عرفت بلاد شنقيط العديد من الفنون التي ارتبط اسمها بها، من ذلك الموسيقى الحسانية أو موسيقى البيضان التي جمعت بين الموسيقى العربية والإفريقية فوق الأراضي الموريتانية، مشكلة لوحة إبداعية تريح القلب وتسر الأنفس عند سماعها.
تعبير عن المجتمع الصحراوي
يتمتع الشعب الموريتاني بتنوع كبير في الأنشطة الموسيقية تنوعًا يوازي تنوع البلد العرقي والاجتماعي، إلا أن غالبيته اجتمعوا حول موسيقى “إيكاون” أو ما يعرف أيضًا بموسيقى الحسانية، فهي موسيقى شعبية تحترم وتستقبل جميع الأوساط.
تعرف هذه الموسيقى أيضًا بموسيقى البيضان نسبة إلى إقليم البيضان الذي يمتد شمالاً من وادي درعة في جنوب المغرب إلى نهر السنغال ونهر النيجر جنوبًا، ومن جبال إفوغاس شرقًا إلى المحيط الأطلسي غربًا، ويضم هذا الإقليم مجموعة لها نفس العادات والتقاليد ونفس نمط اللباس ومن مميزاتهم كذلك شكل الراحلة واللثام الأسود.
يستخدم هذا الفن العديد من الآلات الموسيقية التقليدية التي كان لها الدور الكبير في وصوله إلى الدرجة التي هو عليها الآن
تعكس هذه الموسيقى حياة الصحراويين، فهي تُعد عند رُحل الصحراء المُنتمين لمجتمع البيضان شكلاً من أشكال التعبير الفني عن حياة الترحال التي يمارسونها، وما ينعكس على مخيلتهم من رؤى فكرية وتأملات للوجود الصحراوي، فهي بذلك لوحة رسم، إطارها الحياة وأشخاصها المعاني وألوانها الألحان.
مزيج ساحر بين الموسيقى العربية والإفريقية
التقاء البربر بالعرب القادمين من الحجاز وقبائل بني حسان والقادمين من الأندلس، والتقائهم أيضًا بالمكون الإفريقي الذي رسخ وجوده داخل الثقافة الحسانية هناك، أدى إلى تفاعل كبير بين هذه المكونات ما أنتج بيئة خصبة لتطور الفن الحساني.
مزجت هذه الموسيقى الساحرة بين الموسيقى الإفريقية والعربية (خاصة الأندلسية وشمال إفريقيا)، فهي بذلك بمثابة خليط خاص من النغمات الموسيقية ذات طابع بنيوي، زادته شاعرية سكان الصحراء روعة على روعتها.
تظهر بصمات العنصر الإفريقي في الموسيقى الحسانية جلية في الإيقاع الذي يكون مصدره مجموعة من الآلات الموسيقية التقليدية يعزف عليها الفنان الذي يعرف باسم إيكيو”، وفق نظام صوتي متناغم يعرف بـ”آزوان”، أما العنصر العربي فيظهر غالبًا من خلال الكلمات أو من خلال من خلال إيقاع “الطبل”.
آلات رئيسية وأخرى تكميلية
يستخدم هذا الفن العديد من الآلات الموسيقية التقليدية التي كان لها الدور الكبير في وصوله إلى الدرجة التي هو عليها الآن، وتنقسم هذه الآلات التي تصنعها طبقة الحرفيين (الصناع) إلى صنفين: آلات موسيقية رئيسية وآلات موسيقية مكملة.
تتمثل الآلات الرئيسية في آلة التدنيت وآلة آردين، ونعني بآلة التدنيت تلك الآلة الموسيقية التي تتكون من طبل مصنوع من الخشب وعليه طبقة من جلد الغنم وعود من الخشب مصنوع من شجرة محلية تدعى التيدوم، ولها أوتار تدعى الأعصاب كانت قديمًا تصنع من ذيول الخيل أما الآن فتصنع من نفس مكونات الأوتار العصرية.
يختص في عزف هذه الآلة الموسيقية التقليدية الرجال الفنانين وهي آلة تحليلية تستطيع أن تعطي أجزاءً دقيقة من النغمة الموسيقية، وخالية من الملاوي الموجودة في العود العربي رغم احتفاظها ببعض خصائصه الشكلية.
تظهر الطبقية في ألوان أخرى من الموسيقى الحسانية، كالمديح النبوي الذي بقي حكرًا على طبقة الحراطين
أما آلة الآردين التي اختصت المرأة بالعزف عليها فهي تتكون أيضًا من طبل مصنوع من مادة خشبية يلف بجلد مدبوغ وبعد أن يصبح كهيئة الطبل التقليدي يؤخذ فيجعل عليه عود من الخشب ليس بالرقيق ولا بالغليظ مصنوع من شجرة التيدوم يقسم سطح الطبل الدائري إلى نصفين، ولها أوتار تنقسم إلى قسمين: أعصاب طويلة تتسمى “أتشبطن” وأعصاب قصيرة تسمى “لمهار”.
إلى جانب هذه الآلات الرئيسية نجد آلات موسيقية مكملة، تحسن من رونق النغم، وهي الطبل والنيفارة أي المزمار والربابة، ونعني بالطبل تلك الآلة الإيقاعية على شكل دائرة قطرها نحو نصف متر وهو مشكل من قطعة واحدة من الخشب مغطاة بجلد بقرة.
يرمز الطبل في المجتمع الموريتاني التقليدي للسيادة، وله دور اجتماعي كبيير، حيث يكون في العادة في حوزة رئيس القبيلة أو أميرها وتوزع بواسطة صوته الأوامر والإعلانات كقرب الحرب أو ضياع الحيوانات أو الأشخاص أو الرحيل، ويساهم في الاحتفالات والأفراح وهو رمز لاجتماع الجنسين لذلك يستحي الصغار من ذكره بالاسم أمام الكبار وله متخصصون في ضربه وفي حل شفرة صوته.
تعتبر الطبلة عنصرًا مهمًا في موسيقى الحسانية
أما النيفارة فهي آلة نفخ موسيقية كالمزمار وتتخذ من عصا على طول المتر تقريبًا مجوفة إلى نصفها وبها ثقوب، فيمسكها النافخ وينفخ فيها فتصدر أصواتًا يتحكم فيها بوضع أصابعه على الثقوب. تضيف هذه الآلة النفخية بعدًا آخر إلى الموسيقى الحسانية نظرًا لارتباطها بحياة الرعي وقوافل الصحراء.
في خصوص الربابة، فهي نفسها المعروفة عن العرب، أي تلك الآلة الموسيقية العربية القديمة ذات الوتر الواحد، التي تصنع من أدوات بسيطة متوافرة لدى أبناء البادية كخشب الأشجار وجلد الماعز.
استقراء الجذور والنسب
لأداء هذا الفن طقوس معينة تمنحه هيبة كبيرة نظرًا لمكانته المهمة لدى الصحراويين، حيث تعد الخيمة الصحراوية المكان المناسب لكل نشاط غنائي حساني بما يرافق ذلك من ذبح الذبائح وإعداد اللحوم المشوية وتوزيع حليب النوق والشاي الصحراوي الذي يعد من العادات المتأصلة في الصحراء.
اكتساب الغناء الحساني في المجتمعات الصحراوية المغلقة كان لسنين طويلة عن طريق الوراثة وفي مجال عائلي ضيق ومحتكر، فهي تمارَس عادة كتقليد عائلي يستمر ويُعلم داخل إطار العائلة وروابط الدم، أي أنها تتخذ شكل الميراث.
هذا الأمر جعل أشكالها ووظائفها تتنوع حسب اختلاف النسب والجذور، فنجد عائلات تخصصت في المدح النبوي وأخرى اشتهرت بكونها من الرواد في العزف على التيدنيت والآردين، فيما تمكنت أسر أخرى من الشعر الغنائي وتفننت في ضروبه مثل المدح أو الغزل أو الحماسة.
ترسم الموسيقى الحسانية خريطة جينية يمكن من خلالها استقراء الجذور والنسب وفهم التنوع الموسيقي حسب تقاليد كل عائلة، كأن نتتبع المديح مع عائلة الميداح، ونرى عائلة إنكذي تتفرد على البقية بخاماتها الصوتية فيما تتميز عائلة البيبان بجودة العزف.
تكريس للطبقية
رغم حلاوتها والسحر الصادر عنها، فإن من أشد مساوئ هذه الموسيقى تكريسها للطبقية، فهي ترتب مجتمع الموسيقيين في موريتانيا طبقيًا، بحيث تختص كل طبقة بمهام موسيقية معينة أو لون غنائي، فالآلات الموسيقية تصنعها طبقة الحرفيين الصناع التي تأتي خلف طبقة الفنانين “إيكاون” في سلم الترتيب الطبقي عند المجتمع البيضاني، فيما توكل مهمة الرقص وتمثيليات التشخيص داخل عالم الخيمة الصحراوية إلى طبقة المعلمين أو الحدادين و”المشاقيل” كما يسمون في موريتانيا.
تظهر الطبقية في ألوان أخرى من الموسيقى الحسانية كالمديح النبوي الذي بقي حكرًا على طبقة الحراطين الذين يختلفون عن الإيكاون بحكم الصدام التاريخي الذي طالما حكم العلاقة بين رجال الدين وطبقة الفنانين الذين مارسوا الموسيقى بشكل مختلف عن المديح.