أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية بشكل رسمي انسحابها رسميًا من المعاهدة الدولية لحظر الصواريخ النووية متوسطة المدى، والتي وقعتها مع الاتحاد السوفياتي عام 1987، وذلك استجابة لتهديدها السابق بالانسحاب في الثاني من أغسطس/ آب 2018.
وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، في بيان له، الجمعة، أكد وبشكل كامل انسحاب بلاده محملا موسكو مسؤولية هذا القرار، قائلا “روسيا فشلت في العودة إلى الامتثال الكامل والتحقق من خلال تدمير نظام الصواريخ غير المتوافق”.
حالة من القلق أثارتها الخطوة الأمريكية التي تحمل الكثير من الدلالات إلا أن وزارة الدفاع الأمريكية، (البنتاغون) ادعت أن واشنطن لا تنوي نشر صواريخ نووية أرضية جديدة في أوروبا، في محاولة لتبديد المخاوف بشأن تبعات هذا القرار، غير أن أنظمة الدفاع الصاروخي “إيجيس آشور” الموجودة في رومانيا، والتي يمكن استبدالها عند الضرورة بصواريخ متوسطة المدى، قادرة أن تصل إلى أهدافها في غضون دقائق دون أن تترك فرصة للهدف للاستعداد، تبدد تلك المزاعم وتعزز من وقع التخوفات.
يشار إلى أن اتفاقية الصواريخ القصيرة والمتوسطة هي المعاهدة المبرمة بين أمريكا واتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية سابقا للقضاء على الصواريخ المتوسطة وقصيرة المدى، وقعها الرئيس الأميركي رونالد ريغان والرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف، وتنص على اعتبار كل الصواريخ التي يتراوح مداها بين 500-5500 كم خارجة عن القانون، وبفضل ذلك تم تدمير جزء كبير من الإمكانيات النووية لكلا البلدين، وتم إنهاء سباق التسلح؛ الذي يمكن أن يبدأ من جديد الآن.
مسؤولية روسية
لم تحمل واشنطن وحدها موسكو مسؤولية الانسحاب من الاتفاقية، إذ سارت على نهجها العديد من القوى الدولية، على رأسها حلف شمال الأطلسي “الناتو” والذي أكد مرارًا تأييده لأي سبيل لردع روسيا بشأن إطلاقها صواريخ جديدة متوسطة المدى، لافتا أنها انتهكت شروط المعاهدة عندما طورت صاروخ (نوفاتور 9إم729) الذي يملك قدرات نووية والمعروف أيضا باسم (إس.إس.سي-8).
الموقف ذاته تبنته لندن، فعلى لسان وزير خارجيتها، دومينيك راب، فإن روسيا هي التي تتحمل مسؤولية انسحاب الولايات المتحدة من المعاهدة، مضيفًا أن بلاده تؤيد أي تحرك من جانب الناتو ردا على ذلك، مضيفًا في تغريدة له على حسابه على “تويتر” : “تسببت روسيا في انهيار معاهدة القوى النووية المتوسطة المدى عن طريق تطويرها ونشرها سرا لنظام صاروخي ينتهك المعاهدة يمكنه استهداف عواصم أوروبا” وتابع” “ازدراؤهم للنظام الدولي القائم على القواعد يهدد الأمن الأوروبي”.
وفي وارسو، حملت وزارة الخارجية البولندية الجانب الروسي مسؤولية انهيار المعاهدة، مضيفة في تغريدة كُتبت على الصفحة الرسمية للوزارة على موقع “تويتر” : “عدم استعداد روسيا للعودة إلى الامتثال لمعاهدة القوى النووية المتوسطة المدى لم يترك للولايات المتحدة أي خيار”.
الرئيس السوفياتي الأسبق ميخائيل غورباتشوف حذر من أن انسحاب الولايات المتحدة من المعاهدة يهدد بإطلاق العنان لسباق تسلح جديد خطير وفوضى دولية
دوافع عدة وقفت وراء القرار الأمريكي بالانسحاب من تلك الاتفاقية، فبجانب ما تدعيه واشنطن بشأن نشر موسكو لصواريخ في أوروبا، فإن نظرية “أمريكا أولا” هي التي تهيمن على القرار الأمريكي في ولاية الرئيس دونالد ترامب الأولى، تلك النظرية التي تدفع الإدارة الأمريكية إلى محاولة استعادة نفوذها القديم والتفرد بالسيادة الدولية رغم ما تعانيه البلاد من تراجع دولي في ظل بروز قوى أخرى استطاعت أن تسحب البساط من تحت أمريكا في مناطق عدة وملفات مختلفة.
علاوة على ذلك فإن المعاهدة تشمل أمريكا وروسيا، ولا تشمل بكين، التي تخوض حلقات صراع محتدمة مع واشنطن، والتي قد تتجه نحو تطوير الأسلحة النووية المُتوسطة المدى، ومن ثم كان لابد من البحث عن آلية للتخلص من المُعاهدة أو تعديلها على نحوٍ لا يكبلها بقيود شديدة، ولا يسمح للقوى الأخرى بالاستفادة من هذا التكبيل بما يؤثر على مصالح وقوة الولايات المتحدة ومكانتها الدولية.
وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو
موسكو تنفي
في المقابل نفت موسكو الاتهامات التي وجهتها إليها الخارجية الأمريكية، مؤكدة أنها طلبت من واشنطن تعليق نشر الصواريخ النووية القصيرة والمتوسطة المدى في أوروبا، واصفة خروج الولايات المتحدة بـ “الخطأ الجسيم”.
نائب وزير الخارجية الروسي سيرجي ريابكوف علق على هذا القرار بقوله “اقترحنا على الولايات المتحدة ودول حلف شمال الأطلسي الأخرى أن تدرس إمكانية إعلان وقف نشر الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى، إعلان كالذي أصدره فلاديمير بوتين”.
وتابعت الخارجية: قامت الولايات المتحدة في بادئ الأمر بإجراءات مستهدفة لإيقاف العمل بالمعاهدة، ومن خلقت ظروف لإنهائها بشكل كامل” مشيرة إلى أن واشنطن لم تفعل هذا للمرة الأولى، حيث أوقفت العمل، في عام أواخر التسعينيات، بمعاهدة الدفاع الصاروخي، رغم نداءات وتحذيرات المجتمع الدولي.
البيان اتهم واشنطن بتجاهل المخاوف الروسية بشأن الطريقة التي تنفذ بها (واشنطن) نفسها معاهدة التخلص من الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى على مدى سنوات طويلة، لافتا إلى أن ” مجرد نشر قاذفات “إم كيه-41″ في القواعد العسكرية الأمريكية في أوروبا، والقادرة على إطلاق صواريخ مجنحة متوسطة المدى، يعد انتهاكًا صارخًا للمعاهدة”.
وخلصت الخارجية إلى أن “خروج الولايات المتحدة من المعاهدة، يؤكد أنها تتجه نحو التخلص من جميع الاتفاقيات الدولية التي لا تتفق معها لسبب أو لآخر” مؤكدة أن موسكو لا تزال منفتحة أمام الحوار البناء مع واشنطن لاستعادة الثقة وتعزيز الأمن الدولي.
أعلنت الخارجية الصينية أن هذه الخطوة هي تجاهل واضح من واشنطن لالتزاماتها الدولية، محذرة على لسان المتحدثة باسم الوزارة من تأثير الانسحاب على الاستقرار والتوازن الإستراتيجي في العالم
فوضى دولية
حالة من القلق خيمت على الأرجاء في أعقاب تنفيذ واشنطن تهديدها السابق بالانسحاب، حيث التحذير من إحداث القرار لفوضى دولية وإعادة سباق التسلح بوجهه القبيح مرة أخرى في وقت يعاني فيه المجتمع الدولي من جراح لم تلتئم بعد لاسيما في منطقة الشرق الأوسط وتهديدات الملاحة البحرية وسوق النفط العالمي والحرب التجارية الساخنة بطبيعة الحال.
الرئيس السوفياتي الأسبق ميخائيل غورباتشوف حذر من أن انسحاب الولايات المتحدة من المعاهدة يهدد بإطلاق العنان لسباق تسلح جديد خطير وفوضى دولية، ويرى أن البيت الأبيض يقترب من الكارثة بموقفه المتشدد من المعاهدة: “لن يكون إنهاء المعاهدة مفيدا للمجتمع الدولي، فهذه الخطوة تقوض الأمن ليس في أوروبا فحسب، بل في العالم أجمع”.
وأضاف غورباتشوف (88 عاما) “كانت هناك بعض الآمال المعلقة على شركائنا، وهذا للأسف لم يتحقق، وأعتقد أنه لا يمكننا الانتظار لنرى أن هذا سيكون مسألة أمنية إستراتيجية… هذه الخطوة الأميركية ستتسبب في عدم اليقين والتطور الفوضوي للسياسة الدولية”، لافتا إلى أنه يتعين على كل الأطراف المعنية “التركيز الآن على حماية آخر ركيزة للأمن الإستراتيجي العالمي”، التي “تأكد عدم استمرارها” من خلال السياسة الأميركية.
من جانبه حذر كذلك الخبير العسكري الروسي، رئيس تحرير مجلة “الدفاع الوطني” الروسية، إيغور كوروتشينكو من تبعات انسحاب واشنطن المحتمل من الاتفاقية، كاشفا أن هذه الخطوة تعني سباقا جديدا للتسلح وزعزعة شاملة للوضع العسكري السياسي في العالم”.
وذكر أن المزاعم بشأن انتهاك المعاهدة المذكورة من قبل روسيا “مصطنعة” ولا أساس لها، وهي عبارة “عن كذب متعمد” أو قراءة خاطئة لمعطيات وسائل الاستطلاع التقنية الأمريكية”، مشددًا على أن أنظمة الصواريخ المعتمدة في روسيا لا تنتهك المعاهدة، مؤكدا أن بلاده ملتزمة ببنودها بصرامة.
جدير بالذكر أن معاهدة حظر الصواريخ النووية متوسطة المدى ربما لم تكن الأخيرة التي تنسحب منها أمريكا فيما يتعلق بالاتفاقيات الموقعة مع الجانب الروسي، إذ كشفت بعض المصادر الإعلامية الأمريكية أن واشنطن ربما تنسحب من معاهدات أخرى قريبًا على رأسها معاهدة ستارت الجديدة (وهي معاهدة وقعتها أميركا مع روسيا في الثامن من أبريل/نيسان 2010 في براغ، والتي تنص على تخفيض الحدود القصوى للرؤوس الحربية الهجومية الإستراتيجية للبلدين بنسبة 30%.
واشنطن تبرر الانسحاب بإخلال روسيا بالتزامات المعاهدة
قلق صيني
بعد ساعات قليلة من الإعلان الرسمي عن الانسحاب من الاتفاقية كشف وزير الدفاع الأميركي الجديد، مارك إسبر، عن رغبة بلاده في الإسراع في نشر صواريخ جديدة في آسيا خلال الأشهر المقبلة، مضيفًا “لا أرى سباقا للتسلح يحدث بل أرى أننا نتخذ تدابير استباقية لتطوير قدرات نحتاجها للمنطقتين الأوروبية وتلك المنطقة” في إشارة إلى منطقة آسيا والهادي.
خبراء أشاروا إلى أن هذا التحرك يأتي لمواجهة النفوذ الصيني في المنطقة، لافتين إلى أن نشر أي أسلحة من هذا النوع سيستغرق سنوات، لكن من المتوقع أن تجري الولايات المتحدة في الأسابيع القليلة المقبلة اختبارات لإطلاق صواريخ كروز من البر.
وكان مسؤوليون أمريكيون حذروا في وقت سابق من أن بلادهم باتت في موقف ضعيف بسبب نشر الصين صواريخ متطورة على نحو متزايد يجري إطلاقها من البر وعدم تمكن البنتاغون من مضاهاتها نتيجة المعاهدة مع روسيا، وهو الأمر الذي ربما بات خارج السياق بعد قرار الانسحاب.
لم يكن هذا القرار هو الأول من نوعه بشأن توجه إدارة ترامب نحو الانعزالية الدولية متجردًا من العديد من الاتفاقيات والمعاهدات التي وقعتها بلاده، إذ يعد العاشر من نوعه
التحرك الأمريكي أثار حفيظة بكين، إذ أعلنت الخارجية الصينية أن هذه الخطوة هي تجاهل واضح من واشنطن لالتزاماتها الدولية، محذرة على لسان المتحدثة باسم الوزارة من تأثير الانسحاب على الاستقرار والتوازن الإستراتيجي في العالم، وعلى عملية نزع السلاح النووي.
مندوب الصين الجديد لدى الأمم المتحدة تشانغ جون، علق على هذا القرار بقوله إن بلاده ترفض أن تتخذها الولايات المتحدة حجة لتبرير انسحابها من معاهدة التخلص من الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى، موضحا أنه لا يمكن المقارنة بين التزامات بكين والدول الأكثر تسلحا.
وفي المجمل لم يكن هذا القرار هو الأول من نوعه بشأن توجه إدارة ترامب نحو الانعزالية الدولية متجردًا من العديد من الاتفاقيات والمعاهدات التي وقعتها بلاده، إذ يعد العاشر من نوعه، حيث كانت البداية في 23 من يناير 2017، بعد أيام قليلة من تنصيبه، حين انسحب من اتفاقية الشراكة مع دول المحيط الهادئ، ثم من اتفاقية باريس للتغير المناخي في 1 من يونيو من نفس العام وبعدها بخمسة عشر يومًا ألغى الاتفاق الذي وقعه أوباما بخصوص العقوبات على كوبا، ثم في 12 من أكتوبر انسحب من منظمة اليونسكو، ليختتم عامه الأول بالانسحاب من ميثاق الأمم المتحدة العالمي للهجرة في 3 من ديسمبر.
وفي 8 من مايو 2018 كان القرار المثير للجدل حين ألغى الاتفاق النووي الموقع مع إيران ثم الانسحاب من المجلس الدولي لحقوق الإنسان في 19 من يونيو 2018 قبل أن ينسحب من الاتفاق النووي الروسي في 20 من أكتوبر الماضي.