توصّل المجلس العسكري الانتقالي في السودان وقوى إعلان الحرية والتغيير لاتفاق بينهما بعد أسابيع من الشدّ والجذب، يقضي بتقاسم للسلطة خلال فترة انتقالية تقود إلى انتخابات، حتى ينتهي المأزق السياسي الذي تعيش على وقعه البلاد منذ فترة.
مجلس سيادي بالتناوب
يقضي هذا الاتفاق الذي توصل له الطرفين في اليوم الثاني من المفاوضات على “إقامة مجلس للسيادة بالتناوب بين العسكريين والمدنيين ولمدة ثلاث سنوات أو تزيد قليلاً”، وفق وسيط الاتحاد الإفريقي، محمد حسن لبات.
سبق أن انهارت المحادثات بين المجلس العسكري الانتقالي وقادة الاحتجاجات في مايو/أيار الماضي بسبب الخلاف على تشكيلة الإدارة التي ستحكم البلاد في المرحلة الانتقالية، وإذا كان ستقود هذه الإدارة شخصية مدنية أم عسكرية، وتبادل الطرفان اتهامات بالرغبة في الهيمنة على أجهزة السلطة المقترحة للمرحلة الانتقالية.
ووفقًا للخطة الانتقالية التي أعدها الوسيطان الإفريقي والإثيوبي فإن “المجلس السيادي” سيرأسه في البداية أحد العسكريين لمدة 18 شهرًا على أن يحل مكانه لاحقًا أحد المدنيين حتى نهاية المرحلة الانتقالية.
فضلا عن مجلس السيادة اتفق الطرفان على تشكيل “حكومة مدنية سميت حكومة كفاءات وطنية مستقلة برئاسة رئيس وزراء”
سيضم “المجلس السيادي” المتفق عليه، ثمانية مدنيين وسبعة عسكريين، بحسب الخطة الانتقالية التي أعدّها الوسيطان، وسيكون “تحالف الحرية والتغيير” ممثّلاً بسبعة من أصل المدنيين الثمانية، فيما يختار الطرفان معًا الشخصية الثامنة.
وبفضل وساطة إثيوبيا والاتحاد الإفريقي، استأنف الجانبان أول أمس الأربعاء المفاوضات الحساسة لرسم الخطوط العريضة للمرحلة الانتقالية المقبلة في البلاد، ونقشا في اليوم الأول الإفراج عن 235 مقاتلًا من متمرّدي “جيش تحرير السودان”، الذي يعد أحد أبرز الفصائل المسلحة في إقليم دارفور (غربي البلاد)، وواحد من قوى تحالف الحرية والتغيير.
وضم وفد المجلس العسكري كلا من نائب رئيس المجلس الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي)، ورئيس اللجنة السياسية بالمجلس الفريق شمس الدين كباشي، وعضو المجلس الفريق ياسر العطا. بينما ضم وفد قوى التغيير، قائدة الاحتجاجات الشعبية، كلا من المهندس عمر الدقير، والدكتور محمد ناجي الأصم، والمهندس صديق يوسف، والدكتور إبراهيم الأمين، وفق الوكالة السودانية الرسمية.
فيما كانت المفاوضات في اليوم الثاني بين ممثلي الطرفين مخصّصة لتشكيل وقيادة الهيئة الانتقالية، وتمّ اللقاء بحضور وسيط الاتحاد الإفريقي محمد الحسن ولد لبات والوسيط الإثيوبي محمود درير، وكانت قوى الحرية والتغيير استجابت لدعوة الوساطة الإثيوبية والإفريقية للتفاوض المباشر مع المجلس العسكري، لكنها اشترطت ألا يزيد زمن التفاوض على ثلاثة أيام.
وستوكل إلى هذا المجلس السيادي مهمة قيادة البلاد في الفترة الانتقالية القادمة، وكانت المفاوضات المباشرة بين طرفي الأزمة انهارت في مايو/أيار الماضي، وتبادلا اتهامات بالرغبة في الهيمنة على أجهزة السلطة المقترحة للمرحلة الانتقالية.
حكومة كفاءات
فضلًا عن مجلس السيادة اتفق الطرفان على تشكيل “حكومة مدنية سميت حكومة كفاءات وطنية مستقلة برئاسة رئيس وزراء”، تسند رئاستها إلى عبد الله حمدوك، وذلك بسبب خلفيته الاقتصادية وعلاقاته الدولية، واستنادًا أيضًا إلى عمله في عدد من المنظمات الدولية والإقليمية.
وشرع حمدوك البالغ من العمر 61 عامًا في إجراءات التنازل عن الجنسية المزدوجة، وفق قناة الجزيرة القطرية، حيث حاز في وقت سابق على جنسية بريطانية، ويعتبر شرط عدم ازدواج الجنسية أحد الشروط التي تم التوافق عليها في تحالف الحرية والتغيير في ولاية المناصب الوزارية.
ومن الخيارات الأخرى التي طرحت لتولي ذات المنصب برز اسم البروفسور منتصر الطيب وهو أستاذ في كلية الطب بجامعة الخرطوم متخصص في الأمراض المستوطنة وله دراسات منشورة في الجينات الوراثية. وتعرض الطيب ذو الخلفية اليسارية للاعتقال أكثر من مرة خلال الحراك الشعبي الذي انتظم السودان مؤخرًا.
إرجاء إقامة المجلس التشريعي
ضمن النقاط التي اتفق عليها الطرفان إرجاء إقامة المجلس التشريعي والبت النهائي في تفصيلات تشكيله، حالما يتم قيام المجلس السيادي والحكومة المدنية المرتقبة، مثلما اقترح الوسيط الذي طالب بترحيل هذه المسألة إلى وقت لاحق.
تعيش السودان منذ الثالث من حزيران/يونيو الماضي، حملة قمع يقودها المجلس العسكري الانتقالي أدت إلى مقتل 136 شخصًا
تعتبر مسألة نسب التمثيل في المجلس أبرز نقاط الخلاف في هذه المسألة، وسبق أن اتفق الطرفان على أن تحالف قوى الحرية والتغيير سيحصل على ثلثي مقاعد المجلس التشريعي قبل أن تفض قوات الأمن اعتصامًا في الثالث من حزيران/ يونيو مما أدى إلى مقتل العشرات وانهيار المحادثات. يشار إلى أن عدد مقاعد المجلس التشريعي الانتقالي، وفقًا للتفاهمات التي سبقت فض الاعتصام، تبلغ 300 مقعد.
وترفض بعض مكونات قوى الحرية والتغيير مراجعة النسب خاصة مع صمت الوسيط عن التقيد بالاتفاقات السابقة، وهو ما يعني بالضرورة إعادة فتح النقاش، يذكر أن الوسيط لم يتحدث عن أرقام، لكنه أشار إلى ضرورة تمثيل فئات وإبعاد المؤتمر الوطني الحزب الحاكم سابقا والمشاركين لهم في السلطة المعزولة.
تحقيق وطني مستقل
ثالث النقاط التي تمّ الاتفاق حولها في هذه المفاوضات المباشرة، إجراء “تحقيق دقيق شفاف وطني مستقل لمختلف الأحداث والوقائع العنيفة المؤسفة التي عاشتها البلاد في الأسابيع الأخيرة“، وفق وسيط الاتحاد الإفريقي، محمد حسن لبات.
وتعيش السودان منذ الثالث من حزيران/يونيو الماضي، حملة قمع يقودها المجلس العسكري الانتقالي أدت إلى مقتل 136 شخصًا بينهم أكثر من مئة خلال عملية تفريق الاعتصام أمام مقرّ القيادة العامة للجيش في الخرطوم، بحسب لجنة الأطباء المركزية المقربة من حركة الاحتجاج.
وسبق أن دعت منظمة العفو الدولية (أمنستي)، إلى إجراء دولي ضد قادة المجلس العسكري الانتقالي في السودان، كما أدانت قوات الدعم السريع التي يقودها نائب رئيس المجلس محمد حمدان دقلو المعروف بحميدتي.
واعتبرت منظمة العفو أن تاريخ السودان الحديث “معروف بإفلات مرتكبي جرائم الحرب وغيرها من انتهاكات حقوق الإنسان من العقاب” ودعت مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الإفريقي، ومجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، إلى “القيام بدورهما لكسر حلقة الإفلات من العقاب هذه، واتخاذ التدابير الفورية اللازمة لإخضاع مرتكبي جرائم العنف هذه للمساءلة”.
يصرّ عسكر السودان على المماطلة في تسليم السلطة للمدنيين
أمنستي قالت في نفس البيان، إن قوات الدعم السريع نفذت ما وصفته بأنه “اجتياح قاتل” عندما فضت فجر الإثنين الماضي اعتصامًا كان ينظمه أنصار قوى الحرية والتغيير أمام مقر القيادة العامة للجيش في العاصمة الخرطوم منذ 6 أبريل/نيسان الماضي.
ويطالب السودانيون بضرورة محاسبة المتسببين في قتل العشرات من المدنيين في أنحاء متفرقة من البلاد منذ بدء الحراك نهاية ديسمبر/كانون الأول الماضي، ويتحدّث هؤلاء عن عمليات قتل ممنهجة، وعمليات اغتصاب خاصة في العاصمة الخرطوم.
وكانت قوى التغيير -التي تقود الحركة الاحتجاجية في السودان- قد تعهّدت في وقت سابق بتقديم قادة المجلس العسكري لمحاكمات أمام قضاء عادل ونزيه في “سودان الثورة”، وقالت إنهم يتحملون مسؤولية إراقة الدماء.
الخشية من مماطلة العسكر
لئن ثمّن العديد من السودانيين هذا الاتفاق، إلا أنهم لم يخفوا خشيتهم وتوجسهم من إمكانية رجوع العسكر عن الاتفاق، خاصة وأن سبق أن قام بهذا الأمر في مرات عدّة دون أن يولي أي اهتمام لعواقب ذلك عليه وعلى البلاد ككل.
ويرى العديد من السودانيين صعوبة تخلّي العسكر عن الحكم في بلادهم، فقد أثبتوا في مرات عديدة سابقة تعنتهم وتصلبهم أمام مقترحات السودانيين الطامحين في قيادة مدنية لبلادهم تضع حدًا لنظام العسكر.
يذكر أن حراك السودان في ديسمبر/كانون الأول الماضي، من مدينة عطبرة المدينة الثانية في محافظة نهر النيل بعد عاصمتها الدامر، لينتقل بعد ذلك إلى العاصمة الخرطوم وباقي المدن، احتجاجًا على ارتفاع سعر رغيف الخبز وغلاء المعيشة وندرة السلع الأساسية، ليرتفع سقف المطالب فيما بعد إلى المطالبة بإسقاط نظام عمر البشير الذي يحكم البلاد منذ عقود عدة، ما دفع السلطات إلى إعلان حالة الطوارئ في بعض المدن لتطويق الاحتجاجات والحد من انتشارها.
يحاول عسكر السودان منذ سيطرته على الحكم في 11 من أبريل/نيسان الماضي، على إثر عزل الرئيس عمر البشير، كسب المزيد من الوقت من أجل إحكام قبضته على السلطة، غير آبه للضغوط الخارجية والداخلية، في المقابل تتمسك الجماهير الشعبية بنقل السلطة إلى مدنيين من أجل تحقيق “انتقال ديمقراطي“ في البلاد، ما يجعل السودان مقبلًا على أيام غامضة يصعب التنبؤ بتفاصيلها.