابن عوف ورئيس الأركان كمال معروف ومدير المخابرات صلاح قوش، بدعوة تمثيلهم للنظام ومعاداتهم لثورة السودانيين التي يدعي حمايتها.
ضرب الثورة بمساعدة دول عربية
لم يكتف حميدتي بالتخلي عن البشير فقط بل تخلى عن الثورة والثوار رغم ادعاء حمايتهم، فقد أمر قواته باستهداف المحتجين قصد إرباكهم والحد من حركتهم قبل الانقضاض على ثورتهم السلمية التي تهدد مشروع حميدتي وحلفائه من الداخل والخارج.
ضرب الثورة يسعى من خلاله حميدتي إلى فسح المجال أمامه لإحكام سيطرته على البلاد بمساعدة دول عربية على رأسها المملكة العربية السعودية والإمارات المتحدة ومصر أيضًا، مستعينًا بعلاقته القوية مع هذه الدول الثلاثة التي اكتسبها في السنوات الأخيرة.
علاقات قوية بين حميدتي والسعودية
سنة 2015، قبل السودان طلب السعودية واليمن إرسال قوات برية للمشاركة في حرب اليمن، بعد رفض دول عديدة ذلك الطلب، أرسل البشير قوات الدعم السريع التي يقودها حميدتي، فهي ذات خبرة كبيرة في حرب العصابات.
استغل حميدتي هذا الأمر للتقرب من السعوديين والإماراتيين، فقواته تعتبر حجر أساس القوات البرية المقاتلة في اليمن، كما تقرب أيضًا من الفريق أول عبد الفتاح البرهان المشرف العام على القوات السودانية في اليمن الذي يرتبط أيضًا بصلات مع السعودية والإمارات.
هذا النفوذ الكبير الذي اكتسبه حميدتي بفضل ميليشيا الجندويد، يريد استغلاله حتى يتمكن من حكم البلاد وتنفيذ أجندته هناك، بمعية تلك الدول العربية، فكل منهما لها مصلحة خاصة في السودان، إلا أن جميعها لا يخدم البلاد ولا أهلها.