وجهت قوات حكومة الوفاق الليبية المعترف بها دوليًا ضربة قاصمة لقوات خليفة حفتر الموالية لبرلمان طبرق (شرق)، بعد إحكامها السيطرة بشكل خاطف ومفاجئ على مدينة غريان الإستراتيجية الواقعة على بعد 100 كيلومتر إلى الجنوب الغربي من العاصمة طرابلس، التي تعد القاعدة الخلفية الرئيسة للواء في معاركه جنوب العاصمة.
سقوط أهم معاقل قوات حفتر في غرب ليبيا، أثار جدلًا واسعًا عن القوة المزعومة التي يمتلكها اللواء المتقاعد والسيناريوهات المطروحة بعد فشله في اختراق حصون العاصمة رغم مرور نحو 3 أشهر (منذ الـ4 من أبريل/نيسان الماضي) على إطلاقه عملية عسكرية قصد الإطاحة بالحكومة الشرعية.
وأثارت صور لآليات مدمرة لقوات حفتر وعدد من جنوده وهم يخضعون للاستجواب من عناصر قوات الوفاق، صدمة لدى الموالين والداعمين للواء على حد سواء، حيث كشف آمر حماية غرفة العمليات الرئيسية التابعة لقوات حفتر في مدينة غريان، المقدم علي محمد الشيخي، في أثناء استجوابه من قوات حكومة الوفاق، أن عددًا من العسكريين الفرنسيين والإماراتيين شاركوا في إدارة العمليات العسكرية على طرابلس من داخل غرفة العمليات بالمدينة.
أبو ظبي جاهرت في مناسبات عدة بمساندتها لقوات شرق ليبيا، وكان آخرها تصريح لوزير الشؤون الخارجية أنور قرقاش أكد فيه دعم بلاده لهجمات مليشيا قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر على العاصمة الليبية طرابلس
وفي سياق ذي صلة، اعتبر الكاتب بصحيفة لوموند الفرنسية، فردريك روبين، أن نكسة قوات حفتر في غريان غيرت قواعد اللعبة، إذ مثلت “انقطاعًا في سلسلة القيادة العسكرية” لهذه القوات في محيط طرابلس، مضيفًا أن الانتكاسة الحقيقة تمثلت في انزعاج داعميه الإقليميين وبالذات الإمارات العربية المتحدة ومصر والسعودية من الهزيمة، خاصة أنه أقنعهم بأن “تحرير” العاصمة لن يتطلب إلا بضعة أيام.
نكوص إماراتي
ورغم أن أبو ظبي جاهرت في مناسبات عدة بمساندتها لقوات شرق ليبيا، وكان آخرها تصريح لوزير الشؤون الخارجية أنور قرقاش أكد فيه دعم بلاده لهجمات مليشيا قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر على العاصمة الليبية طرابلس، واصفًا حكومة الوفاق المعترف بها دوليًا بـ”الإرهابية”، فإن صور الأسلحة التي تحمل اسمها وخلفتها قوات حفتر وراءها في أثناء هروبها من مدينة غريان، دفعها لنفي علاقتها بتسليح قوات شرق ليبيا عبر بيان رسمي.
تنصل الإمارات من مسؤولية دعم حفتر بالسلاح جاء بالتزامن مع إرسال رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ روبرت مندينيز، رسالة لوزير الخارجية مايك بومبيو، تطالبه بالتحقيق في صفقات السلاح بين واشنطن والإمارات
ونقلت وكالة الأنباء، عن إدارة التعاون والأمن الدولي بوزارة الخارجية والتعاون الدولي على صفحتها على تويتر، أن الإمارات “تنفي ملكية الأسلحة التي تم العثور عليها في جمهورية ليبيا، وتؤكد التزامها بقراري مجلس الأمن رقم 1970 و1973 بشأن العقوبات وحظر السلاح“، مؤكدة التزامها بالتعاون الكامل مع لجنة الخبراء التابعة للأمم المتحدة، وحثت على خفض التصعيد وإعادة الانخراط في العملية السياسية التي تقودها الأمم المتحدة.
تنصل الإمارات من مسؤولية دعم حفتر بالسلاح جاء بالتزامن مع إرسال رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ روبرت مندينيز، رسالة لوزير الخارجية مايك بومبيو، تطالبه بالتحقيق في صفقات السلاح بين واشنطن والإمارات، على خلفية تقارير بإرسال الأخيرة أسلحة أمريكية إلى ليبيا، وحذر السيناتور الديموقراطي إدارة ترامب قائلاً: “أنتم لا شك تعلمون أنه إذا ثبتت صحة هذه المزاعم، فربما يتعين عليكم قانونًا إلغاء جميع مبيعات الأسلحة إلى الإمارات”.
فيما أوردت صحيفة نيويورك تايمز، أن تحقيقات بدأت في وزارتي الخارجية والدفاع الأمريكيتين بشأن كيفية وصول أسلحة أمريكية متطورة إلى يد قوات اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر.
وكانت قوات حكومة الوفاق المعترف بها دوليًا، قد عرضت لوسائل الإعلام نماذج من الأسلحة (4 صواريخ غافلين)، التي تمكنت من السيطرة عليها خلال الاستيلاء على مدينة غريان من قوات حفتر الذي يشن هجومًا على طرابلس، وأكدت نيويورك تايمز أن العلامات المكتوبة على حاويات الصواريخ تشير إلى أنها بيعت في الأصل إلى دولة الإمارات عام 2008، وأنها من صنع “رايثون” و”لوكهيد مارتن” الأمريكيتين.
استرجاع مدينة غريان التي تتميز بموقع إستراتيجي من قوات الوفاق سيخلط الأوراق من جديد في ليبيا، وسيدفع داعمي حفتر إلى إعادة حساباتهم على أكثر من صعيد
تقارير تسليح أبو ظبي لقوات اللواء المتقاعد ليست الأولى من نوعها، ففي أبريل الماضي بحث خبراء أمميون فيما إذا كانت الإمارات ضالعة عسكريًا في النزاع الليبي، وذلك بعد أن أطلقت صواريخ جو-أرض من طراز “بلو آرو”، من طائرات دون طيار صينية الصنع يمتلك مثلها الجيش الإماراتي، إضافة إلى إسقاط قوات حكومة الوفاق لطائرة مسيرة تحمل علم الإمارات، بمحور السواني (30 كيلومترًا جنوب غربي طرابلس).
وسبق أن أفاد تقرير صدر عن الأمم المتحدة في 2017، أن الإمارات قدمت لقوات حفتر دعمًا عسكريًا ولوجيستيًا شمل طائرات ومركبات عسكرية، كما أعادت أبو ظبي بناء قاعدة جوية في منطقة الخادم في بنغازي، إضافة إلى قاعدة أخرى في “الخروبة” على بعد 100 كيلومتر جنوب غربي حقل السرير النفطي.
البديل الإماراتي
في مقابل ذلك، فإن استرجاع مدينة غريان التي تتميز بموقع إستراتيجي (تطل على جبل نفوسة الذي يربط بين غرب ليبيا وجنوبها) من قوات الوفاق سيخلط الأوراق من جديد في ليبيا، وسيدفع داعمي حفتر إلى إعادة حساباتهم على أكثر من صعيد، والبحث عن خيارات أخرى بعد فشل حفتر عسكريًا.
كشفت تقارير إعلامية أن الإمارات طلبت من سفير ليبيا السابق لديها وحليفها التقليدي “عارف النايض” أن يعود إلى بنغازي ويبدأ في تشكيل حكومة جديدة يتم تقديمها على أنها بديل محتمل في الفترة المقبلة
ومن المعلوم أن دولة الإمارات تعتمد سياسة التعامل بأكثر من وجه فيما يتعلق بالشأن الليبي، إذ تعترف إعلاميًا ورسميًا بالحكومة المعترف بها دوليًا برئاسة فايز السراج، فيما تدعم مليشيات خليفة حفتر عسكريًا ولوجستيًا، ويعود ازدواج المعايير إلى رغبة أبو ظبي في التحكم بالملف الليبي عبر كل الأدوات والأساليب المتاحة، بدءًا بالإسناد المادي والعسكري لحفتر إلى استدراج المبعوث الأممي السابق برناردينو ليون ليخدم أجندتها، مرورًا بدعم سياسيين وإعلاميين ليبيين وعلى رأسهم محمود جبريل.
لذلك ستعمل الدولة الخليجية على الدفع بوجوه أخرى لتصدر المشهد في ليبيا، حيث كشفت تقارير إعلامية أن الإمارات طلبت من سفير ليبيا السابق لديها وحليفها التقليدي “عارف النايض” أن يعود إلى بنغازي ويبدأ في تشكيل حكومة جديدة يتم تقديمها على أنها بديل محتمل في الفترة المقبلة.
وخيار الاستغناء عن اللواء المتقاعد خليفة حفتر من الإمارات، مطروح بقوة في الآونة الأخيرة لعدة أسباب، أهمها ثقل تكلفة الحرب على أبو ظبي خاصة أن مصر تلعب دور الوسيط في إدخال المعدات، والأخيرة تُعاني أزمة اقتصادية واجتماعية حادة وليس لديها إمكانات مالية لتمويل حفتر، إضافة إلى الضغوط الدولية المرتقبة وخاصة من إدارة ترامب التي تواجه هي الأخرى انتقادات واسعة على صفقة بيع أسلحة إلى السعودية والإمارات بقيمة 8.1 مليار دولار، من أجل وقف دعم عمليات اللواء التي تستهدف العاصمة طرابلس.
سقوط غريان وإن لم يعن الهزيمة النهائية لقوات حفتر في معركة طرابلس، إلا أنه كشف مدى هشاشة قواته وزيف الصورة التي روج إليها داعموه
والأهم من ذلك، فإن الإمارات لن تُجازف بخسارة مساعيها دفعة واحدة، وستحاول فرض انحيازها لأحد أطراف الصراع في ليبيا بوجوه جديدة وآليات أخرى، ضمن الاتجاه العام للسلطات الإماراتية بدعم موجة الثورات المضادة للربيع العربي، وحربها على تجربة الإسلام السياسي.
تخبط عشوائي
تحرير غريان وإن لم يعن الهزيمة النهائية لقوات حفتر في معركة طرابلس، إلا أنه كشف مدى هشاشة قواته وزيف الصورة التي روج لها داعموه، رغم سعيها إلى التخفيف من حدة النكسة التي منيت بها من خلال توجيه الاتهامات إلى تركيا بزعم مشاركتها إلى جانب قوات حكومة الوفاق في عمليات التحرير، إضافة إلى مطالبتها بالقبض على أي تركي موجود على الأراضي الليبية، كما جاء على لسان الناطق الرسمي باسم قوات حفتر أحمد المسماري.
وبدورها، أثارت عملية الإفراج عن الأتراك الـ6، بعد تهديد أنقرة بتدمير مقرات حفتر وقواته في أنحاء ليبيا، ودعوات لإغلاق كل المحلات التي تحمل اسم تركيا، سخرية واسعة مما وصفه الناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي بتخبط حفتر بعد هزيمته الأخيرة.
يبدو الحسم العسكري في العاصمة طرابلس والمناطق المحيطة بها، الخيار الوحيد للطرفين المتصارعين في ليبيا لحكم البلاد، فحكومة الوفاق ترفض أي مقترح لحل الأزمة يكون فيه حفتر طرفًا فيها خاصة بعد السقوط الدراماتيكي لقواته في غيريان، وستسعى لإلحاق هزائم متتالية به وفي مناطقه (الجنوب)، والأخير لن يقبل بأي حل سياسي، فسمعته الداخلية والخارجية على المحك، ولن يرضى بأن يكون أسيرًا للمرة الثانية بعد أولى في تشاد.