منذ أن قررت اللجنة العليا للانتخابات في تركيا إعادة الاقتراع في إسطنبول، وأعين العالم متركزة على المتنافسين الرئيسيين: مرشح حزب العدالة والتنمية وتحالف الشعب بن علي يلدريم ومرشح حزب الشعب الجمهوري وتحالف الأمة أكرم إمام أوغلو، إذ كان يظن العالم قبل هذا القرار أن البلاد لن تشهد أي حملات انتخابية أخرى إلا بعد 4 سنوات تقريبًا، إلا أنها في غضون شهر تقريبًا، عادت من حيث أتت، لتستعد البلاد مجددًا لخوض مرحلة انتخابية أكثر توترًا وأشد صعوبةً من قبل.
اتضح ذلك من خلال المناظرة التاريخية التي ظهر فيها المرشحان أمام الملايين في برنامج تليفزيوني على مدى 3 ساعات تقريبًا وقبل أسبوع واحد فقط من الانتخابات، وكل منهما استغل هذا الوقت من أجل التعريف بخططه ووعودهم الانتخابية، أملًا بالتأثير على الناخبين المترددين والمقاطعين للانتخابات، وسعيًا لجذب شرائح أخرى من الأصوات التي ستعبد له الطريق نحو السلطة. فما أهم تلك المشاريع والخطط الانتخابية؟
أولًا: ملف اللاجئين السوريين
لطالما شغلت هذه القضية حيزًا واسعًا من اهتمام الحكومة التركية، واعتبرت إلى حد كبير ورقة انتخابية قوية ورابحة، فمع تزايد أعداد السوريين في البلاد – يشكلون 4.39% من تعداد سكان تركيا -، انقسم الشارع التركي بين مساند ومعارض لموقف الحكومة التركية (حزب العدالة والتنمية) في استقبال السوريين وإدماجهم في المجتمع وتقديم التسهيلات لهم، وسط جميع الانتقادات والاتهامات التي تنظر إلى السوري على أنه عبء على الاقتصاد التركي ودخيل على ثقافة البلاد.
قال إمام أوغلو إن حزبه ينوي تأسيس لجنة خاصة بإدارة شؤون اللاجئين ضمن سياسات واضحة، وتحديدًا فيما يتعلق بالنساء وزواج الأطفال
وتبعًا لذلك، خلفت الأزمة السورية صراعات داخلية حادة بين الأحزاب واستطاعت من خلالها التلاعب بمشاعر الناخبين ومواقفهم في أكثر من حادثة، ينطبق ذلك أيضًا على هذه الانتخابات التي وضّح فيها كل مرشح وجهة نظره الخاصة بشأن هذه المسألة الحساسة وكيفية التعامل مع 546 ألف و182 لاجئ سوري.
في هذا الخصوص قال إمام أوغلو: “لم ندر قضية اللاجئين جيدًا”، وأضاف أنه ليس من الصواب تبرير ذلك بالعواطف والمبادئ الإنسانية، مشيرًا إلى وجود ما يقرب من مليون شخص غير مسجل بشكل رسمي، ومن أجل حل هذه المشكلة أفاد بأن حزبه ينوي تأسيس لجنة خاصة بإدارة شؤون اللاجئين ضمن سياسات واضحة، وتحديدًا فيما يتعلق بالنساء وزواج الأطفال، إلى جانب ذلك، ذكر أن هذه اللجنة سوف تتابع الأخطاء والقصور المحتملة لتحسين الأداء وتقديم الدعم اللازم.
أما يلدريم، قال: “هرب هؤلاء من الموت ولجأوا إلينا لإنقاذ حياتهم وقد استضفناهم وفقًا لتقاليدنا ومعتقداتنا. نحن أصحاب البيت وهم مهاجرون في وضع الحماية المؤقتة ويحصلون على جميع الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة”، مضيفًا أن تركيا لم تحصل على الدعم الكافي لإدارة هذه الأزمة رغم الوعود التي قطعتها الدول الغربية، ورغم الموقف المتسامح تجاه السوريين، فإن الحكومة سوف تتخذ الإجراءات اللازمة بحق من يثير الفوضى ويتجاوز القوانين، ويشمل ذلك ترحيله إلى بلاده.
ثانيًا: الشباب ومواصلات النقل
بالنسبة لهذا الموضوع، ركز إمام أوغلو على أن الأولوية يجب أن تكون للشباب والأطفال في آن واحد، مشيرًا إلى خطته في متابعة مسيرتهم التعليمية التي يجب أن تنتهي بالحصول على الوظيفة بعد المرحلة الجامعية، كما ذكر أنه سيكون هناك خصومات على المراكز الفنية والثقافية والرياضية بنسبة 40%، وسيقدم منح دراسية لمن يأتون إلى إسطنبول، ويشمل ذلك إنشاء 10 مراكز ثقافية و10 مراكز لغوية وقرية لتعليم مهارات الحياة، إضافة إلى آلاف الوظائف التي سيوفرها للشباب.
يضيف إلى ذلك، أنه سوف يستغل أموال البلدية دون إهدار من أجل تخفيض نسبة البطالة التي تتجاوز الـ15%، سوف يقدم الدعم المالي للعائلات التي تعيش تحت خط الجوع، وسيقدم حزم الدعم التعليمي ودعم البطالة، لا سيما بالنسبة للشباب الذين تقل أعمارهم عن 25 عامًا.
ذكر يلدريم أن طلاب الجامعة سوف يستفيدون من خصومات أسعار وسائل النقل، أما بالنسبة للعاطلين عن العمل والمعلمين سوف تكون مجانية
وفيما يتعلق بوسائل النقل، يرى إمام أوغلو أن إسطنبول تنفق في المتوسط 91 دقيقة في حركة التنقل، فهي واحدة من أكثر مدن العالم ازدحامًا، ولحل هذه الأزمة اليومية، سوف يبني 500 كيلومتر من الطرق المخصصة للدراجات واستبدال خط المتروباص بوسيلة أكثر سرعة واستيعابًا لاكتظاظ إسطنبول.
أما بن علي، فلقد أشار في أثناء حديثه بأنه سوف يقدم للشباب 10 جيجا بايت حزمة إنترنت مجانًا، ما يمنكهم من استخدام الشبكة الافتراضية لنحو 150 ساعة، وأضاف أن المتاحف والمسارح سوف تكون مجانية أيضًا، كما سيتم تأسيس مراكز رياضية لهم أيضًا وستكون مجانية، إلى جانب ذلك، أفاد بأن مرورهم على جسري البوسفور ومحمد فاتح سوف يكون أيضًا مجانيًا لسائقي الدراجات النارية.
وبطبيعة الحال، ذكر أن طلاب الجامعة سوف يستفيدون من خصومات أسعار وسائل النقل، أما بالنسبة للعاطلين عن العمل والمعلمين سوف تكون مجانية، وفيما يتعلق بحركة المرور، قال إن الناس سوف تكسب نصف ساعة يومية خلال تنقلها اليومي، وذلك باستخدام أنظمة السكك الحديدية واستبدال خطوط النقل التقليدية بوسائل ذاتية التحكم تعتمد على الذكاء الاصطناعي.
ثالثًا: تمكين المرأة في إسطنبول
في هذا الجانب، قال يلدريم: “هناك زيادة كبيرة في مشاركة المرأة التركية في الحياة التجارية، فهي تقوم بدور نشط للغاية في المجتمع، ونلاحظ ذلك من خلال زيادة حضورها في الساحة السياسية وتفوق عدد الطالبات على الطلاب الذكور في الجامعات”، مشيرًا إلى أن عدد القاضيات يساوي عدد الرجال تقريبًا، ولكن الحكومة تحتاج إلى التركيز على ربات البيوت اللواتي يحتجن للاختلاط أكثر بالمجتمع.
ولذلك يرى يلدريم أن الوسيلة الأنسب لذلك هو دعم المنتجات والمشغولات المصنوعة يدويًا وتقدم منحة لكل أسرة بمبلغ ألف ليرة تقريبًا، كما ينوي إنشاء 955 حضانة للأطفال في 300 حي ومنطقة، لتتمكن الأمهات من ترك أطفالهن دون قلق، وتحقيق ارتفاع أكبر في نسبة المشاركة كما فعلت في آخر 16 عامًا، فبحسب قوله، ارتفعت نسبة المشاركة النسائية من 21% إلى 34%.
بالنسبة لمرشح حزب الشعب الجمهوري، فلقد ذكر بدوره أنه ينوي أيضًا إنشاء 150 روضة أطفال ومكاتب للعمالة والتقاعد مخصصة لهن، وجمعيات حماية ودعم لهن ولأطفالهن، حفاظًا عليهن من العنف والاستغلال الجنسي وسوء المعاملة، كما قال إن للأمهات اللواتي لديهن أطفال تحت سن الرابعة، سوف تكون وسائل النقل لهم مجانية.
رابعًا: الفقر الحضري
في هذا الشق، وعد يلدريم بتوفير 500 ألف وظيفة في المشروعات التي تسعى الحكومة لتنفيذها خلال 5 سنوات، على سبيل المثال، سوف ينشئ حزبه واديًا للتكنولوجيا الحية، يحتوي على 160 مصنعًا، ومن خلاله ستتمكن إدارته من توفير فرص عمل لـ50 ألف شخص وبالتالي تحقيق أرباح اقتصادية بقيمة 27 مليار دولار، إضافة إلى إنشاء مركز للبحث والتطوير المشابه للمراكز الموجودة في سنغافورة.
يكمل يلدريم حديثه عن الخطط ويقول: “سنحول مطار أتاتورك إلى حديقة وطنية ومركزًا للمعارض والمؤتمرات، وبذلك سوف نستفيد 10% من سياحة المؤتمرات التي تبلغ قيمتها 40 مليار دولار”.
نلاحظ أن كلا المرشحين حاولا بشكل واضح التركيز على حل المشاكل الاقتصادية التي يعاني منها سكان مدينة إسطنبول، وخاصةً فئة الطلاب والشباب والأمهات
وكالعادة، ركز إمام أوغلو في حديثه على مشكلة الإسراف والإهدار التي اتهم بها حزب العدالة والتنمية مرارًا، وقال: “دون إهدار أموال البلدية، سوف نكافح الفقر في هذه المدينة من خلال توفير الطعام بأسعار مناسبة، وتقديم خصومات في وسائل النقل والخدمات التعليمية”، مضيفًا أن دعم البلدية سوف يصل إلى مساعدة المتزوجين حديثًا، ولم ينس العائلات التي تعاني من الفقر، ووعد بتقديم مساهمات مالية بمقدار 2000 ليرة، ولتخفيف هذه المشكلة في المقام الأول، ستعمل البلدية على توفير عمل لـ200 ألف شاب عاطل.
بالنهاية، نلاحظ أن كلا المرشحين حاولا بشكل واضح التركيز على حل المشاكل الاقتصادية التي يعاني منها سكان مدينة إسطنبول، وخاصةً فئة الطلاب والشباب والأمهات، وهي المسائل التي ركز عليها مرشح حزب الشعب الجمهوري سابقًا في الحملة الانتخابية الأولى، على خلاف مرشح حزب العدالة والتنمية الذي اعتمدت دعايته الانتخابية الأولى على المشاريع الاستراتيجية والمشروعات الصديقة للبيئة والمهتمة بمبادئ ومعايير المدن الذكية والمبتكرة، ولكنها على ما يبدو لم تلائم تطلعات جزء وازن من المواطنين الأتراك الذين لا يزالون يبحثون عن الاحتياجات الأساسية مثل التعليم والعمل والمواصلات المريحة، ما استدعى من العدالة والتنمية إعادة دراسة تكتيكاته وخطابه الانتخابي استجابة لتلك التطلعات.