لم تأت الورقة المقترحة في ورشة المنامة الاقتصادية كطريق نحو إتمام صفقة القرن، والمدعومة بتمويل يصل في كل المشاريع إلى50 مليار دولار شمل قطاعات مختلفة كالبنى التحتية والتعليم والصحة والمياه والطاقة وتكنولوجيا المعلومات والسياحة، بجديد.
فمنذ نشأتها عام 1994، تلقت السلطة الفلسطينية 35.4 مليار دولار من المساعدات الدولية، لكنها لم تستطع تحقيق أي تنمية واضحة في القطاعات السابقة، أي أن حجم ما تلقته السلطة من مساعدات بلغ 69% من المساعدات الحاليّة التي تطرح في ورقة المنامة التي ستقدم خلال عشر سنوات إن وافق الفلسطينيون عليها، لكن الورقة المقترحة لم تتضمن أي اصطلاح سياسي يتعلق بالدولة أو الانتخابات أو المجلس الوطني أو غيره من المؤسسات ذات الدلالة السياسية لدعم الحوكمة للوصول إلى حكومة قادرة على تسيير الأعمال وإدارة الشركات الجديدة العابرة.
يبلغ التخوف مداه في خلو ما تطرحه ورقة المنامة من أي اصطلاح سياسي، إضافة لتحويل الفلسطينيين إلى عمال جدد في شركات عابرة للحدود مع امتيازات رفاهية تتعلق بشرب المياه النظيفة والرواتب المتوسطة وتقليل البطالة، إضافة للمشاريع السياحية مع إبقاء سيطرة الاحتلال الإسرائيلي على استحقاقات السيادة خصوصًا المعابر والحدود التي ستديرها شركات أمنية وتكنولوجية بطبيعة الحال ذات ارتباط بالاحتلال الإسرائيلي.
في مقالة سابقة قبل انعقاد قمة المنامة على “نون بوست” بعنوان: “صفقة القرن.. الرفض الفلسطيني يفشل المخطط قبل بدايته”، تطرقنا فيها لمحاولات نزع الاقتصاد من مضمونه السياسي، إضافة لتطور الخطاب الرسمي الفلسطيني نحو مصطلحات “السيادة والسياسة والمشروطية وتحسين شروط الحياة تحت الاحتلال الإسرائيلي…”، وسنركز في هذه المادة على اصطلاح جديد تسعى منظومة الفاعلين الموافقين والداعمين لصفقة القرن على تمريره وهو “تحويل الإعمار المقاوم إلى إعمار عابر” وإعادة هندسة الاحتلال عبر العبور للمنظومة الاقتصادية الجديدة، من خلال ما تطرحه ورشة المنامة عبر تطوير قطاع السياحة الفلسطينية.
تحويل شاطئ قطاع غزة الممتد قرابة 40 كيلومترًا إلى مدينة ذات طراز عصري، كنظيراتها في بيروت وهونغ كونغ ولشبونة وسنغافورة وتل أبيب.. هذه تتطابق مع وعودات الأمريكيين سابقًا بأن تصبح غزة سنغافورة قبل نشأة السلطة، وهو ما كان يردده الرئيس الشهيد ياسر عرفات بأن غزة بعد الاستقلال ستصبح مثل سنغافورة، وهو ما لم يتحقق، بل وقد دمر الاحتلال الإسرائيلي خلال انتفاضة الأقصى عام 0200 غالبية مواقع ومؤسسات السلطة الفلسطينية التي بناها المانحون بأموالهم.
تفكيك الكتل الإسمنتية والمواقع العسكرية لتحقيق السياحة
تحويل ساحل قطاع غزة لشركات سياحية عبر مستثمرين فلسطينيين وأجانب يعمل فيها الفلسطينيون إما عمال أو رجال أمن، وحماية لهذه الشركات الغاية الثانية بعد الأولى التي تأتي لإعادة تحويل كل الإعمار المقاوم من المخيمات الفلسطينية والمناطق ذات الكثافة السكانية التي يسهل فيها قتال الشوارع أو تحويل المستوطنات التي انسحب منها الاحتلال الإسرائيلي عام2005 التي تبلغ مساحتها قرابة 50% من مساحة قطاع غزة إلى مشاريع سياحية وهي التي تمتلئ بالمواقع العسكرية لفصائل المقاومة.
بالعودة لما خلفته حرب 2014 التي اتبعت تفكيك “الكتلة الإسمنتية” الصلبة على حدود غزة الشرقية مع فلسطين المحتلة من شرق مدينة رفح وخانيونس والشجاعية وبيت حانون لخلق مساحة فراغ عابرة يسهل فيها تصيد أي عمليات للمقاومة ورصدها من الجو، ثم إعادة هندسة البيوت المدمرة وساكنيها عبر مشاريع إسكانية عابرة تتصف بشوارعها الممتدة الواسعة التي تدخل نظام “السيستم” باتفاقية مشتركة بين السلطة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي والأمم المتحدة، يقدم للاحتلال خدمة رصد كاملة للبنايات الجديدة وساكنيها، وكذلك لإستراتيجيات تعامل جديدة مع هذه المجمعات السكنية الجديدة.
يعني نقل الفلسطينيين من المخيمات أو المناطق ذات الكثافة السكانية العالية إلى مشاريع إسكانية اقتصادية صغيرة بشوارع وبنى تحتية جيدة يسهل مراقبة حركتها والسيطرة عليها حتى بطريقة غير مباشرة من الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما تسعى صفقة القرن لتطبيقه على غرار مدينة روابي في رام الله ذات الإعمار العابر والمحال التجارية والماركات مرتفعة السعر، وهدم كل مواقع المقاومة أو حركة التسلح الفلسطينية لإعادة بناء المدن السياحية الجديدة.
سؤال مهم للمقارنة بين الوضع الحاليّ والمستقبلي: لماذا يحارب الاحتلال الإسرائيلي حالة السياحة والفندقة في القدس للفلسطينيين المقدسيين، وكذلك قرب كنيسة المهد، وفي المواقع الأثرية الفلسطينية في الضفة؟ ولماذا لم يتحقق الاستثمار السياحي المطلوب في مكانين من أقدس الأماكن على وجه الأرض؟
في تفنيد مشاريع السياحة ضمن صفقة القرن
الحديث عن تسهيلات للإقراض السياحي وإعادة تأهيل للمواقع بقيمة 750 مليون دولار في التمويل التساهلي و200 مليون دولار في المنح التمويلية جزء منها لتحسين وتطوير المستلزمات المتاحة للسياح والمواقع السياحية والخدمات الفندقية وشركات السياحة، والتركيز على القروض منخفضة الفائدة، وتوفير 375 مليون دولار كمبالغ متاحة للإقراض لمدة خمس سنوات.
وإضافة 1.5 مليار دولار للتمويل السياحي يشمل الضفة الغربية وغزة ومصر والأردن ولبنان، لجذب عشرات الآلاف من السياح الأجانب، وقد ساقت ورقة المنامة بوظة “حسن روكاب” المعروفة بـ “رُكب” في رام الله كإحدى الشركات الفلسطينية التي تريد بناء نماذج على شاكلتها لتشجيع الاقتصاد السياحي الفلسطيني، وقد حاربت كل من أمريكا والاحتلال الإسرائيلي أي وصول للمنتج الفلسطيني للعالمية منذ نشأة السلطة الفلسطينية حتى اليوم منها كثير من المنتجات الفلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية.
بل وعلى النقيض تمامًا عملت على تدمير البنية السياحية الفلسطينية القائمة مثل “منتجع الواحة السياحي” الذي أنشئ عام1998 وذاع صيته آنذاك، حيث استأجرت الأرض شركة الشرق للاستثمار وأقامت المنتجع برأس مال قيمته 8 ملايين دولار حتى توقف عن العمل بداية انتفاضة الأقصى عام 2000 ودمرت قوات الاحتلال الإسرائيلي جزءًا كبيرًا منه.
للاستثمار السياحي حتى ينجح طريقان واضحان: إما أن يخضع للحماية الإسرائيلية وسيادتها تمريرًا لعبوره، أو أن يضمن بقاء الأوضاع الأمنية والسياسية مستقرة تمامًا تمنع اعتداء قوات الاحتلال الإسرائيلي على تلك المواقع السياحية التي سيعمل بها عمال فلسطينيون هم أصحاب الأرض أصلاً، ويعمل على حمايتها كذلك عمال فلسطينيون آخرون.
إن القرار الأمريكي الضامن لتنفيذه من الاحتلال الإسرائيلي لعبور كل المشاريع السياحية القادمة في هذا التوقيت ضمن “صفقة القرن” يعني تمامًا أن المعطل هو السياسي وليس الاقتصادي، والدليل فشل كل المشاريع السياحية التي بينت بأموال المانحين أو المستثمرين في القطاع الخاص نتيجة عدم استقرار الأوضاع السياسية، وهو ما يعني ضمان التغيير في البنية الفلسطينية المقاومة نحو الاقتصادات العابرة دون التدخل في السياسة لصالح العيش فقط والرفاهية لضمان نجاح هذه المشاريع وهو ما كان يطرحه الوسيط الأمريكي في انحياز للاحتلال الإسرائيلي في اتفاق أوسلو، فنجاح عملية السلام وبقاء تدفق أموال المانحين مرتبط تمامًا باستقرار الحالة الأمنية والسياسية على الأرض.