بعد أيام فقط من عودة نوَّاب البرلمان البريطاني للالتئام خلال الأسبوع الأول من سبتمبر/أيلول، وقبل أسابيع فقط من موعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي نهاية أكتوبر/تشرين الأول المقبل، أكد رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون جدولة خطاب الملكة الذي يتضمن الإعلان عن حزمة مشاريع الحكومة السنوية في 14 أكتوبر/تشرين الأول المقبل، ما يعني تمديد تعليق البرلمان البريطاني حتى بعد انتهاء عطلته السنوية كما كان متوقعًا، ومنع عقد جلساته خلال تلك الفترة الحاسمة.
ماذا يعني تعليق البرلمان؟
تعليق عمل البرلمان البريطاني هو آلية رسمية لإنهاء جلسة البرلمان بقرار يصدر عن الملكة حسب نصيحة رئيس الحكومة، وعادة ما يستمر فقط لفترة قصيرة قُبيل افتتاح الموسم البرلماني الجديد وبدء الإجراءات مرة أخرى بخطاب جديد للملكة.
من الطبيعي إذًا أن يحدث هذا كل خريف لجلسة البرلمان الذي تستمر دورة انعقاده عادة سنة كاملة، ولكن الدورة الدورة البرلمانية الحالية استمرت لسنتين، وهي الفترة الأطول منذ حوالي 400 عام، إذ انطلقت عقب الانتخابات العامة التي أجريت في حزيران/يونيو 2017.
يقلص إغلاق البرلمان لأكثر من شهر الوقت المتاح لتمرير تشريعات من شأنها منع خروج البلاد من الاتحاد دون اتفاق إلى حد بعيد
وعندما يُعلَّق عمل البرلمان، لا يمكن إجراء أي نقاشات أو تصويت، كما تنتهي كل مشاريع القوانين والتشريعات التي لم تجد طريقها إلى التصديق. هذا الأمر يختلف عن حل البرلمان، وهو وضع يتنازل فيه النواب عن مقاعدهم من أجل خوض انتخابات عامة.
ولم تتجاوز فترتا المناسبتين الأخيرتين التي علّقت فيهما جلسات البرلمان لأجل خطاب عرش لم يعقب انتخابات عامة 4 أيام و13 يومًا على التوالي، ولكن إذا مضت الحكومة في قرارها الأخير كما هو متوقع، فسيتوقف البرلمان عن العمل لـ 23 يومًا، وللنواب صلاحية الموافقة على تعيين مواعيد عطلة البرلمان، ولكن لا يتمتعون بصلاحية منع تعليق الجلسات.
فهل هذا مجرد إجراء طبيعي؟ هناك عدد من العوامل غير المنتظمة للغاية التي تلعب دروًا ما هنا، فتعليق جلسة البرلمان أكثر من شهر هو أمر غير مسبوق في الآونة الأخيرة. على سبيل المثال، منذ ثمانينيات القرن الماضي، استمرت فترة تعليق البرلمان عادةً لمدة تقل عن أسبوع. ومع ذلك، يشمل التعليق لمدة 5 أسابيع فترة 3 أسابيع عادة ما تكون عطلة على أي حال.
قرار جونسون بتعليق البرلمان في وقت حاسم لمفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يعرقل خصومه
يعني ذلك أن عودة النواب إلى لندن ستكون بعد فترة أطول من المعتاد، ليصبح لدى أعضاء البرلمان أقل من أسبوعين لعقد جلساتهم في البرلمان، وبالتالي يقلص إغلاق البرلمان لأكثر من شهر الوقت المتاح لتمرير تشريعات من شأنها منع خروج البلاد من الاتحاد دون اتفاق إلى حد بعيد، ما يفوّت الفرصة على قادة المعارضة الساعين لعرقلة خطط جونسون والتدقيق في خطط الحكومة الهادفة إلى الانسحاب من الاتحاد الأوروبي دون صفقة، المقرر في الـ31 من أكتوبر/تشرين الأول المقبل.
كان من المقرر أن يعود النواب إلى العمل بعد عطلتهم الصيفية يوم الثلاثاء المقبل، ولكن سيتم تعليق الجلسة البرلمانية – المعروفة باسم “الاختصاص” – في يوم ما بين 9 سبتمبر/أيلول و12 سبتمبر/أيلول، كما كان مقررًا أن ينفك ثانية في الفترة بين 13سبتمبر/أيلول و8 أكتوبر/تشرين الأول لمنح النواب فرصة المشاركة في مؤتمرات الأحزاب السنوية، بحسب ما أكد مجلس الملكة الخاص الذي يتكون من مجموعة من المستشارين للملكة.
ردود فعل غاضبة
كان عدد صغير من كبار الوزراء الذين حضروا الاجتماعات نيابة عن رئيس الحكومة قد وجهوا طلبًا رسميًا للملكة إليزابيث الثانية، متضمنًا الجدول الزمني المقترح لتعليق جلسات مجلس العموم، ورفع الطلب 3 من الأعضاء المحافظين في مجلس الملكة الاستشاري إلى الملكة في اجتماع في مقرها الصيفي في بالمورال في أسكتلندا.
البعض الآخر طالب حتى بتجاهل القرار الحكومي وعقد جلسات البرلمان والدعوة إلى مظاهرات تندد بما وصفوه بJ”تطاول الحكومة على السلطة التشريعية في البلاد
كان هناك بعض الالتباس لأن نواب المعارضة البارزين هم أعضاء في مجلس الملكة الاستشاري، بمن فيهم زعيم حزب العمال جيرمي كوربين، لكن هؤلاء النواب لا يذهبون إلى الاجتماعات الفعلية، فالمجلس يحافظ على عدد مختار من كبار الوزراء، بقيادة رئيس مجلس العموم البريطاني جاكوب ريس موج.
هل يمكن أن ترفض الملكة طلب المجلس الخاص؟ من الناحية الفنية، نعم، وذلك بموجب الامتياز الملكي، ولكن في الواقع، كان من الصعب عليها القيام بذلك. فكتب كوربين الذي طالب بإجراء محادثات مع الملكة بشأن خطة تعليق البرلمان: “كان هناك خطر من أن الامتياز الملكي يجري مباشرة ضد رغبات غالبية مجلس العموم”.
I think what the US president is saying, is that Boris Johnson is exactly what he has been looking for, a compliant Prime Minister who will hand Britain’s public services and protections over to US corporations in a free trade deal. https://t.co/kcg2jkYi0o
— Jeremy Corbyn (@jeremycorbyn) August 28, 2019
It would be a constitutional outrage if Parliament were prevented from holding the government to account at a time of national crisis. Profoundly undemocratic.
— Philip Hammond (@PhilipHammondUK) August 28, 2019
سريعًا توالت ردود الأفعال الغاضبة وعلى رأسها حزب العمال البريطاني أكبر الأحزاب المعارضة، ورأت أوساط المعارضة البريطانية في خطوة جونسون انتهاكًا لدستور البلاد، فقد أعل جيريمي كوربين أن قرار الحكومة ينم عن تهورها وانتهاكها لأسس الديمقراطية في بريطانيا.
بعد قرار جونسون المثير للجدل، غرد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مبتهجًا: “سيصبح من العسير جدًا على الزعيم العمالي كوربين أن يحصل على تأييد لتصويت بسحب الثقة من جونسون، خصوصًا أن بوريس جونسون هو الشخص الذي كانت بريطانيا تنتظره وتبحث عنه”.
تقويم عملية البريكست – المصدر: بي بي سي
في المقابل، رأى مراقبون في القرار أيضًا أمرًا غير مسبوق في الدستور البريطاني، فقد اعتبر رئيس مجلس العموم جون بيركو قرار حكومة جونسون “انتهاكًا للقيم الدستورية”، ومضى بيركو، الذي لا يعلق عادة على الإعلانات السياسية، قائلاً: “كيفما تم تزيينه، فمن الواضح بشكل لا يقبل الشك أن الغرض من وراء تعليق عمل البرلمان هو منع النواب من مناقشة عملية الخروج من الاتحاد الأوروبي ومنعهم من أداء دورهم في رسم مستقبل البلاد”.
بعض النواب الذين أعربوا عن قلقهم من تعليق عمل البرلمان طالبوا بضرورة تكثيف العمل معًا لأجل استصدار تشريع قانوني في الأيام المقبلة لمنع انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي دون اتفاق في نهاية الشهر المقبل. أمَّا البعض الآخر فقد طالب حتى بتجاهل القرار الحكومي وعقد جلسات البرلمان والدعوة إلى مظاهرات تندد بما وصفوه بـ “تطاول الحكومة على السلطة التشريعية في البلاد”، كما حث مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي العاملين في بريطانيا على الاضراب العام في محاولة يائسة لمنع جونسون من تعليق البرلمان البريطاني.
رفض جونسون الادعاءات بأن قراره يهدف إلى منع النواب من التفكير في طرق لإحباط خطط “البريكست” بعد اتهامه بتوجيه “انقلاب” ضد البرلمان، وبرر هذا القرار بقوله: “هدفنا هو استقدام برنامج تشريعي جديد يعالج قضايا الجريمة والصحة والتعليم، ويجب أن نتقدم نحو سن قوانين جديدة ومهمة”، مضيفًا “سيكون هناك وقت كافٍ قبل القمة الأوروبية في الـ17 من أكتوبر/تشرين الأول المقبل للنواب البريطانيين كي يناقشوا “البريكست” والاتحاد الأوروبي ومواضيع أخرى.
خيارات معارضي “البريكست” لمنع الصفقة
عن طريق الإطاحة ببوريس جونسون كرئيس للوزراء، عرض كوربين قيادة حكومة مؤقتة للتفاوض على تمديد للمادة 50 ثم الدعوة لإجراء انتخابات عامة، لكن عرض كوربين بدا غير مستساغ لمعظم نواب المحافظين، الذين يرون أن زعيم حزب العمال يعتبر نفسه السياسي الوحيد الذي يمكن أن يقود حكومة انتقالية، بدلاً من المخضرم في حزب المحافظين كين كلارك أو إيفيت كوبر.
في هذا الشأن، قال النائب عن حزب المحافظين دومينيك جريف، الذي يعارض خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إنه سيتشاور مع نواب مشابهين خلال الأيام القليلة المقبلة قبل عودة البرلمان الأسبوع المقبل، وأشار إلى أن تصويت حجب الثقة أصبح الآن أكثر ترجيحًا، مضيفًا “إذا كان من المستحيل منع خطة تعليق البرلمان، فأعتقد أنه سيكون من الصعب جدًا على الناس مثلي الحفاظ على الثقة بالحكومة، ويمكن أن أرى جيدًا سبب رغبة زعيم المعارضة في اقتراح التصويت بحجب الثقة”.
كان ملوك القدامى يعلقون عمل بالبرلمان لمنع النواب من الوصول إلى أبعد الحدود والتدخل فيما يريد البلاط الملكي فعله
بعد أقل من 24 ساعة من توصل كوربين وغيره من نواب المعارضة إلى اتفاق على أنهم سوف يستخدمون الجهود التشريعية لوقف الخروج دون صفقة، بدلاً من خيار التصويت الفوري بحجب الثقة، يبدو أن نافذة التشريع المحتمل أصبحت أضيق بكثير، فهل سيكون هناك إجراء قانوني لوقف تعليق البرلمان؟
من المتوقع أن تشهد الأيام المقبلة معركة حادة لنسف خطة رئيس الوزراء، وقد بدأ ذلك مساء الأربعاء، حين كشفت الناشطة جينا ميلر – التي برزت للمرة الأولى في عام 2016 عندما رفعت قضية قانونية أجبرت البرلمان على التشريع بأن المادة 50 يمكن الاعتراض عليها – أن محاميّها تقدموا بطلب عاجل إلى المحكمة العليا لإجراء مراجعة قضائية لخطة بوريس جونسون لإثبات حق البرلمان.
I’ve written to the leaders of other political parties and senior backbenchers from across Parliament to lay out my plan to stop a disastrous No Deal Brexit and let the people decide the future of our country. pic.twitter.com/Jz1MjXCrqk
— Jeremy Corbyn (@jeremycorbyn) August 14, 2019
وفي تحدٍ قانوني آخر، أكدت عضوة برلمان المملكة المتحدة جوانا شيري أنها تحدثت إلى فريقها القانوني للحصول على حكم من المحاكم الأسكتلندية لمنع رئيس الوزراء من الذهاب إلى الملكة بطلب تعطيل البرلمان لحين استنفاد جميع الطعون، لكن القاضي قرر عقد جلسة عاجلة للقضية يوم الجمعة 6 سبتمبر/أيلول المقبل، مع إعطاء الطرفين 10 أيام فقط لإعداد حججهم القانونية و4 أيام أخرى لمراجعتها.
عضو آخر من المجموعة التي تضم أكثر من 70 نائبًا وزميلاً وراء هذا الإجراء، وهو النائب في البرلمان البريطاني عن حزب العمل إيان موراي، قال إنهم سيدرسون البحث عن قرار مؤقت – على غرار الأمر الزجري في إنجلترا وويلز – في محكمة الجلسة لمنع الاختصاص.
هل حدث هذا من قبل؟
عندما يلتئم البرلمان مرة أخرى بالتزامن مع حفل الافتتاح الرسمي للدولة، تُلقي الملكة الملكة إليزابيث خطاب العرش التقليدي بعد فترة التعليق، تحدد فيه جدول الأعمال التشريعي للحكومة للدورة البرلمانية القادمة أو بالأحرى تشرح فيه “برنامج جونسون المثير”.
كان ملوك القدامى يعلقون عمل بالبرلمان لمنع النواب من الوصول إلى أبعد الحدود والتدخل فيما يريد البلاط الملكي فعله، فمن المعروف أن الملك تشارلز الأول حاول تعليق أعمال البرلمان في عام 1628 عندما بدأ النواب في التعبير عن معارضتهم له. عندما رفضوا مغادرة القاعة، سجن تشارلز العديد من البرلمانيين البارزين، وحكم عليهم مباشرة بالسجن لمدة 11 عامًا.
لضمان أن تكون الحكومة المؤقتة لأقصر وقت ممكن، يمكن للمجلس أن يحدد أن على رئيس الوزراء تحديد موعد معين لتلك الانتخابات
في الحرب الأهلية الإنجليزية التي تلت ذلك، قاد تشارلز قواته ضد جيوش البرلمانات الإنجليزية والاسكتلندية حتى استطاع قائد الثوار أوليفر كرومول أن يحسم الموقف بصورة نهائية بعقد جلسة خاصة للبرلمان، صدر خلالها حكم بإعدام الملك، لتُقطع رأسه في وايتهل، بالقرب من وستمنستر عام 1649.
منذ ذلك الحين، كان تعليق البرلمان لأسباب سياسية مستهجنًا إلى حد ما، وقد حدث ذلك في عام 1831 خلال الأزمة التي أحاطت بقانون الإصلاح، والذي شهد تغييرات جذرية في الاقتراع وتوسيع الوصول إلى الديمقراطية وتقليص سلطات مجلس اللوردات.
في عام 1948، تم استخدامه من قِبل مجلس اللوردات لمنع سلسلة من القوانين البرلمانية التي قلصت عدد أعضاء مجلس اللوردات من فئة النبلاء بالوراثة. وفي عام 1997، تم استخدامه كمحاولة لتجنب النقاش حول الأموال التي حصل عليها النواب لطرح الموضوعات في مجلس العموم.
أخيرًا، في المملكة المتحدة، ينطوي الأمر تاريخيًا من الناحية التاريخية على أن التغيير الدستوري الأساسي يُطرح على الناس في الانتخابات العامة. مثال على ذلك النقاش المثير للخلاف حول الحكم الذاتي لأيرلندا وتقييد صلاحيات مجلس اللوردات، وهذا يعني أن مجلس العموم سيحتاج إلى إصدار قرار رسمي بأن “هذا المجلس لا يثق في حكومة صاحبة الجلالة”، في إشارة إلى الحكومة التي أنشأها رئيس الوزراء الجديد. هذا من شأنه أن يسمح بإجراء انتخابات مبكرة.
بالإضافة إلى ذلك، لضمان أن تكون الحكومة المؤقتة لأقصر وقت ممكن، يمكن للمجلس أن يحدد أن على رئيس الوزراء تحديد موعد معين لتلك الانتخابات، كما يمكن أن تحقق سلسلة من القرارات ذلك، ولكنها تتطلب جبهة موحدة من المعارضين لتكتيكات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والتكتيكات البرلمانية لتحقيق ذلك في غضون جلسات البرلمان المحدودة للغاية.