في الوقت الذي أعلنت فيه الحكومة المصرية استهدافها تخفيض نسبة الفقر بجميع أبعاده إلى النصف بحلول عام 2020، والقضاء عليه نهائيًا بحلول عام 2030، أعلن “الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء” في مصر (حكومي)، ارتفاع معدل الفقر في البلاد خلال العام المالي 2017-2018 إلى 32.5%، مقابل 27.8% خلال العام المالي 2015-2016، فضلاً عن ارتفاع نسبة المواطنين القابعين تحت خط الفقر إلى 6.2% مقابل 5.3%، بما يمثل أكثر من 6 ملايين مصري.
تأتي تلك الإحصاءات وفق ما ذهب رئيس الجهاز اللواء خيرت بركات، في مؤتمر صحافي، أمس الإثنين، استنادًا إلى نتائج بحث الدخل والإنفاق عن العام المالي 2017-2018، الذي أكد ارتفاع متوسط الإنفاق الكلي للأسرة من 36 ألف جنيه إلى 51 ألف جنيه سنويًا.
وكان البنك الدولي في تقرير له في مايو/أيار الماضي قد قال: “أكثر من 30% من المصريين تحت خط الفقر، و60% إما فقراء أو عرضة له كما أن عدم المساواة آخذة في الازدياد”، وهي الأرقام التي اعترض عليها مقربون من دوائر صنع القرار في مصر – آنذاك – باعتبارها غير دقيقة على حد وصفهم.
يذكر أن البنك الدولي يحدد 1.9 دولار في اليوم تعادل (1026 جنيهًا تقريبًا في الشهر) حدًا للفقر المدقع عالميًا، بينما حدد البحث قيمة خط الفقر للفرد في السنة عند 8827 جنيهًا ( 0.533$ تعادل 265 جنيهًا تقريبًا)، ليبقى السؤال: كيف وصل المصريون إلى هذا المستوى رغم برامج الإصلاح الاقتصادي التي تبنتها الحكومة خلال الأعوام الأربع الأخيرة؟
الأعلى في 20 عامًا
تعد نسبة الفقر المعلنة بحسب الجهاز الرسمي المصري هي الأعلى على مدار الـ20 عامًا الأخيرة، حيث زادت من 16.7% في 2000/1999 إلى 21.6% في 2009/2008، ثم 25.2% في 2011/2010، ثم 26.3% في 2013/2012، ثم إلى 27.8% عام 2015، ثم ارتفعت النسبة إلى 32.5% في فترة 2017/2018.
ووفق التقرير، شهدت الفترة من عام 1999 إلى 2009 زيادة في نسبة الفقر المدقع ثم أخذت في التراجع خلال فترة 2009-2013، لكنها عاودت الزيادة بعد ذلك بنسبة تصل إلى 6.2% في 2017/2018.
تأخر الإعلان الرسمي عن تسريبات البنك الدولي بشأن معدلات الفقر في مصر قبل شهرين أثارت الكثير من التساؤلات عن دوافعه الحقيقية
وقد بلغت قيمة خط الفقر للفرد في السنة في فترة 2017/2018، قرابة 8827 جنيهًا، فيما بلغ خط الفقر المدقع في نفس الفترة 5890، بينما بلغ متوسط خط الفقر 736 جنيهًا للفرد شهريًا أما المدقع فكان 491 جنيهًا شهريًا، وذلك وفقًا لخصائص كل أسرة ولتركيبها العمري والنوعي ومكان إقامتها.
وأضاف التقرير أن الأسرة المكونة من فردين بالغين تحتاج إلى 1667 جنيهًا شهريًا، حتى تستطيع الوفاء باحتياجاتها الأساسية، بينما تحتاج الأسرة المكونة من فردين بالغين وطفلين إلى 2691 جنيهًا، فيما تحتاج الأسرة المكونة من فردين بالغين وثلاث أطفال إلى 3225 جنيهًا في الشهر، لافتًا إلى أن متوسط ما تحصل عليه الأسرة من مختلف أنواع الدعم الحكومي (مثل دعم غذائي – دعم بوتاجاز – دعم كهرباء) نحو 640 جنيهًا شهريًا، أي 7680 جنيهًا سنويًا.
أوضاع معيشية صعبة يحياها المصريون خلال الأعوام الأخيرة
التأخير في الإعلان.. لماذا؟
تأخر الإعلان الرسمي عن تسريبات البنك الدولي بشأن معدلات الفقر في مصر قبل شهرين أثارت الكثير من التساؤلات عن دوافعه الحقيقية، فيما ذهب الخبير الاقتصادي الدكتور إبراهيم نوار إلى أن معدل الفقر الحقيقي المتوسط، وليس المدقع، أكثر من 40% في مصر.
وعن تأخير الكشف رسميًا عن حقيقة تلك الأرقام قال: “حقيقة زيادة الفقر في مصر تتحدث عن نفسها”، مضيفًا “الحكومة لا تريد إعلان نتائج البحث حتى لا تفسد على نفسها حفلة الاحتفال بالإنجازات ونتيجة الاستفتاء على تعديل الدستور”، لافتًا في الوقت ذاته إلى غياب الشفافية فيما يتعلق بالإفصاح عن مثل هذه الأرقام، كاشفًا أن الحكومة مسؤولة أمام المؤسستين، البنك والصندوق، فقط، ولا علاقة لها بالمواطنين.
60 مليون مصري الآن – طبقًا لتقدير البنك الدولي – ليس لديهم من الدخل ما يكفي للحصول على غذاء يحفظ أجسامهم بكفاءة وحيوية وهم عرضة لأمراض نقص الغذاء، وعلى رأسها مرض التقزم الناتج عن سوء التغذية
نوار وصف هذا الصمت المخيم على أرجاء الشارع المصري جراء تزايد نسب الفقر بسبب السياسات الاقتصادية المتبعة بحالة “الإغماء الاجتماعي” لافتًا في تدوينة له على صفحته الشخصية على “فيسبوك” أن “الناس في مصر أصبحوا مغمى عليهم اجتماعيًا بسبب صدمات الأسعار المتكررة والتقلبات اليومية للأسواق.. ومع زيادة حالة الإغماء الاجتماعي واتساع نطاقها، ستزيد محاولات الهروب من الواقع بالمخدرات أو الانتقام من الواقع بالجريمة أو الانتقام من النفس بالانتحار”.
الرأي ذاته ذهب إليه الخبير الاقتصادي عبد الحافظ الصاوي الذي أشار إلى أن “بيانات مسح الدخل والإنفاق المفترض أن تصدر كل عامين”، موضحًا أن آخر مسح معلن عام 2015، وبالتالي كان المفترض أن يعلن المسح الجديد في 2017.
وأضاف الخبير “الإجراءات الاقتصادية التي تم تنفيذها وفقًا لبرنامج صندوق النقد الدولي، أدت إلى زيادة معدلات الفقر بالبلاد”، مشيرًا أن “ما صدر عن البنك الدولي في بيانه مؤخرًا بشأن ارتفاع نسب الفقر وزيادة عدم المساواة بين المصريين ومعاناة الطبقة المتوسطة، جميعها تُظهر فشل أجندة البنك والصندوق الدوليين وسياساتهما في مصر”.
تهديد للمجتمع
ارتفاع معدلات الفقر بهذه النسبة لا شك أنه يمثل خطورة كبيرة على المجتمع المصري وأخلاقياته وتماسكه، هكذا يرى الدكتور أحمد ذكر الله أستاذ الاقتصاد بجامعة الأزهر وخبير دراسات الجدوى، مضيفًا في تصريحات نقلتها “الجزيرة”: “من المعروف أن تقدير خط الفقر كان للدلالة على الدخل الذي يكفي الإنسان للحصول على مقدار من السعرات الحرارية يحافظ على كفاءة أجهزة جسمه وأعضائه الحيوية”.
وأضاف ذكر الله “بذلك فإن 60 مليون مصري الآن – وطبقًا لتقدير البنك الدولي – ليس لديهم من الدخل ما يكفي للحصول على غذاء يحفظ أجسامهم بكفاءة وحيوية وهم عرضة لأمراض نقص الغذاء، وعلى رأسها مرض التقزم الناتج عن سوء التغذية”.
يذهب الكثير من المحللين إلى أن هذا المعدل في طريقه للزيادة خلال السنوات المقبلة في ظل الإبقاء على ذات السياسات التي تراعي إرضاء المنظمات الدولية الداعمة لمصر عبر بوابة القروض
الخبير الاقتصادي لفت إلى ثلاثة حلول رئيسية للخروج من هذه الأزمة، على رأسها أن تتحول مصر لدولة إنتاجية تصديرية حتى تستطيع المنافسة في الأسواق الدولية، كذلك ضرورة أن تعمل الحكومة على إعادة تشغيل المصانع المتعثرة التي يصل عددها لخمسمئة تقريبًا، والتوقف عن إهدار أموال الدولة والأموال المقترحة فيما يسمى المشروعات القومية غير ذات الجدوى الاقتصادية.
أما الحل الثالث كما يراه أستاذ الاقتصاد بجامعة الأزهر فيتمثل في زيادة البرامج الاجتماعية التي تعالج الآثار السلبية لبرنامج الإصلاح الاقتصادي لدعم الفقراء ومساندة محدودي الدخل، بحسب ما بين الخبير الاقتصادي.
الرئيس المصري خلال لقائه ومديرة صندوق النقد الدولي في القاهرة
أما رئيسة المركز الدولي للاستشارات الاقتصادية ودراسة الجدوى، هدى الملاح، فترى أن أي نظام اقتصادي معرض للصدمات، وعليه لا بد من البحث عن آليات لإعادة وضع التوازن حتى يتم القضاء على الفقر والبطالة والجهل والمرض.
وأضافت الملاح في تصريحاتها لـ”نون بوست” أن الإصلاح الاقتصادي يجب أن يكون مبنيًا علي أسس سليمة، وذلك من خلال سياسات اقتصادية سواء كانت مالية أم نقدية، وبشرط أن تكون تلك السياسات المستخدمة مطابقة للواقع، علاوة على الوقوف على مدى قدرة الدولة على تنفيذها في الوضع الراهن واختيار الإستراتيجيات الملائمة للمرحلة الحاليّة.
وأشارت أن نجاح تلك الاستراتيجية يتوقف على المتابعة والرقابة الفعالة لنتائج الإصلاح، أي متابعة التعامل مع الدول الأخرى (أي العلاقات الاقتصادية حيث الاهتمام بالمزايا النسبية للدولة)، كذلك متابعة النشاط الخارجي (وضع قيود على تحويلات الأرباح حتى لا يدخل المستثمر لتحقيق أرباح ويخرج دون الاستفادة بشكل حقيقي).
وتابعت: لكي يكون لدينا توازن اقتصادي لا بد من استقرار الأسعار وعمل شبكة ضمان اجتماعي لأصحاب الدخول المنخفضة، مع توفير السلع الأساسية تكون في متناول جميع طوائف الشعب وكل ذلك لن يتحقق إلا في ظل عدالة توزيع الأجور بهدف توفير حياة كريمة لجميع أفراد المجتمع أي تحقيق التوازن والاستقرار معًا.
وفي المجمل.. تسير معدلات الفقر في مصر بمنحنيات فائقة السرعة خاصة بعد قرار تعويم العملة المحلية، وهو ما أكده جهاز التعبئة العامة والإحصاء في تقاريره المتتالية، إلا أن الأمر يبدو أنه لن يقف عند هذا الحد، إذ يذهب الكثير من المحللين إلى أن هذا المعدل في طريقه للزيادة خلال السنوات المقبلة في ظل الإبقاء على ذات السياسات التي تراعي إرضاء المنظمات الدولية الداعمة لمصر عبر بوابة القروض، أما المواطن فبات من الواضح أنه خارج الحسابات بصورة لم تثر قلق الحكومة من أي رد فعل محتمل جراء المزيد من الضغوط الممارسة عبر زيادة في الأسعار أو فرض المزيد من الضرائب والرسوم.