في 9 من يناير/كانون الثاني عام 1995، اُستقبل زوَّار دراس، وهي بلدة تقع على ارتفاع أكثر من 10 آلاف قدم (أكثر من 3 آلاف متر) في إقليم كشمير الذي تديره الهند، بلافتة تشير إلى أن درجة الحرارة تصل 60 درجة مئوية تحت الصفر، وهي ثاني أكثر المناطق المأهولة بالسكان برودةً على كوكب الأرض.
لم يكن هذا مصدر الشهرة الوحيد لهذه المدينة التي تقع في مقاطعة كارجيل، ففي صيف عام 1999، كان على حدودها الغربية مع قمم جبال الهيمالايا الصخرية القاحلة الحرب الأخيرة التي دخلت فيها الهند وباكستان في نزاع مسلح كامل، كذلك كانت المرة الأولى التي تدخل فيها الدولتان المتجاوتان في نزاع بعد أن أصبحتا قوى نووية.
ومنذ 1999، يحتفل الجيش الهندي في 26 من يوليو/تموز من كل عام – وهو اليوم الذي انتهت فيه حرب كارجيل المعروفة أيضًا باسم “صراع كاراجيل” بين الهند وباكستان – بيوم “فيجاي ديواس” أو “يوم النصر”، وبعد عقدين من الحرب بين الجيران المسلحين في تلال كشمير، لا تزال المنطقة المتنازع عليها على حافة الهاوية.
ماذا حدث قبل 20 عامًا؟
بالعودة إلى ما قبل بدء حرب كارجيل، تم تقسيم إقليم كشمير في جنوب جبال الهملايا بين الهند ذات الأغلبية الهندوسية وباكستان ذات الأغلبية المسلمة منذ استقلال البلدين عن الحكم البريطاني عام 1947، وتطالب كل من الدولتين بالسيطرة على الإقليم بالكامل، مما أدى إلى مواجهة استمرت 70 عامًا، وتحولت المنطقة إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية في العالم.
وفي عام 1999، كان هناك لواء واحد فقط من الجيش الهندي، يتألف من 3 وحدات مع نحو 2500 جندي، ومسؤول عن حراسة 300 كيلومتر من الأراضي الهندية، على طول خط السيطرة بين ممر زوجيلا الجبلي وبلدة ليه، وهذا يعني أن وحدة واحدة كانت مسؤولة عمَّا يقرب من 100 كيلومتر من الأرض، وهي مهمة كانت أقرب إلى المستحيل.
احتل الجيش الباكستاني والمتمردون الكشميريون مواقع إستراتيجية على الجانب الهندي من الحدود الفعلية بينهما، مما دفع الهند إلى شن هجوم مضاد، أدَّى إلى اندلاع ما أصبح معروفًا بـ”حرب كارجيل”
هذه القطاعات هي العمود الفقري الأساسي للاحتياجات اللوجستية للجيش الهندي من زوجيلا إلى نهر سياشين الجليدي الذي مثَّل ساحة القتال الأكثر ارتفاعًا في العالم، فعدد الجنود الذين قُتلوا من شدة البرد والانهيارات الجليدية يفوق عدد الذين قتلوا برصاص العدو، كانت هناك حاجة إلى المزيد من الوحدات، ولكن لم يتم الشعور بالحاجة بعد ذلك.
تم إخلاء المواقع الهندية على طول خط السيطرة في قمم الجبال قبل فصل الشتاء، وفعل الباكستانيون الذين يحرسون المواقع الجبلية بالمثل على مواقع الخطوط الأمامية، وكان هذا تفاهم بين الجانبين بسبب الظروف المعيشية غير الملائمة في هذه المناطق التي يتراوح ارتفاعها بين 14 ألف و18 ألف قدم، مع تساقط الثلوج في فصل الشتاء الغزير عن بقية العالم.
وكانت معظم الطرق المؤدية إلى هذه المواقع إمَّا غير مزودة بمحركات أو غير موجودة، ولم تكن طلقات المدفعية – الحاسمة في تدمير مستودعات العدو المرتفعة في الجبال أو لإطلاق النار بدقة على قوات العدو المختبئة خلف الصخور – كافية، ولم تكن هناك مراقبة بواسطة معدات عالية التقنية مثل الطائرات الجوية دون طيار.
استمرت حرب كارجيل لمدة ثلاثة أشهر تقريبًا خلال صيف عام 1999
استفاد الجيش الباكستاني من أوجه القصور هذه، خاصةً عدم وجود القوات الهندية خلال فصل الشتاء، فتسلل الجنود الباكستانيون إلى القطاعات الفرعية (مشكوه ودراس وكارجيل وباتليك وتورتوك) بين زويجيلا وليه، وعبروا خط السيطرة، وتوغلوا مسافة بين 4 إلى 10 كيلومترات داخل الأراضي الهندية، وشغلوا 130 موقعًا هنديًا تم إخلاؤهم خلال فصل الشتاء، وأرادت باكستان قطع الطريق السريع الذي يربط سريناجار مع ليه، وبالتالي قطع الطريق بين لداخ وسياتشن، وهي خطوة لم تتوقعها الهند.
في الأسبوع الأول من شهر مايو/أيار، لاحظ الرعاة المحليون في كارجيل تحركات غير عادية بالقرب من الجبال، فنقلوا هذه المعلومات إلى الجيش الهندي، الذي أرسل دوريات لمعرفة المزيد، واكتشفت الدوريات وجود المتسللين الذين احتلوا المرتفعات الاستراتيجية، وتم تنفيذ أول عملية عندما كان الضابط في الجيش الهندي سوراب كاليا و5 جنود آخرين في دورية في مركز باجرانج بالقرب من دراس، دخلوا في معركة بالأسلحة النارية، حتى نفاد الذخيرة، فتم القبض على كاليا والآخرين على أيدي القوات الباكستانية وتعذيبهم وقتلهم، وفي الوقت نفسه، بدأت المعلومات تتدفق من السكان المحليين بشأن التدخل الباكستاني.
وسط ضبابية اللحظات الأولى للنزاع، ومع عدم توفر الكثير من المعلومات الاستخباراتية، كان من المفترض أن المتسللين كانوا من المتشددين أو الإرهابيين الذين ينتمون إلى الجماعات الجهادية التي تعمل خارج باكستان، وليسوا من قوات الجيش الباكستاني النظامية، لكن خلال الأسابيع القليلة التالية، وعندما خاض الجنود الهنود معارك عديدة لاستعادة مرتفعات كارجيل، وبعد أن حصل الجنود الهنود على بطاقات الهوية من جثث المتسللين المقتولين، أصبح من الواضح أن الجيش الباكستاني هو الذي دخل عبر خط السيطرة.
بصرف النظر عن الهجوم العسكري، أطلقت الهند أيضًا حملة دبلوماسية لعزل باكستان على المستوى الدولي. اقتربت إسلام أباد من الغرب والصين من أجل دفع الهند إلى وقف هجومها
نفى الجيش الباكستاني تورطه في اقتحام كارجيل، وذهب إلى حد رفض جثث ضباطه القتلى. فيما بعد، دفنت القوات الهندية بعض الجنود في قبور غير معلمة بالقرب من المواقع التي شهدت قتالًا عنيفًا بين القوات الهندية والباكستانية، لكن في ذروة نزاع كارجيل، دحض شريط صوتي أكاذيب الجيش الباكستاني. كان الشريط يتضمن مكالمة هاتفية بين قائد الجيش الباكستاني آنذاك الجنرال برويز مشرف وأحد كبار جنرالاته، وقد تم اعتراض المكالمة الهاتفية من قبل وكالة الاستخبارات الخارجية الهندية، وقدمت الهند الماكلمة التي كان يتحدث فيها الجنرالان الباكستانيان عن حرب كارجيل، لإثبات تورط الجيش الباكستاني المباشر في الصراع.
في هذه الأثناء، في ساحات معركة كارجيل، عزز الجيش الهندي الضغط ببطء، وأرسل فرقًا تلو الأخرى لتسلق الجبال واستعادة القمم، وكانت نقطة تحول حرب كارجيل هي استعادة قمة تولولينج المطلة على طريق “سريناجار – كارجيل – ليه” السريع، وهكذا أعطت الباكستانيين فرصة لقطع الطريق السريع الاستراتيجي، واستعاد الجنود الهنود قمة تولولينج في 13 يونيو/حزيران 1999.
أدَّى الهجوم الهندي المضاد إلى اندلاع ما أصبح معروفًا بـ”حرب كارجيل”، التي استمرت لما يقرب من 3 أشهر، وقُتل خلالها أكثر من 500 جندي هندي وما يقرب من 400 جندي باكستاني، وانتهت بنجاح الهند في دفع المقاتلين الباكستانيين الذين وصفتهم بـ”المتسللين” إلى الجانب الآخر من خط السيطرة، وبينما حددت باكستان تحركاتها للسيطرة على المواقع الهندية على طول خط السيطرة باسم “عملية بدر”، أطلقت الهند “عملية فيجاي” الهجومية، لتطهير مقاطعة كارجيل من القوات الباكستانية المتسللة.
وبصرف النظر عن الهجوم العسكري، أطلقت الهند أيضًا حملة دبلوماسية لعزل باكستان على المستوى الدولي. اقتربت إسلام أباد من الغرب والصين من أجل دفع الهند إلى وقف هجومها. ومع ذلك، لم تتلق إسلام أباد الكثير من الدعم، حيث دعت معظم الدول باكستان إلى سحب قواتها من منطقة الصراع.
قتلت حرب كارجيل أكثر من 500 جندي هندي ونحو 400 جندي باكستاني
بعد ذلك، تم حل الأزمة الدبلوماسية في أوائل شهر يوليو/تموز، حيث قامت الولايات المتحدة القوية بحمل باكستان على التعهد بالانسحاب من منطقة النزاع، ثم زار رئيس الوزراء الباكستاني نواز شريف الولايات المتحدة في أوائل يوليو/تموز للقاء الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، الذي تلقى معلومات تفيد بأن باكستان ربما تجهز أسلحتها النووية للاستخدام المحتمل، فسارع كلينتون إلى حل الأزمة، وحمل شريف على توقيع بيان يقول إن باكستان ستسحب قواتها دون قيد أو شرط من منطقة الصراع في كارجيل.
استمر الصراع في كارجيل على مدى الأسبوعين التاليين، حيث بدأت القوات الهندية تطهير المرتفعات من المتسليين الباكستانيينن وبقي بعضهم في أماكن معينة، حتى طُردوا بالقوة، وبحلول 26 يوليو/تموز، تم استعادة جميع المرتفعات والقمم، وانتهت حرب كارجيل رسميًا.
كانت هذه الحرب أكثر من مجرد معركة خاضتها الدولتان الجارتان في عصر القنوات الإخبارية الفضائية، حيث تم بث المعارك مباشرة إلى المنازل في كلا البلدين، مما جعل بلدة دراس رمزًا لوطنية الهند، ومصدر إلهام لطيف واسع من أفلام بوليوود التي جسدت ذلك في شكل سياسة خارجية عدوانية، تمثلت في دعوة الدولة لاستخدام التهديدات أو القوة الفعلية مقابل العلاقات السلمية في الجهود المبذولة لحماية ما تعتبرها مصالحها القومية.
بعد 20 عامًا من الحرب.. كشمير من سيء إلى أسوأ
تفصل الهيمالايا بلدة دراس، الواقعة على بعد نحو 150 كيلومترًا شرق مدينة سريناجار الرئيسية في كشمير، حيث ينتمي الناس هناك إلى أصول من آسيا الوسطى، ويتحدثون بلغات بالتي ودارديك الإقليمية، ويعيشون بنفس الطريقة التي اعتادها أجدادهم، لكن الكثير تغير منذ الحرب، حيث تجذب المدينة الآن السياح من جميع أنحاء الهند وخارجها، بعد أن كان عدد قليل جدًا من الناس في وقت سابق يأتون إلى هذا المكان المهجور، وساعدت الظروف المعيشية القاسية في المنطقة على التئام آثار الحرب بسرعة.
في حين دعت باكستان إلى تدخل طرف ثالث في النزاع الذي طال أمده، أصرت الهند دائمًا على أنه لا يمكن حل المشكلة إلا من خلال المحادثات المباشرة مع إسلام أباد
وفي حين قد يدعي البعض أن حرب كارجيل وضعت أوزارها، إلا أن الخلاف لا يزال يلقي بظلاله الطويلة على العلاقات بين الجارتين المسلحتين نوويًا، مما يجعل مستقبل كشمير غير مؤكد، ويعزز من ذلك تصاعد الأعمال القتالية بين البلدين إلى مستوى جديد في فبراير/شباط من هذا العام، عندما قامت جماعة “جيش محمد” المسلحة، ومقرها باكستان، بتنفيذ هجوم انتحاري على قافلة عسكرية هندية بالقرب من سريناجار في القسم الذي تديره الهند من كشمير المتنازع عليها.
وأسفر هجوم “بولواما” الأسوأ منذ عقود عن مقتل 40 جنديًا هنديًا على الأقل، وأثار معارك وهجمات جوية داخل أراضي الدولتين، وجعل الهند وباكستان على شفا حرب أخرى واسعة النطاق، ورغم أن تهديد الحرب يبدو أنه قد خفت منذ ذلك الحين، فإن التوتر بين البلدين مستمر، مما يجمد أي حوار.
في هذه الأثناء، تعاني كشمير الخاضعة للإدارة الهندية من الاضطرابات على مدار العقود الثلاث الماضية ومنذ اندلاع تمرد مسلح ضد حكم نيودلهي في منطقة كشمير في أوائل التسعينيات، وفي السنوات الأخيرة، ازدادت المواجهات شبه اليومية بين المحتجين الذين يرمون الحجارة والمتمردين المسلحين من جانب، وقوات الأمن الهندية من ناحية أخرى، ثم جاءت “هجمات مومباي” عام 2008 لتزيد من تدهور العلاقات بين نيودلهي وإسلام أباد، وهو ما يشير إلى أن الكثير في إقليم كشمير لم يتغير حتى بعد عقدين من حرب كارجيل.
مواجهات بين متظاهرين كشميريين وقوات أمن هندية
وبالنظر إلى الحكم الاتحادي الذي فُرض في المنطقة المتنازع عليها في وقت سابق من هذا العام، لا يبدو أن شيئًا ما يتغير، لأن الوضع السياسي في كشمير انتقل من سيء إلى أسوأ ولا يعلم أحد متى ستجري انتخابات الولاية، ومما زاد من تعقيد الاضطرابات في كشمير إصرار نيودلهي على إلغاء القوانين التي تحمي البنية الديموغرافية للمنطقة ذات الأغلبية المسلمة الوحيدة في البلاد.
ومع ذلك، يتوقع البعض إمكانية حدوث انفراج في العلاقات بين الهند وباكستان إذا انخرط الطرفان بشكل مباشر في التفاهمات، وليس من خلال تدخل طرف ثالث، فقبل أيام قليلة، نفى وزير الخارجية الهندي بشدة ادعاء دونالد ترامب، خلال لقائه رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان، بأنه دُعي من الحكومة الهندية للتوسط في نزاع كشمير، وفي حين دعت باكستان إلى تدخل طرف ثالث في النزاع الذي طال أمده، أصرت الهند دائمًا على أنه لا يمكن حل المشكلة إلا من خلال المحادثات المباشرة مع إسلام أباد.
وفي الوقت الذي تعود فيه المواجهات العسكرية بين البلدين، فإن سوء الإدارة السياسية في كلا البلدين قد يؤدي إلى تصعيد التوتر، ففي الوقت الحاليّ، يبدو أن رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان يشعر بأن الدعوة إلى الحوار مع الهند تخدم دائرته الانتخابية، لكن رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي لا يعتقد أن الحديث مع باكستان سيخدم أجندته المحلية.
مع وجود حكومة قومية هندوسية برئاسة ناريندرا مودي، احتفل الجيش الهندي بالذكرى السنوية في جميع أنحاء البلاد، وقام برحلات تذكارية إلى قمم الجبال حيث وقع أعنف قتال، ولم تخل هذه الأجواء من نبرة التصعيد المتكررة بين الدولتين، حيث حذر قائد الجيش الهندي الجنرال بينبي راوات في كارجيل، باكستان من تكرار هجوم مماثل، وقال “إنهم (باكستان) لم يقدِّروا إرادة ونوايا المؤسسة السياسية والقوات المسلحة الهندية التي لن تسمح لهم بالنجاح مطلقًا”، وأضاف: “تحذيري لباكستان هو: “لا تكرروا مثل هذه المغامرة في أي وقت في المستقبل وفي أي مكان، لا تفكروا في ذلك”.