عندما خلق الله سبحانه وتعالى هذه الأرض، خلق الإنسان ومعه المرض والشفاء، وأيقنت جميع الحضارات هذه الحقيقة، وانطلقت في البحث عن سُبل الشفاء، فبدأ الناس بالعمل على إيجاد الدواء من الطبيعة التي حولهم، وعملوا على تطوير علم الطب جيلًا بعد جيلِ، وكان لكل حضارة إسهامها العلمي في هذا المجال، والأمة العربية والإسلامية كان لها دور عظيم في هذا المضمار الضخم جدًا.
الطب عند العرب قبل الإسلام
لم يكن الطب عند العرب قبل الإسلام مختلفًا عما هو عند معاصريهم من حيث ارتباطه بالطقوس الدينية والغيبيات والسحر والكهانة لتلبية فطرة البحث عن العلاج عند الإنسان، ويرى بعض المؤرخين مثل الطبيب والمؤرخ أبو العباس ابن أبي أصيبعة في كتابه “عيون الأنباء في طبقات الأطباء” أن سحرة اليمن كانوا أول من وضع أسس علم الطب في الجزيرة العربية.
فقد كانت هناك صلة وثيقة بين السحر والطب، فكان الساحر طبيبًا يداوي مريضه بسحره، وكذلك كان الكهان يداوون مرضاهم بالتضرعات والتوسلات للآلهة، ولهذا كان الطب من أحد اختصاصات الكهان عمومًا في الجاهلية، وفي هذا المجال، يقول المؤرخ العراقي جواد علي في كتابه “تاريخ العرب قبل الإسلام”: “يشير أهل الأخبار إلى ورود بعض الرهبان والشمامسة إلى مكة، وقد كان من بينهم من يقوم بالتطبيب”.
وفي حادثة حدثت مع الرسول – صلى الله عليه وسلم -، حسبما ذكر المؤرخ نجم الدين ابن فهد المكي في كتابه “إتحاف الورى بأخبار أم القرى”، أنه حين أصيب الرسول الكريم بالرمد في عينيه، أخذه جدّه عبد المطلب ناحية عكاظ إلى راهب يعالج الأعين.
ابن أبي رمثة، كان طبيبًا على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم يزاول أعمال اليد وصناعة الجراح، وكان ضماد بن ثعلبة صديقًا للنبي في الجاهلية
أما عن الممارسات الطبية التي شاعت في الجزيرة العربية، كانت عمليات الكي والحجامة والفصد وتضميد الجراح وبتر الأعضاء بالحديد المحمى بالنار، وعلاج الجراح المتعفنة والدمامل بمواد ضد العفونة واستعمال بعض الأدوية ذات الطابع العشبي التي كانت تعتمد على بعض النباتات والعسل، كما استخدم العرب الكحل لتطبيب أمراض العيون كالرمد والمياه السوداء والبيضاء، وقد عولج الإمساك بالحقن واستعمل الزقوم في معالجة الجروح.
تحدث مؤرخون في دراساتهم عن تخصيص العرب مكانًا للطب، وبرز عدد من الأطباء عندهم، لكنه لم يصلنا ما يوثق ذلك إلا بيانات قليلة تتحدث عن بعض الممارسات والفنون التي اكتسبوها من الخبرة البيئية أو الاحتكاك بالحضارات المجاورة عن طريق التجارة أو موسم الحج، وقد برزت عدد من الشخصيات الطبية لكن لم يُعرفوا في التاريخ إلا بعد بزوغ فجر الإسلام.
الطب عند العرب فجر الإسلام
عُرف بعض الأطباء الذين كانوا قبل ظهور الإسلام، وعاش بعضهم إلى ما بعد ظهور الإسلام، كالحارث بن كلدة الثقفي والنَّضْر بن الحارث وابن أبي رمثة التميمي وضماد بن ثعلبة الأزدي، الذين عاصروا الرسول صلى الله عليه وسلم وأدركوا زمانه.
الحارث بن كلدة الثقفي سافر وتعلم الطب في بلاد فارس بمدرسة “جنديسابور” وتمرن هناك، وقيل إنه القائل: “الطب: الأزم، والبطنة بيت الدواء، والحِمية رأسُ الدواء، وَعوِّدوا كل بدن ما اعتاد”، وجاء بالحديث أن سعد بن أبي وقاص مرض في مكة فوصاه الرسول الكريم بالذهاب للحارث وبالفعل عالجه.
ابن أبي رمثة، كان طبيبًا على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم يزاول أعمال اليد وصناعة الجراح، وكان ضماد بن ثعلبة صديقًا للنبي في الجاهلية، وكان يتطبب ويطلب العلم ويداوي من الريح، وكان ابن حذيم من تيم الرباب، من أطب العرب، حتى قيل: “أطب في الكي من ابن حذيم، والشمردل بن قباب، من نجران”.
إن الطب النبوي مبدأه الوحي والإلهام، ذلك الطب الذي فعله وجاء به الرسول الكريم وتأسى به المسلمون من بعده
الطب النبوي
أولى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، الطب أهميته وحث على التداوي، وكان أكبر داعية لصناعة الطب والأطباء في زمنه، حتى صار الطب يُعرف في عهده باسم الطب النبوي، قال صلى الله عليه وسلم: “العلم علمان: علم الأبدان، وعلم الأديان”، أي أن رسولنا قدّم علم الطب على علم الدين.
وكان للنبي محمد تعاليمه الخاصة في التداوي والحمية، كما مارس وحث على الحجامة، وبث في أصحابه نمطًا صحيًا عز نظيره من الاعتدال في كل شيء، وبيان الخصائص العلاجية للأطعمة والأشربة المختلفة، كما أولى اهتمامًا بالعلاج الروحاني المتمثل بالرقية، وتداوى من جراح إصابته في معركة أحد، وأوصى أن ينصب خيمة للممرضة رفيدة الأسلمية إلى جوار خيمته في أثناء معركة الخندق لعلاج الجرحى.
إسهامات أطباء العرب والمسلمين
أبو بكر محمد الرازي
ولد الرازي عام 865 في الري بإيران، وقد برع في عدد كبير من العلوم، بحيث اعتبره المؤرخون والعلماء موسوعة في جميع المعارف، خاصة في الطب والكيمياء والفيزياء، وقد سمي بإمام عصره في علم الطب، وكان الطلاب يتوافدون إليه من أنحاء البلدان طلبًا لعلمه والتلمذة على يديه.
له كتب عديدة أشهرها “المنصوري” في الطب وكتاب “الأدوية المفردة” الذي يتضمن الوصف الدقيق لتشريح أعضاء الإنسان، ويعتبر كتابه “الحاوي” من أشهر كتبه، فقد اعتبر مرجعًا طبيًا قيمًا في حينه، ودرسه طلبة الطب في أوروبا حتى القرن الـ17 الميلادي، أما كتابه “الجدري والحصبة”، فقد اعتبر من الكتب الأساسية للطلبة في الجامعات حتى عام 1617.
امتاز الرازي بمعارف طبية واسعة لم يعرفها أحد من قبله منذ أيام جالينوس، وكان في سعي دائم وراء المعرفة
ومن أهم منجزات العالم أبو بكر الرازي الطبية والعلمية، شرح كيفية الإبصار في العين وفصل ذلك في كتابه كيفية الإبصار، واكتشف بعض العمليات الكيميائية الخاصة بالفصل والتنقية، كالتقطير والتبلور والترشيح، كما أنه أول من ابتكر خيوط الجراحة وصنع المراهم واخترع أداة لقياس الوزن النوعي للسوائل.
الرازي أول من ابتدع نظام “السريريات”، حيث كان يعلق على كل سرير كراس ورقي ويتابع تدوين تطور حالة مريضه والأدوية التي يعطيها له، كما أنه حضر الكحول من السكريات المتخمرة، واكتشف العصب الحنجري في جسم الإنسان، وأسس علم الإسعافات الأولية التي يجب تقديمها في حالات الحوادث المتفرقة، وأولى اهتمامًا بتشريح جسم الإنسان.
تصفه المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه بقولها: “لقد امتاز الرازي بمعارف طبية واسعة لم يعرفها أحد من قبله منذ أيام جالينوس، وكان في سعي دائم وراء المعرفة، عابًا منها كل ما يمكن عبه، باحثًا عنها في صفحات الكتب وعلى أسرة المرضى وفي التجارب الكيميائية”.
علي بن عيسى الكحال
ولد علي الكحال في بغداد، وعُرف في أوروبا باسم “جيزوهالي”، ويُعدُّ مؤسس طب العيون العربي، وأشهر الكحَّالين العرب على الإطلاق وأوسعهم تأثيرًا في المؤلفين المتأخرين، ومارس فروع الطب مع تخصصه في مجال العيون الذي نبغ فيه.
قدم الكحال تصورًا علميًا واضحًا في طب العيون في تسلسل منطقي، في المرض والأعراض والأسباب والعلاج، فوصف التهاب الشريان الصدغي والقحفي والعلاقة بينهما والتهاب الرؤية في مرض الشقيقة، ملاحظًا الصلة بين الشرايين الملتهبة وأعراض الرؤية، وكان أول من اقترح التنويم والتخدير بالعقاقير في العمل الجراحي.
كما أنه وضع رؤية مبدئية فسر بها عملية الإبصار، موضحًا أن الروح الباصر يخرج من العين ليقيس المنظورات، ثم يعود إلى العين ويدخلها ليطبع صورها على الدماغ، وهي خطوة أولى مثَّلت نقطة انطلاق بدأ منها فيما بعد الحسن بن الهيثم، واضعًا يده على أسرار الحقيقة الكاملة لعملية الإبصار.
قدم ابن النفيس مؤلفات وكتب طبية مهمة جدًا للبشرية، أشهرها “كتاب الشامل في الصناعة الطبية” الذي يعتبر أحد أهم الموسوعات الطبية في التاريخ
ابن النفيس
يُعتبر الطبيب أبو الحسن علاء الدين أبي الحزم – الذي عُرف باسم ابن النفيس القرشي -، الذي ولد في دمشق وتوفي بالقاهرة، أحد أشهر الأطباء العرب المسلمين واشتهر بإنجازاته العظيمة في مجال الطب، كما ينسب إليه العديد من النظريات التي يستخدمها العلماء حتى الآن، واعتبروه أهم عالم فيزيولوجي ظهر خلال العصور الوسطى.
تمكن ابن النفيس من التوصل إلى تركيب الرئة وشرح تفصيلي للحويصلات الهوائية والأوعية الشعرية، ومعرفة الدورة الدموية الصغري، الذي يعد أحد أهم اكتشافاته على الإطلاق، كما تمكن من توضيح وظيفة الشرايين الإكليلية وتصحيح مفهوم جالينيوس بشأنها .
استطاع أبو الحسن التوصل إلى أن الهواء يتجدد بواسطة الرئتين، واكتشف أن جدران الأوردة بالرئتين أغلظ من شرايين الرئتين، كما أنه أثبت أنه لا توجد فتحه بين البطين الأيمن والبطين الأيسر، ووضح العلاقة التي تربط بين العين والدماغ .
قدم ابن النفيس مؤلفات وكتب طبية مهمة جدًا للبشرية، أشهرها “كتاب الشامل في الصناعة الطبية” الذي يعتبر أحد أهم الموسوعات الطبية في التاريخ، حيث يشتمل على معلومات مهمة في الطب والصيدلة، مما جعل العلماء يعتبرونه الموسوعة الطبية الشاملة والمكتملة، كذلك “كتاب شرح تشريح القانون” الذي وضح فيه مجموعة من الشروحات المفصلة للتشريح في هذا الكتاب، كما أنه تكلم عن الدورة الدموية الصغرى وشرحها ليكون بذلك أول طبيب يسبق جميع العلماء في اكتشاف وشرح الدورة الدموية.
اخترع أبو القاسم آلة دقيقة للغاية تهدف إلى علاج انسداد فتحة البول الخارجية عند الأطفال حديثي الولادة، مما يسهل مرور البول، وابتكر ووصف عملية القسطرة
أبو القاسم الزهراوي
وُلد أبو القاسم الزهراوي في الزهراء بالقرب من قرطبة في الأندلس، وترجع أصوله إلى الأنصار ويعرف في العالم الغربي باسم Albucasis، يُعتبر من أبرز الجراحين الذين ظهروا في العالم الإسلامي، حيث وصفه الكثيرون بـ”أبي الجراحة الحديثة”، وذلك كونه الواضع الأول لعلم (المناظير الجراحية) وذلك باختراعه واستخدامه للمحاقن والمبازل الجراحية، التي يقوم عليها هذا العلم.
إن الزهراوي قام بالفعل بتفتيت حصوة المثانة بما يشبه المنظار في الوقت الحاضر، إلى جانب أنه أول مخترع ومستخدم لمنظار المهبل، واخترع العديد من الأدوات الجراحية التي تساعد في علاج الحلق والأذن، وكان أول عالم يتحدث عن الأنواع المختلفة لأنابيب البذل.
إن إنجازات أبو القاسم كثيرة، فهو أيضًا أول طبيب يقدم على استخدام خطافات مزدوجة في العمليات الجراحية، فيما ابتكر طريقة لعلاج الثؤلول من خلال استخدام أنبوب حديدي ومادة كاوية، وهو أول من توصل إلى طريقة ناجحة لوقف النزيف من خلال ربط الشرايين الكبيرة، واخترع آلة تهدف إلى استخراج الجنين الميت، كما أنه أول من استخدم آلات خاصة بتوسيع عنق الرحم.
كما أنه شرح ماهية الحمل المنتبذ وهو الحمل خارج الرحم، ووصف الحقنة الشرجية والحقنة العادية والملاعق الخاصة لخفض اللسان وفحص الفم ومقصلة اللوزتين، وشرح العملية التي يتم بها قلع الأسنان بلطف، وكذلك شرح أسباب كسور الفك خلال عملية القلع.
العرب والمسلمون سبقوا الأمم المعاصرة لهم في علوم كثيرة، وقدموا اختراعاتهم وإسهاماتهم التي يعود لها الفضل في الكثير من المجالات التي توصلنا إليها اليوم
اخترع أبو القاسم آلة دقيقة للغاية تهدف إلى علاج انسداد فتحة البول الخارجية عند الأطفال حديثي الولادة، مما يسهل مرور البول، وابتكر ووصف عملية القسطرة، واخترع الأدوات الخاصة بها، كما أجرى العديد من العمليات الصعبة المتعلقة بشق القصبة الهوائية التي أحجم العديد من الأطباء قبله عن إجرائها مثل ابن سينا والرازي بسبب خطورتها.
هؤلاء بعض أشهر الأطباء العرب والمسلمين الذين قدموا إنجازات هائلة للبشرية في المجال الطبي، وهناك غيرهم من العظماء الذين تتذكرهم كتب التاريخ الطبية وتكن لهم كل التقدير كابن سينا وابن القف ورشيد الدين الصوري وابن البيطار الأندلسي وأحمد بن أبي الأشعث وغيرهم.
العرب والمسلمون سبقوا الأمم المعاصرة لهم في علوم كثيرة، وقدموا اختراعاتهم وإسهاماتهم التي يعود لها الفضل في الكثير من المجالات التي توصلنا إليها اليوم، أهمها المجال الطبي، وبالفعل كانت الجامعات العربية مفتوحة أمام وفود طلبة الأوربيين الذين قدموا من بلادهم لطلب تلك العلوم، وكان ملوك وحكام أوروبا يأتون لبلاد المسلمين طلبًا للعلاج في مشافيهم، حسبما ذكر الكثير من المؤرخين.