المغرب واحد من أهم الوجهات السياحية في العالم، يأتي الملايين إليه كل عام، منجذبين إلى ثقافته الغنية والشمس وجمال الطبيعة، لكن في مدينة شفشاون – التي تُعرف بـ”المدينة الزرقاء” في أعالي جبال شمال المغرب – توجد فيها سياحة من نوع آخر، لأن تدخين القنب يجري هناك في العلن.
ويأتي المدخنون إلى هذه المدينة ليجرَّبوا ما يصفونه “أفضل مخدر في العالم”، ومن المصدر مباشرة، ورغم أن تدخين القنب المخدر محظور في المغرب وزراعته غير قانونية كمعظم دول العالم، فإنه مصدر رزق لنحو مليون شخص في هذا البلد العربي الواقع في أقصى غرب شمال إفريقيا.
فقراء وسط حقول يانعة من الحشيش
تقع شفشاون في منطقة الريف، على حافة موطن القنب المغربي، وفيها يمكن رؤية المناطق الزراعية بكل وضوح على خرائط الأقمار الصناعية، حيث يُرزع الحشيش علنًا بجانب الطريق تمامًا، لكن ليس كله مغربيًا تمامًا، فبعض البذور مستوردة في هذه الأيام.
الحشيش هو النبيتة الصمغية المركزة من نبية القنب، ويتم ضغطها في كتلة، وتُزرع في بعض المناطق المغربية بكميات صغيرة لتلبية حاجة السياح فقط الذي يزورون مدينة شفشاون والمزن السياحية المغربية الأخرى، في المقابل، ثمة مناطق شاسعة أخرى يذهب إنتاجها للتصدير.
يجني أباطرة المخدرات من وراء هذه التجارة ملايين الدولارات، أمَّا المزارعون فيتوارون خلف الجبال، ويعيشون أوضاعًا مزرية، وتكاد حقول الحشيش تحجب الرؤية عن بيوتهم
منذ أكثر من قرن، يزرع الفلاحون هذه النبية التي يسمونها “الكيف” في تربة فقيرة لا تصلح لشيء آخر، خصوصًا في جبال الريف، حيث لا ينعم الفلاحون بالرخاء، والبدائل أمامهم محدودة، فقلة من المحاصيل يمكن زراعتها في هذه الأراضي القاحلة.
وفي كتامة، البلدة الجبلية المعزولة التي تبدو متهدمة، ثمة موطن لأكثر حشيش مرغوب في العالم، حتى أصبح تعاطيها جزءًا من الثقافة المحلية، ويقدر تقرير أصدره مكتب أوروبي للدراسات، في مارس/آذار الماضي، عدد المتعاطين للقنب في المغرب بنحو 1.5 مليون شخص، حيث يصل متوسط سعر الغرام الواحد من الحشيش إلى نحو 78 درهمًا.
وبعد عقود من الزمان، بات من المألوف رؤية النساء فقط في حقول القنب الهندي، بعد هروب الرجال الذين تلاحقهم السلطات، فاُضطرت النساء للنزول للحقول ومواجهة مصيرهن مع المجهول، ومنهن القاصرات اللاتي يقضين ساعات طوال في الاعتناء بحقول الحشيش دون أي مقابل مادي.
لا تحجب حقول القنب الهندي المترامية الأطراف قسوة الحياة اليومية لنساء الأرياف، في حين لا تنشغل النساء كثيرًا بكل السجال المثار عن نبتة القنب، لكنه ليس مصطلحًا معيبًا، فقد تعوَّدت هؤلاء النساء على سماعه منذ كن نساء صغيرات، لكنهن لا يتقبلن أن يوصفن بـ”مزارعات القنب”.
في المقابل، لجأ الرجال إلى الجبال خوفًا من تعقب السلطات لهم، وتفيد الإحصاءات بصدور أكثر من 40 ألف أمر إلقاء قبض على مزارعي القنب، وتنفذ الشرطة أوامر الاعتقال، لكن الأوامر صادرة عن المندوبية السامية للمياه والغابات، لذلك لا تقود الكثير منها إلى اعتقالات، لكن يبقى التهديد قائمًا، مما يدفع البعض إلى دفع رشاوى من دخلهم الضئيل الذي لا يتعدى مئة دولار في الشهر.
نتيجة لذلك، يُجبر العديد من الفلاحين على العيش في الخفاء، مما قد يكون له عواقب خطيرة عليهم وعلى عائلاتهم، فالعديد من أبنائهم لا يُسجلون لدى السلطات، ما يعني حرمانهم من العلاج في المستشفيات والتعليم في المدارس، ولا يمكن للآباء تجديد بطاقاتهم الشخصية بسبب كونه “مزارع خارج القانون”.
ويجني أباطرة المخدرات من وراء هذه التجارة ملايين الدولارات، أمَّا المزارعون فيتوارون خلف الجبال، ويعيشون أوضاعًا مزرية، وتكاد حقول الحشيش تحجب الرؤية عن بيوتهم، أمَّا في الداخل، فثمة أُسِر تشكو قلة الحيلة وأوضاعًا إنسانية صعبة، حيث يعمل الكثيرون منهم مقابل دولار في اليوم، فيما ترسل عائلات أبناءها إلى المدينة الأقرب للعمل بمرتب لا يزيد على 50 دولارًا في العام.
رغم ذلك، ينظر هؤلاء المزارعون إلى زراعة القنب باعتبارها المعين الأساسي لهم، إذ تعتبر هذه الزراعة اليوم مصدر الرزق الرئيسي لنحو 90 ألف أسرة في مناطق الريف والشمال، دون أن تخرجها من الفقر؛ لأن الفوائد الأساسية تنشأ في شبكة الوسطاء التي تقود هذا المخدر إلى أوروبا.
أباطرة المخدرات.. على طريق تعقب الحشيش
قبل سنوات، تعهدت السلطات المغربية بمنح 10 إلى 12 مليون درهم لكل من يتخلى عن رزاعة القنب، ويقيم مشروعات بديلة بالبلاد، لكن بعض القرى المعروفة بهذه الزراعات في حاجة لأكثر من هذا المبلغ الذي رصده وزير الداخلية الأسبق شكيب بنموسى، فلا يوجد فيها طريق معبَّد ولا ممرات سالكة، فترك هؤلاء لمواجهة مصيرهم مع حدة الفقر وضراوة التضاريس.
ورغم أن المغرب يتبنى منذ عام 2003 إستراتيجية تنموية تهدف إلى الحد من زراعة القنب الهندي في بعض المناطق الواقعة شمالي البلاد، ورصد لهذا البرنامج، مبلغ 900 مليون درهم، فإن زراعة هذا المخدر غير المشروع باتت تغطي أكثر من 50 ألف هكتار في جبال ووديان شمال المغرب، موزعة على خمسة أقاليم هي الحسيمة وشفشاون وتاونات والعرائش وتطوان شمالي البلاد.
أمَّام عجز الشرطة الإسبانية التي أعلنت العام الماضي شن حرب جديدة على المخدرات، يبدو أن بوابة المهربين نحو أوروبا لا تزال مفتوحة على مصراعيها
ورغم أن القنب ممنوع في المغرب، يمكن رؤيته مزروعًا في كل أنحاء الريف، ويصعب مع هذا التصديق أن السلطات لا تعلم بذلك، بل هناك تسامح من تجاه التعاطي رغم كونه غير قانوني، في الوقت نفسه، تنفق الحكومة المغربية الملايين على مكافحة تهريب الحشيش، وهذه أولى التناقضات المثيرة الموجودة على أولى خطوات تعقب الحشيش.
ففي عام 2017، تربع المغرب على قائمة البلدان الإفريقية صاحبة أكبر قدر من المضبوطات من القنب الهندي، وذكرت الشرطة المغربية في هذا العام أنها صادرت 117 طنًا من راتنج القنب (المادة الصمغية التي تستخرج من أطراف النبتة المزهرة)، وكثيرًا ما تتردد السلطات بفخر أنها تنتصر في الحرب على المهرَّبين، وتنشر قصص نجاحاتها محليًا علنًا على نطاق واسع.
ورغم تقديم صورة عن قوة شرطة تمتلك موارد متطورة للغاية، وتمارس دورها في الحرب العالمية على المخدرات، فإن الأرقام تشير إلى ما يقلل فعالية الجهود المبذولة، فقد صنّفت مؤسسة “نيو فرونتير داتا” الأمريكية، المغرب كثالث أكبر سوق لتجارة القنب على المستوى الإفريقي، وتبلغ عائداتها 3,5 مليار دولار سنويًا، بعد إثيوبيا ونيجيريا، وأشارت إلى عدد المتعاطين في ازدياد، حيث وصل عدد مستهلكي القنب إلى 1,7 مليون مستهلك، من أصل 58 مليونًا على المستوى الأفريقي.
إذن، لا يبدو من المنطقي تعامل السلطات المغربية مع زراعة القنب، فهي تعترف بأن ليس أمام الفلاحين خيار آخر، ورغم ذلك تجعل الآلاف يعيشون كهاربين من القانون، وتدفع هذه التنافضات للتساؤل عن كيفية زراعة الحشيش وبيعه وتدخينه بحرية هناك؟
الآن بدأ مستثمرون أوروبيون غير قانونيين بتزويد فلاحي الأراضي المنخفضة ببذور معدلة وراثيًا لتحسين المحصول وزيادة قوته، حتى أصبح المغرب المصدِّر الأول للحشيش في العالم، وتجد مئات الأطنان منه طريقها إلى أوروبا سنويًا، بحسب تقرير الهيئة الدولية لمراقبة المخدرات التابعة للأمم المتحدة.
الجريمة في المغرب ومكافحتها في أوروبا
ميناء طنجة، هو أحد أكثر موانئ إفريقيا ازدحامًا، وتُصدَّر منه ملايين الشحنات من البضائع المشروعة، ولذا لا يصعب إخفاء الحشيش فيه، رغم قول السلطات إنها تضيق الخناق على المهربين ويفتشون سيارات نحو 7 ملايين شخص و700 ألف شاحنة تمر من هذا الميناء سنويًا.
ويبعد الشريط الجنوبي لإسبانيا عن طنجة 14 كيلومترًا فقط، لذلك تدق شرطة مكافحة المخدرات الإسبانية ناقوس الخطر بسبب انتشار تجارة الحشيش في مناطق إسبانيا الجنوبية، حيث يجلب مهربو المخدرات أطنانًا من الحشيش من المغرب، وذلك عبر البحر المتوسط بواسطة زوارق تتجاوز سرعة قوارب أفراد الشرطة.
الأرباح الكبيرة تذهب إلى جيوب عائلات تهريب تتقاسم بينها أموال هذه التجارة، وعشائر يخشاها سكان هذه المدينة، ولذلك تبقى أفواههم صامتة
وتجوب زوارق خفر السواحل الإسباني مضيق جبل طارق كل ليلة لاعتراض مهربي الحشيش الذين ينجحون في تهريب مئات الأطنان من المخدر إلى أوروبا، حيث يتجنبون الموانئ الرئيسية، وينقلون شحناتهم إلى أماكن على الساحل بعيدة عن المراقبة.
وأمَّام عجز الشرطة الإسبانية التي أعلنت العام الماضي شن حرب جديدة على المخدرات، يبدو أن بوابة المهربين نحو أوروبا لا تزال مفتوحة على مصراعيها، لتحصد “مافيا” مخدرات مختصة تشرف على تهريب الحشيش من المغرب عبر مضيق جبل طارق إلى ساحل مدينة كونسيبسون الإسبانية مئات ملايين من الدولارت سنويًا، حيث تصل إلى هناك ثلث كمية حشيش أوروبا المستهلكة، أمَّا الأرباح الكبيرة فتذهب إلى جيوب عائلات تهريب تتقاسم بينها أموال هذه التجارة، وعشائر يخشاها سكان هذه المدينة، ولذلك تبقى أفواههم صامتة.
وفي حين لا يعود تهريب المخدرات بأي فائدة على معظم السكان، يحقق بعض الناس ثراءً من الحشيش المغربي، فبحسب رئيس مجموعة منظمات لمكافحة المخدرات في جنبو إسبانيا فرانسيسكو مينا، يبدو الأمر مختلف للرجل الذي يقود زورق المخدرات، فهو يحصل على 30 ألف يورو في رحلة تهريب واحدة في المغرب، ويتقاضى من يقومون بتفريغ المخدرات في الشاطئ نحو 3 آلاف يورو في كل مرة، كما يحصل سائقو الشاحنات على 10 آلاف يورو.
أمًّا في العاصمة الهولندية أمستردام، المدينة التي تخطر في البال عند الحديث عن المخدرات، يمثل الحشيش فيها تجارة كبيرة رغم أن استيراده “غير قانوني” فعليًا، لكن هناك تساهلاً في بيعه، وهو متوافر بكثرة في المقاهي، كما توجد قوانين تشرع بيعه وتدخينه، وهذا أمر يشبه الفوضى من الناحية القانونية.
تقطع المخدرات التي تُدخن في هذه المقاهي مسافة 3 آلاف كيلومتر في رحلتها من المغرب، وتقدِّر الصحافة الهولندية دخل المقاهي بمليار يورو سنويًا، وهذه كمية كبيرة من الحشيش، علمًا أن الفلاحين في بلدة كتامة المغربية يحصلون على أقل من 1% من سعرها في مقاهي أمستردام، وهم يزرعون حسب الطلب، كما أن بعض المقاهي لديها علاقات مباشرة مع الفلاحين في المغرب.
رغم ذلك يُحدث المال الغربي ثورة في إنتاج القنب في الريف المغربي، فزراعة “الكيف” لم تعد محصورة في تلك البساطة التي كان يقوم بها الفلاح العادي، خاصة مع ظهور مستثمرين كبار من هولندا وإسبانيا في مناطق جديدة لم تعرف التوسع من قبل، حيث يدفعون أموالاً كثيرة للمزراعين المعتادين على زراعة الخضراوات، مقابل زراعة أنواع من البذور معدَّلة جينيًا لتناسب المناطق المنخفضة التي تتوافر فيها المياه.
في المجمل، يتزايد الطلب على القنب مع وجود حقول هائلة من النباتات المعدلة وراثيًا التي تلبي ذلك، وفي حين يغض المغاربة الطرف، تمارس الشرطة الإسبانية تكتيكات عسكرية، ويلجا الهولنديون إلى الإجازة القانونية الجزئية، وبين تلك السياسة غير المتناسقة، ثمة فلاحين يكافحون للعيش مقابل أفراد العصابات والمسؤولين الفاسدين الذين يثرون من الحشيش المغربي.