لم يكن في تصور المارة على جسر البوسفور ليلة 15 من يوليو/تموز 2016 أن تحرك القوات المسلحة يأتي في إطار عملية عسكرية للانقلاب على الإرادة الشعبية والسيطرة على مقاليد الحكم في البلاد، فالزمان الذي يخرج فيه الجيش التركي من ثكناته ليعيد تشكيل الحياة السياسية في تركيا أضحى من الماضي الأليم في وعي الأمة التركية التي تحتفظ ذاكرتها الحية بويلات عواقب تدخل الجيش في الحياة السياسية.
من الممكن إرجاع فشل المحاولة الانقلابية لعدد من الأسباب والعوامل التي ارتبط جزء كبير منها بشكل التدخل وماهيته، فالمحاولة الانقلابية التي وقف خلفها عدد من الضباط الكبار بتعاون وتنسيق مع جماعة الداعية التركي فتح الله غولن فشلت في تأمين حد أدنى من الشرعية الشعبية والسياسية، فالاعتماد على حركة فتح الله غولن ذات الامتدادات الواسعة داخل النخب التركية لم يكن كافيًا لمواجهة الغطاء الشعبي القوي الذي ارتكز عليه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، حيث استطاعت تشكيلات حزب العدالة والتنمية وما حولها من مؤسسات مجتمع مدني وجماعات دينية العمل بمنتهى المهارة لحشد قوى الشعب التركي في مواجهة تحرك الجيش الذي فشل في استمالة مؤسسات الدولة التركية، الأمر الذي حال دون تمدد المحاولة الانقلابية واتساع رقعتها.
الجيش والسياسة في تركيا: من واقعة 31 مارت إلى ليلة 15 تموز
شكلت الهزائم العسكرية التكثيف الأهم لتخلف الدولة العثمانية أمام خصومها الغربيين، الأمر الذي دفعها لتكثيف عمليات إصلاح وتحديث المؤسسة العسكرية التي أمست قاطرة التحديث التي ارتكزت عليها بنى الدولة العثمانية المتهالكة، مما منح المؤسسة العسكرية وضعية مميزة داخل المجتمع التركي وفرت لها غطاءً شرعيًا للتدخل في الحياة السياسية التركية.
شكلت واقعة 31 مارت التدخل الأول والصارخ للجيش التركي في الحياة السياسية، فبعد إعلان المشروعية الثانية عام 1908 خرجت مجموعات غاضبة من الأتراك إلى ساحات مدينة إسطنبول منددة بتقليص صلاحيات السلطان عبد الحميد الثاني، الأمر الذي دفع جمعية الاتحاد والترقي إلى تحريك الجيشين الرابع والثاني المتمركزين في مدينتي سالونيك وأدرنة إلى العاصمة إسطنبول والقضاء على العصيان وخلع السلطان عبد الحميد الثاني، لتسيطر جمعية الاتحاد والترقي على مقاليد البلاد التي دخلت في عدد من المغامرات أفضت لهزيمتها في حروب البلقان 1912-1913 والحرب العالمية الأولى 1918.
أما التدخل الثاني للجيش التركي في الحياة السياسية فكان عام 1960 عندما قامت مجموعة من الضباط بالتحرك عسكريًا ضد حكومة رئيس الوزراء عدنان مندريس، حيث تم حل البرلمان والدستور، وتشكيل لجنة الوحدة الوطنية Milli Birlik Komitesi التي تولت إدارة البلاد والإشراف على محاكمة رئيس الوزراء عدنان مندريس الذي تم إعدامه رفقة وزير الشؤون الخارجية فطين رشدي زورلو، ووزير المالية حسن بولاتكان في سبتمبر/أيلول 1961.
وبعد شهر من الإعدام أجريت انتخابات برلمانية وسلمت السلطة للمدنيين بعد وضع دستور جديد للبلاد، وبعد 11 عامًا من الانقلاب الأول في الجمهورية التركية تدخل الجيش التركي مرة أخرى عام 1971 من خلال إرسال مذكرة تهديد لحكومة حزب العدالة برئاسة سليمان ديميريل الذي رفض تهديد رئيس الأركان ممدوح تاجماك، ليتم تشكيل حكومة جديدة أدخلت البلاد في موجة دموية من القمع الموجه للقوى السياسية التركية.
يعد انقلاب سبتمبر/أيلول 1980 التدخل الأكثر عنفًا وشراسة للجيش التركي في الحياة السياسية التركية، حيث لم تكتف وحدات الجيش التركي بالسيطرة على البلاد، بل اتبعتها بموجة واسعة وكبيرة من عمليات القمع فتعرض مئات الآلالف من الأتراك للسجن والتعذيب، حيث تم حل الأحزاب السياسية وتعطيل العمل بدستور 1961 وإنشاء آخر بديل له حصّن المؤسسة العسكرية وشرعن تدخلها في الحياة السياسية التركية الذي بدأت نتائجه في الظهور بالانقلاب ما بعد الحداثي عام 1997 والموجه للحكومة الائتلافية التي يقودها نجم الدين أربكان.
اتخذ حزب العدالة والتنمية سياسة إصلاحية نشطة تجاه الدور السياسي للجيش التركي استندت إلى تصور جديد يراعي قيم العالم الحديث ومعايير كوبنهاغن للانضمام للاتحاد الأوروبي، ورغم نجاح الحزب في تجنب الاصطدام بالمؤسسة العسكرية، فإن بعض التوترات ظهرت مثل حادثة المذكرة الإلكترونية عام 2007 التي اعترض فيها الجيش التركي على ترشح عبد الله غول لرئاسة الجمهورية وقضايا أرغنكون والمطرقة التي ساهم فشلها في إضعاف موقف الجيش أمام المدنيين في الحياة السياسية.
وجاءت المحاولة الانقلابية في 15 من يوليو/تموز كحادثة منبتة في سياق عام آخذ في إبعاد العسكريين عن التدخل في الحياة السياسة في تركيا، الأمر الذي أدى إلى فشل المحاولة التي دقت المسمار الأخير في نعش التدخل الفج للعسكرين في الحياة السياسة بتركيا.
العلاقات المدنية العسكرية: المدنيون في الصدارة
من الممكن القول إن أهم التغيرات التي شهدتها تركيا بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة كانت في ميدان العلاقات المدنية العسكرية التي شكل فشل الانقلاب دفعة قوية لتنظيمها بحيث أصبح للمستوى المدني اليد العليا فيها، فللمرة الأولى يصبح وزير الدفاع المدني المرجعية الأولى للمؤسسة العسكرية بعد أن كانت مهمته تنسيقية دون سلطة حقيقة على المؤسسة العسكرية، لكن شكل العلاقة تغير بصورة دراماتيكية بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة، حيث أصبحت تبعية رئيس الأركان لوزارة الدفاع التي يتولاها وزير مدني.
الصورة أعلاه لوزير الدفاع التركي خلوصي أكار رفقة رئيس الأركان ياشار غولر وقادة القوات الجوية والبرية والبحرية في مقر القوات الجوية التركية، مجتمعين لمتابعة عمليات القصف من القوات الجوية التركية لمواقع حزب العمال الكردستاني في شمال العراق. فالمشهد السابق يعد من المشاهد التاريخية في العلاقات المدنية العسكرية في تركيا، وزير دفاع بزي مدني يشرف على عمل القادة العسكريين في مقر العسكر.
مرت عمليات إعادة الهيكلة بعدد من المراحل والخطوات، بدأت من تغير شروط عملية تعيين رئيس الأركان الذي كان تعيينه محصورًا في قادة القوات البرية أو البحرية أو الجوية أو الأدميرالات، فأصبح التعيين مفتوحًا أمام جميع الجنرالات والألوية في الجيش التركي، مما ساهم في توسيع رقعة المرشحين للمنصب وزيادة المرونة أمام المستوى المدني لاختيار قائد الأركان.
أما التغير الآخر فقد تم على هيكلة مجلس الشورى العسكري الأعلى الذي يعد من الهيئات التي استخدمت لفرض إرادة القوات المسلحة على المستوى المدني، حيث أعيد تنظيم مهام المجلس وواجباته بحيث تم تمدين المجلس، فأصبح يعقد برئاسة رئيس الجمهورية وحضور مساعده ووزير الدفاع والخارجية والداخلية والمالية والعدالة والتعليم، بالإضافة إلى رئيس الأركان وقادة القوات البرية والبحرية والجوية، كما نقلت الأمانة العامة من رئاسة الأركان إلى وزارة الدفاع. وبذلك أصبح للمدنيين السلطة الأعلى داخل المجلس بعد أن سيطر العسكر تاريخيًا على بنيته التي تكونت من قادة القوات وقائد الدرك العام وقائد البحرية وعدد من الجنرالات.
ومن التغيرات الهيكلية المهمة نقل تبعية قوات الجندرمة كاملًا إلى وزارة الداخلية التي أصبحت الجهة الوحيدة المسؤولة عن مهام حفظ الأمن الداخلي وحصرت مهام الجيش في حفظ البلاد من التهديدات الخارجية.
ولأهمية التعليم العسكري وأثره الكبير على منظومة العلاقات المدنية العسكرية فقد تم اتخاذ عدد من الخطوات والقرارات تجاه بنية التعليم العسكري التركي، حيث تم إنشاء جامعة الدفاع الوطني التي تضم تحت جناحها الكليات العسكرية المختلفة وتخضع لإشراف وزارة الدفاع الوطني، بالإضافة إلى ذلك فقد تم إزالة القيود المفروضة على بعض الفئات من المجتمع التركي، فأصبح من المسموح لخريجي مدارس الإمام والخطيب الالتحاق بالكلية الحربية كما تم رفع المنع عن النساء اللواتي يرتدين الحجاب بعد سنوات من المنع، إلى جوار ذلك خضع النظام الصحي للقوات المسلحة لتغيرات هيكلة أفضت لنقل تبعية المؤسسات الصحية العسكرية لتبيعة وزارة الصحة، كما تم نقل عدد من المنشآت العسكرية من وسط المدن الكبرى.
للمرة الأولى يتم قبول فتاة محجبة داخل أروقة الجيش التركي
النظام الرئاسي
شكل الأداء القوي للرئيس التركي رجب طيب أردوغان في التصدي للمحاولة الانقلابية عام 2016 إضافة قوية لصورة الرئيس التركي الذي خرج كبطل قومي استطاع إنقاذ بلاده من سيطرة العسكر، الأمر الذي وفر له هامشًا واسعًا وكبيرًا من الشرعية السياسية والشعبية التي أهلته لأخذ البلاد نحو مسار سياسي جديد عنوانه النظام الرئاسي الذي قامت مبرراته الأساسية على حاجة البلاد لنظام قوي قادر على الاستجابة السريعة للتحديات والمخاطر التي تكثر في البيئة المحيطة، حيث دخل إلى حيز التنفيذ بعد إقراره بالاستفتاء الشعبي عام 2017 والانتخابات البرلمانية الرئاسية عام 2018.
حملة التطهير: لا مكان لغولن في تركيا
استطاعت منظمة فتح الله غولن بعد سنوات طويلة من العمل داخل المجتمع التركي مراكمة كتلة ضخمة من وسائل الإعلام والنخب والموظفين والعاملين في المؤسسات القضائية والأمنية والعسكرية، وحاولت المنظمة تحريك هذه الكتلة ضد الحكومة التركية في أكثر من مناسبة.
شرعت الحكومة التركية بعد إعلان حالة الطوارئ في 20 من يوليو/تموز 2016 بحملة تطهير ضخمة شملت كل المستويات داخل الدولة التركية، فوفقًا للتقارير الصادرة فقد تم تسريح ما لا يقل عن 15.242 ألف شخص من القوات المسلحة خلال فترة الطوارئ الممتدة من يوليو/تموز 2016 حتى يوليو/تموز 2018، كما تم تسريح 2.138 آخرين بعد رفع حالة الطوارئ ليصل المجموع إلى 17.380 ألف كادر من كوادر القوات المسلحة ضموا ما لا يقل عن 150 جنرالاً شكلو 40% من البنية القيادية للجيش التركي.
ووفقًا لذات الأرقام فقد تم تسريح ما لا يقل عن 125.678 موظف في قطاع الدولة، وطرد ما لا يقل عن 270 طالبًا، وتخفيض رتبة 3.213 موظف بالإضافة لإغلاق ما لا يقل عن 2.761 مؤسسة، جاءت 204 منها من المؤسسات الإعلامية منها 53 صحيفة و37 إذاعة و34 محطة تليفزيونية و29 دار نشر و20 مجلة و6 وكالات إعلامية، أبطل لاحقًا قرار إغلاق 25 منها.
وعلى صعيد وزارة الداخلية ووفقًا لتصريحات أدلى بها وزير الداخلية التركي سليمان صويلو فقد اُعتقل ما يقرب من 511 ألف شخص من المنتمين لمنظمة فتح الله غولن، كما تم تسريح ما يقرب من 38.578 ألف شخص من وزارة الداخلية، 31 منهم من قوى الأمن، و4.159 من قوات الجندرمة، و348 من قوات خفر السواحل، أما القطاع القضائي فشهد تسريح ما يزيد على 4.500 ألف قاضٍ ومدعٍ عام.
أمام هذه الأرقام الضخمة ولمواجهة أي خطأ أو قرار ظالم شكلت الحكومة التركية في يناير 2017 لجنة حملت اسم “لجنة فحص قرارات حالة الطوارئ” تكونت من 7 قضاة و200 خبير، استقبلت اللجنة خلال سنتين من العمل ما يقرب من 126.200 ألف طلب تعاملت مع 77.900 ألف منها وما زال 48.300 قيد الدراسة.
ختامًا.. هل انتهى كابوس الانقلابات العسكرية في تركيا؟
يحيي الأتراك في 15 من يوليو/تموز من كل عام ذكرى 250 شخصًا فقدوا حياتهم في ملحمة تاريخية استطاع خلالها الشعب التركي حماية ديمقراطيته من كابوس سيطرة العسكر، لكن هل انتهى الخطر؟
من الممكن القول إن عصر التدخل الخشن للجيش والسيطرة على الميادين واحتلال الإذاعات أصبح من الماضي، فشرعية المؤسسة العسكرية لا يُسمح لها بهذا التدخل الفج، فحتى أكثر الدول تخلفًا يحتاج الجيش فيها لغطاء شعبي وتحرك موازٍ حتى يستطيع حكم البلاد أو السيطرة عليها بالطرق التقليدية.
لكن انتفاء هذا الاحتمال وتراجعه لدى عموم الشعب التركي الذي يرى جيشه في ثكناته أكثر من مراكز الحكم، لا يعني كف الجيش التركي عن التدخل في الحياة السياسة، فالإجراءات الأخيرة المتخذة من الحكومة لا تمنع الجيش من التدخل في الحياة السياسية – حتى في أكثر الديمقراطيات رسوخًا تحتفظ المؤسسة العسكرية بدور أساسي في عمليات صنع القرار – بقدر ما تقنن تدخل الجيش وتضبطه في الأطر القانونية، ونجاح هذه الإجراءات ونفاذها يعتمد بالدرجة الأساسية على مدى قدرتها على خلق ثقافة حقيقة تضبط العلاقات المدنية العسكرية بحيث يكون للمستوى المدني فيها اليد العليا، وما دامت هذه الثقافة غير متوافرة أو راسخة لدى ضباط القوات المسلحة، فسوف يبقى إغراء التدخل في الحياة السياسية سواء بصورة مباشرة أم غير مباشرة حاضرًا وبقوة.