لا حديث في تونس هذه الأيام إلا عن الحرائق التي تلتهم محاصيل القمح في مناطق عدة من البلاد، حرائق أثارت حفيظة غالبية التونسيين فهي تهدد أمنهم الغذائي والسلم الاجتماعي في البلاد، حتى إن البعض وصف ما يحصل بـ”الإرهاب الغذائي”.
حرائق في كل مكان
في محافظات الكاف وسليانة (شمالي غرب تونس)، أكبر المحافظات المنتجة للقمح، ما إن ينطفئ حريق حتى يشتعل آخر، حرائق كبرى طالت مساحات شاسعة من محاصيل القمح هناك، دفعت الدولة إلى تسخير كل إمكاناتها للتصدي لها وإخمادها.
وبفضل جهود رجال الإطفاء خُمدت نيران أغلب الحرائق التي اندلعت منذ الأسبوع الماضي في مناطق عدة بهذه المحافظات مثل منطقة العالية بمعتمدية السرس والزوارين وجامة، إلا أن نار القهر الكامنة في قلوب الفلاحين هناك بقيت متقدة لا تنطفئ.
ووفق جهات رسمية، سُجّل 63 حريقًا خلال الأسبوع المنقضي بين 4 و10 من يونيو/حزيران الحاليّ، أتت على 514 هكتارًا من محاصيل الحبوب في مختلف هذه المحافظات، وهو رقم غير مسبوق، وكانت تونس قد سجلت طيلة السنة الماضية 49 حريقًا في 103 هكتارات.
لم يتهم التونسيون جهات محددة بالوقوف وراء هذه الحرائق، إلا أنهم يعتقدون أن الغاية منها إرباك الوضع العام في البلاد
أكبر هذه الحرائق كانت بمنطقة العالية بمعتمدية السرس من محافظة الكاف الحدودية مع الجزائر التي اندلعت أول أمس الأحد، وأتى هذا الحريق الذي لا تزال أسباب نشوبه مجهولة على 120 هكتارًا تابعًا لديوان الأراضي الدولية و80 هكتارًا تابعًا لفلاحين خواص.
بدورها حذرت لجنة تفادي الكوارث وتنظيم النجدة في محافظة جندوبة (شمال غرب)، من إمكانية حدوث حرائق جديدة ودعت المواطنين وخاصة الفلاحين وساكني المناطق الغابية والجبلية إلى ضرورة أخذ الاحتياطات اللازمة من اندلاع محتمل لحرائق يتوقع أن تشمل عددًا من مزارع الحبوب والعلف وإحكام التنسيق والمراقبة والمتابعة المستمرة للتصدي لتسرب الحرائق من الغابات المتاخمة للشريط الحدودي التونسي الجزائري.
وبلغت المساحة المبذورة النهائية لموسم 2018/2019 نحو مليون و220 ألف هكتار منها 849 ألف هكتار بمحافظات الشمال و375 ألف هكتار بمحافظات الوسط والجنوب من مساحة مبرمجة قدرت بمليون و330 ألف هكتار لتكون نسبة الإنجاز 92%.
بفعل فاعل؟
ربط بعض المسؤولين التونسيين هذه الحرائق بالعوامل الطبيعية وارتفاع درجة الحرارة، إلا أن الملاحظ أن درجات الحرارة، حتى إن عرفت في الأيام الأخيرة ارتفاعًا ملحوظًا فهي لم تصل إلى درجة تجعلها تتسبب في اندلاع حرائق بهذا الحجم.
هذا المعطى جعل العديد من التونسيين يؤكدون أن الحرائق تمت بفعل فاعل، وأن بلادهم مستهدفة في أمنها الغذائي، في ظل وجود أيادٍ خفية تريد العبث بقوتهم، ذلك أن كل تلف في محاصيل الحبوب يساوي زيادة في واردات الغذاء وضغطًا إضافيًا على الميزان التجاري الذي يعاني بدوره، وتخصص تونس سنويًا معدل 600 مليون دينار لتوريد الحبوب من قمح لين وقمح صلب وشعير علفي وفق إحصاءات ديون الحبوب.
وكان مصدر من الحرس الوطني قد أكد لوكالة تونس إفريقيا للأنباء أن فرقة الأبحاث والتفتيش التابعة لمنطقة الحرس الوطني في سليانة تمكنت من القبض على كهل يبلغ من العمر 40 سنة يشتبه في تورطه في نشوب حريق، مساء الخميس 6 من يونيو/حزيران 2019، في منطقة جامة من معتمدية سليانة الشمالية وأتلف مساحة صغيرة من القمح، حيث سارع صاحب الصابة بالتدخل لإطفاء النيران قبل انتشارها إلى مساحة أوسع.
وبين المصدر ذاته أنه تم التحفظ على الأربعيني وما زالت الأبحاث جارية خاصة أن مقر سكنه بالقرب من مكان الحريق، مشيرًا بخصوص الحرائق التي نشبت في الأيام الأخيرة وأتلفت مساحة كبيرة من صابة القمح والشعير بسليانة، إلى أن الأبحاث ما زالت جارية، ففرضية اندلاعها بفعل فاعل على الأقل في بعضها غير مستبعدة.
كما لم يستبعد وزير الفلاحة سمير بالطيب وجود جهات وراء هذه الحرائق، رغم تغليبه احتمال وقوع هذه الحرائق نتيجة الارتفاع الكبير والمفاجئ لدرجات الحرارة في يونيو/حزيران التي تجاوزت المعدل لمثل هذه الفترة بعشر درجات، لتصل إلى 44 درجة.
تخصص تونس أموال طائلة لتوريد القمح
لم يتهم التونسيون جهات محددة بالوقوف وراء هذه الحرائق، إلا أنهم يعتقدون أن الغاية منها إرباك الوضع العام في البلاد خاصة أن تونس مقبلة على انتخابات تشريعية ورئاسية في خريف هذه السنة، من شأنها أن تعيد رسم الخريطة السياسية في البلاد.
كما يرى بعضهم الآخر أن السبب من وراء هذا الحراك، ضرب السلم الاجتماعي في المناطق التي تضم هذه المحاصيل الزراعية، ذلك أن الفلاح الذي يتلف محصوله الزراعي سيجد نفسه دون مورد رزق هو وعشرات العائلات، خاصة أن نسبة التأمين على الحرائق غير مرتفعة بسبب ارتفاع كلفة هذا النوع من التأمينات، ورفع الدولة الدعم عنها.
ولا تتعدى نسبة التأمين عند أغلب الفلاحين الـ30% من الأراضي المزروعة في حين تبقى بقية المساحة خارج دائرة التأمين، وهو ما يجعل الخسائر بالنسبة لهم أكبر، وفي السابق كانت الحكومة تدعم تأمين الأراضي الزراعية ضد الحرائق والبَرَد بنسبة 50% قبل أن يتم وقف الدعم عام 2014.
ويمثل موسم حصاد القمح مصدر رزق لآلاف العائلات في مناطق مختلفة من محافظات تونس، كما يخلق الحصاد حركة تجارية واقتصادية كبيرة في هذه المناطق التي تصنف ضمن المحافظات الأقل تنمية في البلاد.
طائرات دون طيار للمراقبة
انتشار الحرائق بهذه الطريقة غير المسبوقة والشكوك الكبيرة في وجود أطراف تسببت فيها، دفع الحكومة التونسية إلى إعلان استخدام طائرات دون طيار لتأمين المحاصيل والحد من تداعيات هذه الحرائق، التي أتت على آلاف الهكتارات في البلاد في وقت وجيز.
وأعلن وزير الفلاحة التونسي سمير الطيب، أمس الإثنين، أنه سيتم لأول مرة استعمال الطائرات دون طيار لتأمين محاصيل الحبوب ومراقبة المتسببين الفعليين في اندلاع الحرائق، وذلك بعد أن دربت الوزارة 40 شابًا على قيادة هذه الطائرات، وفق قوله.
يؤكد العديد من التونسيين، فشل حكومة بلادهم في حماية المنظومات الزراعية وزيادة صلابة القطاع وتعزيز مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي واستقطاب الاستثمارات
أضاف الطيب أن الطائرات دون طيار ستحلق على امتداد مساحات حقول الحبوب في المحافظات المعنية لتأمين المحاصيل، وحتى يتحمل كل مسؤوليته في اندلاع الحرائق سواء كانت بفعل فاعل وبدافع إجرامي أم سهوًا عن طريق خطأ بشري بإلقاء السجائر مثلًا، بحسب تعبيره.
وأوضح الوزير أن هذا العمل سيكون بالتنسيق مع وزارة الدفاع الوطني ووزارة الداخلية، مشيرًا إلى أن اجتماعًا سيعقد غدًا الأربعاء، سيجمعه مع وزير الداخلية هشام الفوراتي بخصوص موضوع الحرائق التي طالت آلاف الهكتارات.
الحكومة في قفص الاتهام
لم تنج حكومة يوسف الشاهد، من اتهامات التونسيين، فقد اتهم العديد منهم وزراءها بالتركيز على العمل الحزبي والاستعداد للانتخابات القادمة، وهو ما يفسر عجزهم عن مواجهة هذه الكوارث التي تهدد أمن تونس الغذائي وسلمها الاجتماعي.
ويؤكد العديد من التونسيين، فشل حكومة بلادهم في حماية المنظومات الزراعية وزيادة صلابة القطاع وتعزيز مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي واستقطاب الاستثمارات، رغم الوعود المتكررة بمعالجة الصعوبات التي يتعرض لها المزارعون وخصوصًا المخاطر ذات الصلة المباشرة بالإنتاج وبالتمويل، وزيادة حجم الاستثمارات في هذا القطاع الحيوي.
يتهم تونسيون سلطات بلادهم بالتقصير والعجز في حماية محاصيل القمح
استغرب تونسيون، عدم دعوة رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي، إلى جلسة لمجلس الأمن القومي لمعالجة هذه الأوضاع، خاصة أنه سبق الدعوة له في مرات عدة لمعالجة مشاكل تقل خطورتها عن مسألة حرائق محاصيل الحبوب.
تضع هذه الحرائق المتتالية محصول القمح في خطر، وكانت وزارة الفلاحة قد قدرت حجم المحاصيل لهذا العام بنحو 20 مليون قنطار من القمح مقابل 13 مليون قنطار العام الماضي، وهي كمية استثنائية ستمكن تونس من الحد من العجز التجاري.