لإثيوبيا سحرٌ خاصٌ وجاذبية متفردة يحس بها كل من يزورها منذ أول مرة، ولذلك قلما تجد شخصًا خرج منها بانبطاعٍ سيء. عندما تهبط طائرة الخطوط الجوية الإثيوبية في مطار بولي أديس أبابا أول ما يسمع المسافر صوت المضيفة قائلة بالأمهرية “كبراتنا كبرا”، وتعني “سيداتي سادتي”، كاستهلالية للترحيب بالقادمين إلى الزهرة الجديدة.
كثيرةٌ هي أماكن الجذب والترفيه في العاصمة الإثيوبية، ولكن هناك منطقة مميزة جدًا تمثل القلب النابض للمدينة وللأسف لم تجد حظًا من تسليط الضوء عليها رغم جاذبيتها للإثيوبيين والزوار على حدٍ سواء، إنها “بياسا” المنطقة التجارية الكبرى التي يمكن تشبيهها بالسوق العربي في العاصمة السودانية الخرطوم ويتشابهان في بعض التفاصيل، إذ أنشأ المستعمر الإيطالي معظم متاجرها ومحلاتها الحاليّة رغم أنه لم يمكث في إثيوبيا إلا 4 أعوام فقط، بينما هناك الجزء الشرقي من السوق العربي في الخرطوم الذي يُطلق عليه اسم “السوق الإفرنجي” نسبةً لأن معظم مبانيه قامت في عهد الاستعمار البريطاني وكانت السوق المفضلة لأبناء الجاليات الأوروبية من يونانيين وأرمن وطليان وغيرهم.
جانب من ساحة بياسا.. أديس أبابا
وتعد بياسا القلب النابض للعاصمة الإثيوبية لموقعها، إذ تتوسط أديس أبابا وإليها تنتهي معظم خطوط المواصلات العامة فترتبط بكل أحياء العاصمة بالحافلات الكبيرة والتاكسي العمومي الأزرق، إلى جانب القطار الكهربائي، كما توجد بها عدد من الكليات الجامعية ولذلك يلاحظ الزائر أن الغالبية العظمى من الموجودين في جادة بياسا من فئة الشباب من الجنسين، ولذلك رسَخَ في الوجدان الإثيوبي أن بياسا تعد المكان المفضل لالتقاء العشاق والمحبين لما تتميز به من جاذبية ولتوافر المقاهي العامة العتيقة والحديثة على حد سواء كما سيأتي بيان ذلك لاحقًا.
سر الاسم
بياسا أو بيازا هي كلمة إيطالية الأصل وتعني الساحة أو الميدان، ويُعتقد أن الإيطاليين من أطلقوا على الساحة الإثيوبية هذا الاسم، خاصة أن من أهم معالم العاصمة الإيطالية روما “ساحة بيازا فينيسيا” التي تقع عند سفح تل كابيتولين، وهي واحدة من أكثر ساحات العاصمة الإيطالية روعةً ومن أهم الأماكن السياحية في روما، وتعد المركز المحوري للمدينة حيث يتفرع منها أهم الشوارع التجارية في العاصمة.
لذلك لم يكن مستغربًا أن يترك الطليان اسم بياسا ليظل مخلدًا في الذاكرة الإثيوبية، إلى جانب سوق ماركاتو الشهير الذي يقع على مقربة من منطقة بياسا، وماركاتو أيضًا هي كلمة إيطالية تعني السوق الكبير.
مركز المجوهرات
تنقسم جادة بياسا في أديس أبابا إلى عدة أقسام، ومن بينها مركز المجوهرات الذي يوجد به عشرات المتاجر المتخصصة في بيع وشراء الذهب والفضة والألماس، ورغم كثرة محلات المجوهرات في هذه المنطقة يجدها الزائر دومًا مزدحمة بالمتسوقين خاصة النساء، فالإثيوبيات كغيرهن من بنات جنسهن مولعات باقتناء الذهب والفضة، ويزداد التسوق والطلب على المجوهرات في أيام المناسبات السعيدة كموسم العطلات الذي تكثر فيه الزيجات، ورأس السنة الإثيوبية والأعياد الدينية لكل الطوائف من مسيحيين ومسلمين ويهود.
شارع المجوهرات في منطقة بياسا
منطقة الملابس والأحذية والحقائب
الأعوام الأخيرة شهدت طفرة إثيوبية هائلة في مجال صناعة الأحذية والحقائب وكل المنتجات الجلدية، وفي جادة بياسا تتنافس عدد من الشركات شبه الحكومية والخاصة في تسويق منتجاتها، فمثلًا تمتلك شركة “أنبسا” مركز مبيعات كبير للأحذية والحقائب الجلدية يقع مقابل مكتب مبيعات الخطوط الجوية الإثيوبية في قلب جادة بياسا، كما يوجد متجر ضخم لشركة “شيبا” على بعد أمتار قليلة من معرض أنبسا، والشركتان توفران لعملائهما من الجنسين الأحذية المتوسطة والفاخرة إلى جانب الحقائب الجلدية ومنتجات أخرى مثل الأحزمة الرجالية ومَحافِظ النقود.
وبالطبع هناك عشرات المتاجر المتخصصة في بيع الملابس والأحذية المستوردة، ففي جادة بياسا كل الخيارات أمام المتسوق، لكن الإثيوبيين بشكل عام يفضلون تشجيع المنتجات المحلية بدافع الشعور الوطني، فضلًا عن جودة المنتج المحلي وأسعاره التنافسية مقارنة بالبضائع المستوردة.
أحد متاجر الأحذية الوطنية في بياسا
معالم تاريخية
تمثل المباني التاريخية أهم معالم جادة بياسا، فمن أبرزها ميدان مينيليك الثاني “ميدان عدوة سابقًا” ومينيليك هو واحد من أعظم الأباطرة الذين حكموا إثيوبيا (1844ـ 1913م) وعلى يده تأسست العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، أما الحدث التاريخي الذي ارتبط به الإمبراطور مينيليك الثاني وبسببه شيد الإمبراطور هيلا سيلاسي تمثالًا للأول، فهو نجاحه في تحقيق نصرٍ حاسمٍ على الإيطاليين بمعركة عدوة الشهيرة (1896م).
وتمثل هذه المعركة علامة فارقة في تاريخ إثيوبيا بوصفها المرة الأولى التي يَهزِم فيها جيش إفريقي قوة أوروبية حديثة، ونشير إلى أن تمثال مينيليك يقع في جادة بياسا الكبرى على مقربة من كاتدرائية القديس جورج والأخيرة واحدة من معالم المدينة البارزة.
فندق تايتو يعد من أقدم فنادق أديس أبابا ومن أشهر معالم منطقة بياسا، إذ تم تأسيسه عام 1905، وهو أول فندق في إثيوبيا على الإطلاق، أسسته الإمبراطورة Taitu Betul ليكون نزلًا لإقامة الضيوف الأجانب وراحتهم. ويقال إن الإمبراطورة كانت على قدم المساواة مع زوجها الإمبراطور مينيليك الذي كان يستشيرها دائمًا قبل اتخاذ القرارات المهمة، وهي التي دفعته لإعلان الحرب على إيطاليا من خلال معركة عدوة. بحسب الروايات التاريخية.
رغم تقادم السنوات ومرور أكثر من قرنٍ على تشييده، لا يزال الفندق صامدًا بمبانيه الأثرية، ويحرص عدد كبير من الزوار الأوروبيين على الإقامة فيه، كما يمثل فندق تايتو ملتقى عصريًا لأجيال الشباب الحاليّ، فالإدارة تسعى لمواكبة ما يحدث في العالم الخارجي، وتقدم كل ما لذ وطاب من الوجبات الغذائية والمشروبات.
زوار أجانب أمام فندق تايتو
ردهة المطاعم والكافيهات
إلى جانب المتاجر الكبرى، تشتهر جادة بياسا في أديس أبابا بكثرة المقاهي العتيقة والحديثة، وهي المكان المفضل للجميع كبار السن والشباب على حد سواء، ففي أزقة بياسا القديمة توجد المقاهي التي شُيدت منذ عهد الاحتلال الإيطالي، هذا النوع من المقاهي يفضله كبار السن بالتحديد لأنه يذكرهم بأيامهم الجميلة يستذكرون فيه أيام شبابهم وكيف كانت أديس أبابا قديمًا قبل أن تدخل عالم التحديث والتطوير.
أما الكافيهات الحديثة فموجودة بكثرة على الشوارع الرئيسية في بياسا تستقبل روادها من فئة الشباب والزوار الأجانب كما تمثل ملتقى لطلاب الجامعات والمعاهد الذين تقع مؤسساتهم التعليمية بالقرب من بياسا.
ولهذا السبب ربما شاعت مقولة أن بياسا المكان المفضل لالتقاء العشاق والمحبين، إذ ارتبطت مقاهيها الحديثة بتردد الشباب من الجنسين عليها، فهي كما ذكرنا تقع في وسط العاصمة ويسهل الوصول إليها من كل مكان، إلى جانب توافر متاجر الذهب والملابس والأحذية والأدوات الكهربائية وكل شيء قد يحتاج إليه المقبلون على الزواج.
أحد مقاهي بياسا
وإلى جانب المقاهي التي تشتهر بها ضاحية بياسا، هناك شارع كامل مخصص لتناول اللحوم الطازجة، يقوم الجزار أمامك بطهي القطع التي تختارها بنفسك ومن ثم تقدم لك مع السَلَطات والمقبلات المحلية، ولكن هناك عادة اجتماعية قد تُعد غريبة للزوار الأجانب، ففي إثيوبيا، تلتقي جميع العرقيات في تناول اللحوم النيئة، ضمن تقليد ما زال راسخًا بالمجتمع، رغم تحذير الأطباء وانتشار ثقافة الوجبات السريعة والعالمية.
فإذا زرت شارع اللحوم في جادة بياسا ورأيت الناس يأكلون اللحوم النيئة لا تستغرب، فقد كان ملوك إثيوبيا وأباطرتها يتناولون هذا النوع من اللحوم التي تعرف بوجبة القُرط أو “دريسيقا” في المناسبات كافة، وهي نوع من اللحوم النيئة المختارة بعناية، يُضاف إليها أنواع مختلفة من البهارات والفلفل الأحمر والمخللات.
معالم حكومية ومؤسسات عامة
أخيرًا نتوقف عند المؤسسات العامة التي تمثل معالم جادة بياسا في العاصمة أديس أبابا ومن أبرزها: رئاسة هيئة الكهرباء التي تقف شامخة بمبانيها العتيقة لتحكي عن عظمة هذا الشعب وحرصه على موروثاته رغم زحف عجلة التطور والنهضة، ومقابل هيئة الكهرباء يوجد المركز الأكبر في أديس أبابا لمبيعات تذاكر شركة الخطوط الجوية الإثيوبية، ويعمل من الثامنة صباحًا حتى الخامسة مساءً يوميًا عدا يوم الأحد.
مبنى هيئة الكهرباء الإثيوبية (يمين) يقابله مكتب مبيعات الخطوط الجوية (يسار)
المَعلَم الثالث والحديث في ساحة بياسا هو محطة المترو التي تربط الجادة بسوق ماركاتو وعدد من أحياء العاصمة، والمترو يلفتنا إلى أن بياسا تجمع بين التاريخ العتيق والحاضر الحديث الذي جاء في أعقاب ثورة النهضة والتطور التي فجرها رئيس الوزراء الأسبق مليس زيناوي وواصل فيها خليفته هايلي ماريام ورئيس الوزراء الحاليّ آبي أحمد علي.
كما توجد في قلب بياسا، سينما “إثيوبيا” العريقة التي أنشأت منذ زمنٍ طويلٍ، وكانت في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي الملاذ المفضل للعائلات والشباب، ما زالت تعمل حتى اليوم رغم منافسة صالات السينما الحديثة الموجودة في إدنا مول وشارع المطار وغيرها.
هناك أيضًا مسجد “بني” الذي يقع على أطراف بياسا بالقرب من سوق ماركاتو الشهير، والمسجد تحفة معمارية رائعة، نال إعجاب كل من زاره، وفي أيام الجمعة والمناسبات الدينية كعيدي الفطر والأضحى يمتلئ عن آخره بالمصلين حتى الساحات الخارجية.
هي جادة بياسا.. المنطقة التي تجمع الكل في أديس أبابا.. الأطفال والشباب والنساء وكبار السن رغم صخب متاجرها وحركة السيارات والمواصلات العامة وازدحام المُشاه، فهي مع ذلك كله القلب النابض والمركز التجاري وملتقى الشباب والفتيات المفضل لكل الأسباب التي أوردناها، وعلى الصعيد الشخصي كنت أزورها دون أي مناسبة كلما اشتد بي الحنين إلى السودان وأزقة السوق العربي، عندها أقصد مقهى عتيقًا في بياسا تنبعث منه الأغنيات السودانية، كي أستمع إلى الفنان كمال ترباس وهو يشدو برائعة السر قدور “الريد يجمع ويفرق” التي يقول فيها:
تسافر كيف وأنا قلبي أسيرك
حبيبي براك ما بعشق غيرك
انت هناي ومصيري مصيرك
سافر…وطَول…وبترجاك